فصل من رواية “الحياة السريّة لسكان مطبخ نعمة”

الحياة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

العدوان الثلاثي على المطبخ

شيماء هشام سعد 

«جميع الأسر السعيدة تُشبه بعضَها،

لكن كلَّ أسرة شقية تكون شقيةً

بطريقتها الخاصة»

ليو تولستوي

لم يكن الخراب قد بدأ منذ ذلك اليوم، في الواقع كانت بدايته قبل ذلك بكثير، أستطيع الزعم أن السيدة الثانية جلبت معها الخراب إلى هذا البيت، لأن امرأة في مثل إهمالها لا يُمكن تصور ذهابَها إلى مكان، وإن يكن جنة على الأرض، دون أن يكون خرابه مسألة وقت.

ركِّزي معي أيتها الطفلة! لا، ولا اليوم أيضًا ستسمعين وصفة، لماذا؟ لأن السيدة الثانية لم تكن تجيد الطبخ، هلَّا ركزتِ معي قليلا؟ لا أدري لمَ أنتِ كثيرة التشتت اليوم!

كان الخراب رابضًا إذًا مثل سوس ينخر شجرةً بسريةٍ وخفاء، بداية ظهوره كانت مع سقوط الأطباق الثلاثة، ثم توالت الكوارث مرورًا بتهشُّم الخلاط، وكلتا الكارثتين بسبب نهمها للشراء وتكديس الأشياء في المطبخ دون لزوم، مرورًا بإفلاس زوجها وخلو مطبخها مما يُطبخ، وذلك بسبب إسرافها وهدرها الطعام في صندوق القمامة، وصولا إلى التخلص من الموقد القديم رغم أنه كان يمكن تصليحه واستخدامه، وذلك الرحيل القسري استجلب عليها ويلاتٍ كثيرة فيما بعد، ويلاتٍ لا يمكنك تخيلها أيتها الطفلة، ستفهمين ذلك جيدًا إذا كففتِ عن محاولة نزع مُشمَّع الأرضية وركزتِ انتباهكِ معي.

آخر مظاهر الخراب كان العدوان الثلاثي على المطبخ، حدثت تلك الكارثة في الثالث من يوليو الماضي، أي قبل ثلاثة أشهر من الآن، صحونا ذات صباح باكرٍ على صوت قرض لوح الخشب السميك الذي كان يغطي الفتحة فوق نافذة المطبخ، صوت قرض عنيف لم يستمر معه اللوح في الصمود لأكثر من عشر دقائق سقط بعدها ليترك المطبخ مشاعًا للفئران، كانوا عشرة، أحجامهم كبيرة إلى حد مخيف ورائحتهم مُقبضة، دخلوا المطبخ دفعة واحدة فأشاعوا الذعر والفوضى، وطوال ساعتين ظلوا يذرعون المطبخ جيئة وذهابًا كأنما يستكشفون الموارد المتاحة، والتي لم تكن كثيرة بعد الإفلاس الأخير بطبيعة الحال، بل يمكن القول إنه لم تكن هناك موارد أصلا، إلا إذا استثنينا بعض الحبوب التي كان السوس قد غزاها في ضلفة المؤونة بالخزانة، أما المُحتل الثالث فقد كان الصراصير، أسراب كبيرة من الصراصير احتلت أسفل الأجهزة وحوض الجلي والحمام، كانت الخزانة آرو تصرخ منذ اكتشفت السوس في داخلها في أكياس الحبوب القليلة، وكانت نازلي تبكي مذعورةً وكاتمةً صوتها لاعتقادها أن أي صوتٍ يصدر منها قد يجعل الصراصير التي تتجول تحت قاعدتها تُعاقبها باحتلال داخلها.

كان المطبخ غارقا في الفوضى والهلع، لكن ما أدى إلى الانهيار التام كان دخول الفئران ذلك الدخول الكارثي المُريع، لقد كان منظر المطبخ وهم يتجولون فيه، أولئك العلوج المحتلين، فظيعًا أيتها الطفلة، فئران كبيرة وسمينة يتجولون بحثًا عن غنائم كما يتجول جنود المُحتل بأسلحتهم في أرضٍ مباحة، كنا نشعر ساعتها أننا ذلك الوطن المحتل، تلك الأرض المباحة، تلك القلعة التي فُتحت أبوابها للعدو بخيانةٍ داخلية.

جميع الفئران كانوا يركضون بسرعة، إلا فأرًا واحدًا، كان أكبرهم، كان يتمشى بخيلاء وغرور، يمشي الهوينى وكأنه لم يجئ إلى هذا المطبخ للبحث عن طعام لسدِّ جوعه، وإنما للاختيال والاستعراض لقضاء حاجة في نفسه.

صعد المنضدة راحة التي كتمت أنفاسها بذعر دون أن تجرؤ على إطلاق صرخة واحدة، وحين استقر فوقها وقف على قدميه الخلفيتين، شمخ برأسه لفوقٍ وفتل شواربه، مسح المطبخ بنظرة متفحِّصة ثم قال باحتقار:

«هذا هو إذًا!»

لم ندرِ ماذا يقصد، لكن أحدًا منا لم يُقدم على سؤاله، فجال بعينيه جولةً أخرى في المكان ثم أردف:

«هذا هو المطبخ المغرور الذي طُرد منه جدي الثالث»

لم يفهم أيٌّ منا شيئًا، ويبدو أنه كان ينتظر منا أن نسأله عما يعنيه كلامه وأن سكوتنا استفزه، فصاح بغضب:

«قبل عشر سنين طردتم جدي الثالث من هنا، شتمتموه بأقذع الشتائم وأقفلتم في وجهه الأبواب، احتقرتموه ونظرتم إليه شذرا، قبل عشر سنين، ها أنا أعود الآن بعد كل هذا الوقت، ولست وحدي، بل عدت مع جنودي الضِّخام، ها أنا أحقق أمنيتك يا جدي الأكبر وأدخل المطبخ الذي طُردت منه، أقتحمه وأقف في وسطه وقوف القادة المظفرين!»

سكت برهةً ونقَّل بصره فيما بيننا ثم أردف بصوت أقل حدة:

«هل نخر الصدأ ذاكرتكم أيها الحمقى؟ لماذا تنظرون ببلاهة هكذا؟ هل عشَّش العنكبوت في رؤوسكم الغبية؟»

نظر بعضنا إلى بعض محاولين تبادل الأفكار فيما بيننا بصمت، لكنه شتت نظراتنا إلى بعضنا حين صرخ فينا فجأة بصوت يرعد:

«أنا الحفيد الأصغر للفأر الذي دخل مطبخكم هذا قبل عشر سنين، الفأر الذي رأيتموه هنا لليلتين متتاليتين فشتمتموه واحتقرتموه ثم طردتموه في الليلة الثالثة، الفأر الذي قلتم له أنه مُحتلٌّ قذر ولن يُغير أي شيء يقوله من تلك الحقيقة»

تذكرناه جميعا في تلك اللحظة، الفأر الذي وقف هنا ذات يومٍ بخيلاء وبجاحة لا تمثل نصف خيلاء وبجاحة هذا الحفيد العلج، بعد كل تلك السنين!

«جدي الأكبر العزيز لم ينسَ ما لحقه منكم من إهانة، حاول مئات المرات بعد تلك الليلة أن يدخل المطبخ مرة أخرى وينتقم منكم جميعا، لكنه لم يستطع تحقيق أمنيته، فورَّثها لابنه الأكبر، وورثها ابنه لابنه حتى وصلت إليَّ، لقد اصطحبني أبي إلى هنا أكثر من مرة قبل أن يموت، وقفنا على الناحية الأخرى في الخارج وحكى لي الحكاية كلها، حكى لي محاولاته الكثيرة لتحقيق أمنية جده بالعودة دون أن ينجح في فعلها، وأوصاني إذا لم أستطع أن أحققها فلأُورِّثها لابني الأكبر ليُحاول من بعدي، وها أنا نجحت أيها الحمقى»

نظرنا إليه بقرف وقالت الخزانة آرو باستياء ممزوج بالتقزز:

«علامَ تتفاخر أيها الفأر القذر؟ إن رائحتك المُقرفة تملأ المكان، فما الذي تفخر علينا به الآن وتشد قامتك وتزهو بنفسك؟!»

رد الفأر وهو يضغط على أسنانه:

«أيتها الخزانة العجوز الخَرِفة، أيتها الخزانة، أنتِ بالذات سترين ما أفخر به حين أقرض خشب مؤخرتك بنفسي، سوف ترين!»

أُصيبت آرو بالغثيان لكنها تمالكت نفسها وقالت بجَلدٍ تتحداه:

«أيها الفأر القميء القذر، إنني خزانة صلبة من خشب الآرو، أكسر أسنانك القذرة ولا تستطيع أن تقضم مني نشارة»

استشاط الفأر غضبا ولم يُفلح في كبح غيظه، لكن غسالة الملابس عاجلته قبل أن يرد فقالت:

«هل جئت إلى هنا فقط لتحقق أمنية جدك باقتحام المطبخ الذي طُرد منه؟ ها قد فعلت، انقشع من هنا وفكر في طريقة تُخبر بها جدك الهالك الذي لم ترَه أنك حققتَ أمنيته المثيرة للسخرية، هيا انقشع!»

صرَّ الفأر على أسنانه وقال بغيظ:

«أنتِ أيضًا ستتعلمين كيف تتحدثين إلى أسيادك أيتها الغسَّالة المتهالكة!»

ضحكنا جميعا فأثار ضحكنا غضبه أكثر، وقالت حمالة الصحون:

«انظروا إليه يا أصدقاء، انظروا إلى هذا الضئيل القذر، إن أحدًا منا لو أطبق عليه لأخرج أمعاءه، لكن هل سمعتم ماذا قال؟ لقد قال أنه سيدنا! يا لهذه الجرأة المضحكة!»

أوشك الفأر أن يرد لكن الثلاجة نازلي لم تترك له فرصة، وكان غضبها قد غلب هلعها فقالت موبخة:

«هل جئت إلى هنا لتجعل من نفسك أضحوكة بتبجُّحك هذا يا ذا الرائحة العفِنة؟ لماذا لا تنقشع محتفظًا لنفسك بالقدر الضئيل المتبقي لك من احترامك لنفسك؟ انقشع بوهمك عن نفسك وجنون عظمتك قبل أن نجعلك لا ترى نفسك أكثر من مجرد فأر قذر مُقرف»

«وأنتِ أيضًا أيتها الثلاجة الحمقاء» قال الفأر متصنعًا البرود كأن شيئًا من كل تلك الإهانات لم يؤثر فيه، توقف هنيهة يُمسِّد ذقنه كأنه يفكر في طريقة لعقاب عبيد تجاوزوا الحد، ثم قال كأنما يصدر حكما:

«سوف ترون ما سأفعل فيكم أيها البلهاء، سأنتقم لجدي منكم، وسأجعلكم تندمون على كل كلمة قلتموها في هذا الصباح المشؤوم»

ردت الغسَّالة نظيفة بحنق:

«لا مشؤوم غيرك أيها القذر، ولسوف تُطرد من هنا ذليلا كما طُرد جدك قبل عشر سنين»

ضحك الفأر ضحكة كريهة أظهرت أسنانه المسودة وقال ساخرًا:

«أأنا الذليل؟ بحالكم هذه وتنعتونني أنا بالذليل؟ كيف والحال أنني اقتحمت عليكم مطبخكم فلم تستطيعوا لي دفعًا ولا منعا؟ لقد ترديتم إلى وضع يثير الشفقة، انظروا إلى ما أصبحتم عليه، انظروا إلى حال هذا المطبخ الخَرِب، انظروا إلى تراكم الأوساخ على الجدران والأجهزة وتراكم طبقات التراب على الخزانة والأسطح، لقد احتلَّكم من قبلي السوس والصراصير فهل قابلتموهم أيضًا بهذه الكبرياء الكاذبة؟»

آلمنا كلامه لكننا تماسكنا محاولين ألا نُظهر له ضعفًا يتشفَّى به، ضحك ضحكات مجلجلة ثم أكمل:

«هل تعرفون النصيحة التي كان يتوارثها أجدادي مع الوصية؟ لقد كان الأب عندنا يقول لابنه: لن تستطيع أن تقتحم البيت وهو قوي، انتظر لحظة الضعف لتصنع ثغرًا وتمر، وإن لحظة ضعف أي بيت هي تفكك شمل أهله بإهمال المرأة التي فيه».

«آه أيها المطبخ البائس» قال الفأر بشفقة مفتعلة وهو يمسح بكفِّه الغبار عن سطح المنضدة ثم قال:

«لقد دخلنا مطابخ بيوت كثيرة، ولكي نقتحم أي بيت كان علينا أن ندرس العائلة التي تُقيم فيه، لا يمكنكم أن تتخيلوا حجم خبراتنا عن بيوت البشر وحيواتهم وعلاقاتهم، عن قوتهم وضعفهم، يظن البشر أنهم أذكى منا، وتظنون أنتم أننا مجرد حيوانات قارضة قذرة لا يمكنكم سوى الاستخفاف بها، لكن لا أنتم ولا البشر يمكنكم تخيل ذكائنا وقدرتنا على فهم البيوت التي ندخلها وتلك التي تستعصي علينا، يكفي أن أقول لكم أننا اكتشفنا، من خبراتنا الطويلة في اقتحام واحتلال البيوت، أن كل الأسر السعيدة متشابهة، كل الأسر القوية يُشبه بعضها بعضا، لأن أسباب القوة واحدة متى ما حققتها أسرة استحال علينا أن ننفذ إليها، أما الأسر التعيسة، الأسر المفككة والفاشلة، فلا تُشبه واحدة منها الأخرى، ولا تُشبه الثغرة التي نتسلل منها إلى أحد البيوت الثغرة التي نتسلل منها إلى بيت آخر، بعضُ البيوت تكون ثغرته غياب الزوج الذي يُحصِّن البيت، وبعضها تكون ثغرته إهمال الزوجة وعدم أهليتها لتكون ربة بيت، وبعضها تكون ثغرته فجوة بين الزوجين نتسرب منها مع التفكك، وهكذا ترون، إن الثغرات قد تكون فساد الزوج أو فساد الزوجة أو فساد العلاقة التي تربطهما معا، ولا يُشبه فساد زوج فساد آخر، ولا فشل علاقة فشل أخرى، لكل أسرة تعيسة كما قلت طريقتها الخاصة»

زفرت الخزانة آرو وقالت:

«هل علينا أن نأخذ الحكمة من أفواه الفئران؟»

فرد عليها الفأر بثقة وبابتسامة بغيضة:

«إذا كان الموضوعُ خرابَ البيوت فنعم أيتها الخزانة؛ خذي الحكمة من أفواه الفئران»

أجال بصره بين الجميع ثم أردف:

«أنتم مثلا، مطبخكم البائس هذا الذي لا تزالون تزهون به وتطردونني منه كأنه الجنة، لم أدخله مع أعواني إلا عندما أهداني خراب زواج سيدتِه الثغرةَ التي أدخل منها؛ إذ لو لم تكن مهملة لانتبهت لتخلخل خشب الفتحة وضعفه ولاستعانت بزوجها على تحصين المطبخ، إنني هنا الآن وسأُذيقُكم ما يخطر وما لا يخطر على بالكم من صنوف العذاب بسبب تلك المرأة، لتكن قلوبكم مستعدة لبدء الخراب والفوضى»

تعالت صيحات الاستنكار والشتائم، لكن الفأر أسكتها بصرخة رهيبة شقَّت جو المطبخ:

«أيها الفئران الأعوان، اجتمعوا حالا!»

فاصطف تسعة فئران أسفل المنضدة أمامه في الحال، وزَّع الأدوار عليهم بصرامةِ وخيلاءِ قائد في أرض معركة، ثم أعطاهم إشارة الانطلاق فانطلقوا يعيثون في جميع أرجاء المطبخ نهبا وفسادا!

آهٍ أيتها الطفلة، كيف أصف لكِ! لقد أُنهكنا طوال خمسة أيام، هي الفاصل الزمني بين اليوم الأول للفئران في المطبخ وعودة الشقة إلى ملكية صاحبها ليطرد الفئران ويحاول إصلاح ما يمكن إصلاحه، لكننا خسرنا كثيرا في تلك الأيام الخمسة، خسرنا أشياء كسرتنا خسارتها وأفقدتنا أي قابلية للتسامح مع من تسبب لنا في كل تلك المآسي.

لقد كانت تشحننا الكوارث والمآسي المتتالية ضدها، كانت تحشو قلوبنا بالكره والغضب، أردنا أن نصرخ في وجهها، أن نتمرد عليها، أن نفضحها أمام زائريها، أن ننغلق أمامها ونُصعِّب عليها أصغر فعل بسيط تحتاج إليه في المطبخ، وطوال أسابيع فعلنا ذلك كله، وما كان ما حدث ليحدث لو أنها اعتدلت بعد كل ذلك، غير أنها استمرت على إهمالها بعناد ثور أحمق، لم ترَ الكوارث الممكنة، لم يشعر قلبها بالكارثة الكبرى التي تُقبل عليها، لأن قلبها كان مغلَّفًا بغشاوة من عدم المبالاة والعناد والتسخط.

تسألينني ما الكارثة الكبرى التي حدثت لها، لا ليست احتلال الفئران للبيت، ما حدث كان أفظع من ذلك، ليس هذه المرة، أخبرك غدا.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية مصرية، والرواية تصدر عن دار المعرفة، معرض القاهرة الدولي للكتاب 2023 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون