صانع المحبة

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

يا من غدوتُ به في الناس مشتهرا

                                 قلبي عليك يقاسي الهم والفكرا

إن غِبت لم ألق إنساناً يؤنسني

                               وإن حضرتَ فكل الناس قد حضرا *

في دلال تستسلم بين يديه قطعة نحاسية مستديرة، قُطرها لا يتعدى السنتيمتر ونصف، يضغط بأطراف إبهاميه ليتأكد من "استواء" الوجه الدائري، في تركيز تام يتناوب الأدوات الراقدة في انتظار تلبية نداءاته على المنضدة الخشبية العتيقة التي لازمته عدة عقود، حتى بات وجهها كلوحة سريالية أبدعتها آثار "الطرق" والنقر، وشوائب "السنفرة" لتكون شاهدة عيان على عصارة فنه وروحه. في انتظام يرص أدواته،المطارق بأحجامها المختلفة، والمسامير المعدنية بنقوشاتها الجاهزة للحفر والنقش، وعصا لتحديد قياس محيط الخواتم. اعتاد العمل في تلك الساعة،كما اعتاد صبيته على عدم الاقتراب منه أثناء عمله،مهما طالت مدة اعتكافه،وحتى إن اقترب أحدٌ منهم فلن يشعر ولن يستجيب لأية نداءات، كالمعتكف في محرابه وصلاته.

كنقاش عثماني يسحره ويذوبه المعدن الأصفر،يشكله ويطوعه بحسب ما تمليه عليه نغمات روحه، يشعر بأن قلبه بين يديه، وعينيه، تختلط دقاته بطرقات المطرقة، فلا يعرف أيهما الأكثر طرباً،يجلي قلبه من شوائبه كما يسنفر وجه القطعة المعدنية، ورذاذها يلتصق بأطراف أصابعه حتى حدود قلبه فيلونه ويدلله بلمعانه، يخبر الجميع أنه نبياً ورسالته منقوشة على لوح محفور بمسمار فولاذي عتيق، ينتصب خاشعاً ينقش الحروف المنمنمة على الوجه المعدني. للكلمات أنينها وصدقها، يودعها بين أطراف قطعته ككنز ثمين داخل خزانة خشبية قديمة.

اقترب من عقده الستين، وضعف البصر وتآكلت حواف الأصابع من أثر الحفر والدق والأدوات المعدنية، لم يعتد ارتداء القفازات الحامية، يراها تعوق الحميمية بينه وبين المعدن الأصفر، كحجاب سخيف. ولكن تطاوله وعناده أجبراه على التخلي عن المشاركة بعمل الطلبيات التي تأتيه لصنع الثريات أوالأطباق المزخرفة والأباريق والشمعدانات الأكثر سخاءً في مردودها المادي، واكتفى بالإشراف على صبيته الذين علمهم أصول الصنعة، ولكنه لم يتحمل أن يحرم كذلك من عادته الأثيرة وهي نقش وصنع الخواتم النحاسية.

كان يرى أنه لا متعة تعادل حفر كلمة أو عبارة ومنحها لحبيب أو صديق، الصدق وحده يبقى للأزل، كما هي عباراته التي يختارها بعناية،تربت ككف حنون على قلب حزين، ورغم محاولات صبيته الملّحة لإقناعه بالامتناع عن هدر صحته وموهبته في الخواتم التي لا يحتاج مردودها لكل هذا العناء، ولكنه كان يأخذ الأمر على محمل الجد، لا يصنع الكثير من الخواتم، ولا يختار لها كلمات اعتيادية، يستضيف على رفوفه الحلاج، وابن عربي والرومي، يبحث بين مأساتهم وأشعارهم وصوفيتهم عن العبارات المختارة، كما يختار من يهبه إياها، يذكر أن الصدق للصدوق، يبحث داخل القلوب عن أختامها، ويرى في الخاتم بصمة تليق بالشخصية كرتاج يفتح أسرار سرادبها.

أكانت تلك فلسفة أوحكمة؟ أم كانت لعنة أصابته منذ عقود،حينما لم تفلح التعويذات أوالأحجبة لفك شفرة ما أصابه من سحر، فاكتفى بالتكفير عن خطيئته وتذكر أن "الحواس تزني"، وعيناه لم تحفل بعاقبة "فعلها"فبقي عقوداً أسير لعنته.

تلك اللعنة التي أصابته حينما رآها ذات صباح من خلف مشربية المنزل العتيق،التي اعتاد التعلق بنقوشاتها وعناقيد زهورها الخشبية، حيث يحب أن يجلس خلفها وقت راحته أو قبيل موعد فتح الدكان بقليل، يتأمل الحي القديم قبل أن يتحول لمزار سياحي، تتعلق عيناه بالعبارات المرسومة بخط فارسي رقيق، ويتعجب لعاشق يكشف وجده ويعلنه: فكتب لعشقه الخلود:

أيحسب الصّبّ أنّ الحبّ منكتم ... ما بين منسجم منه ومضطّرم

لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل ... ولا أرقت لذكر البان والعلم

فكيف تنكر حبّا بعد ما شهدت ... به عليك عدول الدّمع والسّقم **

حينها وقعت عيناه عليها كأميرة آتية للتو من حكايات ألف ليلة وليلة، تتدثر بعباءة كتانية مزخرفة بالخيوط المذهبة والملونة بالأحمر والأزرق، ووجه صبوح ورأس معقودة جديلته للخلف،وقدم تخطو في خف مرصع بالخزف والدلال، وفي يديها تحمل ألواح ورقية كبيرة تبدو كالمنوم المغناطيسي وهي تتنقل بين أزقة الحي القديم، تملأ رئتيها بعبق الجمال والحنين، يتابعها من الشرفة المعقودة من الخشب العزيزي القديم، حتى تختار مقعدها قبالة المسجد الكبير،تتعلق عيناها بالمئذنة المربعة الممتدة للسماء كأيدي درويش، حتى حدثته نفسه أنها أميرة تليق بالتعلق بالعلا.

عاد لدكانه مع إنتهاء فترة راحته، وقلبه معلق بفتاته، حاول دون جدوى التركيز في طبق النحاس بين يديه، وحينما رفع رأسه، وجدها أمامه بابتسامة رائقة، تقلب عينيها بين الصحون المزخرفة، والشمعدانات، والأباريق، والثريات المتدلية، سألها إن كان عجبها شيئاً، فأخبرته أن النحاس عشق قديم، ولكنها تكتفي منه "بالخواتم"،فداعبها "إن رسمت له لوحة، سيصنع لها واحداً"، ردت طلبه بالقبول،وعدته بالعودة وتلبية طلبه.

تعلق الهوى بقلبه، حتى كاد أن يعصف به، طاوعته نفسه على ملاحقتها حتى خرجت من البوابة الكبيرة تجرها تعويذة محبته لحفظها ولتفي له بوعدها. ظل ساعات يبحث عن كلمات تليق بقلبه يصب فيها وجده، فلما وجدها اعتكف في ورشته ليفي بوعده لها، اختار قطعة دائرية مموجة تشبه تنورة الصوفي، وأودعها ترنيمته: "الله تَوحُد"....."ابن عربي"

حضرت أيام عدة،تجلس على الرصيف قبالته، تبدأ الحديث بطلبها بمواصلة عمله، ولكن هيهات له، فحضورها غلب مادونه، بين يديه طبق نحاسي بوجه أملس، فور خروجه من الفرن، وبعد تطهيره يبدأ بالحفر، حدثها عن أدواته والاختيار بين نماذج النقش التي ورثها عن والده، نماذج ورقية، وأخرى قوالب خشبية، بعضها يعود لقرون مضت، عن مراحل النقش المتعددة، وعن البكوات من زبائن والده، وعن القصور التي تزينت أرجاؤها بنقوشاته، عن عشق والده للنحاس وتحفه التي انتجها، وكيف تعلم الخط العربي لإنتاج نقوشات خاصة به، عن الزخرفة العثمانية وتداخلات الزهور والأشكال الهندسية.كسيل تدفق حديثه لعدة أيام متواصلة، وكفيضان النهر لم يستطع التوقف، ولكن انقطع وصاله كما يتوقف المطر دون سابق إنذار بانقطاع زياراتها فجأة، انتظرها أيام عدة تلاها بأسابيع حتى تيقن من رحيلها دون أن تتم لوحته ودون أن يهبها هديتها التي أنهاها في اليوم الأول دون إبلاغها حتى تواصل المجئ.

مرت سنوات وعقود ظل باقياً على وعده، محتفظاً بخاتمها لا يبيع هديتها مهما جاءته من عروض الشراء، وحينما أضناه الشوق، أغلق سره كحبة لؤلؤ داخل صندوق مرصع بالصدف، وتقديساً لمحبته أو حتى تكفيراً عنها ابتدع هوىً جديداً، فصنع خواتم عديدة، تليق بالمحبة وبالمحبين، جعلها كنذر يوفه لقلوب تقدس الحب، صار يتابع الزائرين ويكتشف كخبير مندل العاشقين بينهم، ويهبهم خواتم تليق بقدسية محبته. ...

لمح اتهامات المجون حيناً والجنون حيناً آخر من صبيته أو عملائه، وحتى مساعده الذي يعمل لديه منذ عقود أربعة يقسم بأغلظ  الأيْمان بأنه لم ير يوماً فتاة تجالسه بمواصفات ما يذكره،مشيراً إلى أن قصته ربما اختلقها لتبرير هلوسته التي يضبط متلبساً في غياباتها وهو يتحدث للخاتم أو يسرد في حضرته بعض أشعار المجذوبين من قبله.

يا سيدي، لا تـُسلِمني إلى نفسي

لا تتـركني مع أيٍّ سواك

لخوفي مٍني، أُسرع إليــك

أنا لــك.. فأعدني إليّ ***

....

في صباح شتوي تدخل إليه بسترة صوفية موشاة بنقوشات تراثية، وبنطال جينز، وجديلتين متدليتين في براءة على جانبي رأسها، وفي يدها ترقد ألواح ورقية عريضة، تتطلع بنظرة مفتوحة على الدهشة لعروضاته النحاسية، تتدفق بالأسئلة عن النحاس وأنواع الأحجار الكريمة، عن الخط المستعمل والزخارف وفروقاتها، ثم تسأله في حياءٍ عما إذا كان تسمح له برسمه، يقلب سؤالها مشاعر الذكرى، ويقبل طلبها، ولكن قبل أن تبدأ عملها يتناول صندوقه الصغير وبأطراف مرتعشة يهديها خاتمه الأثير.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ابن زيدون

** البردة للبوصيري

*** جلال الدين الرومي 

يا من غدوتُ به في الناس مشتهرا

                                 قلبي عليك يقاسي الهم والفكرا

إن غِبت لم ألق إنساناً يؤنسني

                               وإن حضرتَ فكل الناس قد حضرا *

في دلال تستسلم بين يديه قطعة نحاسية مستديرة، قُطرها لا يتعدى السنتيمتر ونصف، يضغط بأطراف إبهاميه ليتأكد من "استواء" الوجه الدائري، في تركيز تام يتناوب الأدوات الراقدة في انتظار تلبية نداءاته على المنضدة الخشبية العتيقة التي لازمته عدة عقود، حتى بات وجهها كلوحة سريالية أبدعتها آثار "الطرق" والنقر، وشوائب "السنفرة" لتكون شاهدة عيان على عصارة فنه وروحه. في انتظام يرص أدواته،المطارق بأحجامها المختلفة، والمسامير المعدنية بنقوشاتها الجاهزة للحفر والنقش، وعصا لتحديد قياس محيط الخواتم. اعتاد العمل في تلك الساعة،كما اعتاد صبيته على عدم الاقتراب منه أثناء عمله،مهما طالت مدة اعتكافه،وحتى إن اقترب أحدٌ منهم فلن يشعر ولن يستجيب لأية نداءات، كالمعتكف في محرابه وصلاته.

كنقاش عثماني يسحره ويذوبه المعدن الأصفر،يشكله ويطوعه بحسب ما تمليه عليه نغمات روحه، يشعر بأن قلبه بين يديه، وعينيه، تختلط دقاته بطرقات المطرقة، فلا يعرف أيهما الأكثر طرباً،يجلي قلبه من شوائبه كما يسنفر وجه القطعة المعدنية، ورذاذها يلتصق بأطراف أصابعه حتى حدود قلبه فيلونه ويدلله بلمعانه، يخبر الجميع أنه نبياً ورسالته منقوشة على لوح محفور بمسمار فولاذي عتيق، ينتصب خاشعاً ينقش الحروف المنمنمة على الوجه المعدني. للكلمات أنينها وصدقها، يودعها بين أطراف قطعته ككنز ثمين داخل خزانة خشبية قديمة.

اقترب من عقده الستين، وضعف البصر وتآكلت حواف الأصابع من أثر الحفر والدق والأدوات المعدنية، لم يعتد ارتداء القفازات الحامية، يراها تعوق الحميمية بينه وبين المعدن الأصفر، كحجاب سخيف. ولكن تطاوله وعناده أجبراه على التخلي عن المشاركة بعمل الطلبيات التي تأتيه لصنع الثريات أوالأطباق المزخرفة والأباريق والشمعدانات الأكثر سخاءً في مردودها المادي، واكتفى بالإشراف على صبيته الذين علمهم أصول الصنعة، ولكنه لم يتحمل أن يحرم كذلك من عادته الأثيرة وهي نقش وصنع الخواتم النحاسية.

كان يرى أنه لا متعة تعادل حفر كلمة أو عبارة ومنحها لحبيب أو صديق، الصدق وحده يبقى للأزل، كما هي عباراته التي يختارها بعناية،تربت ككف حنون على قلب حزين، ورغم محاولات صبيته الملّحة لإقناعه بالامتناع عن هدر صحته وموهبته في الخواتم التي لا يحتاج مردودها لكل هذا العناء، ولكنه كان يأخذ الأمر على محمل الجد، لا يصنع الكثير من الخواتم، ولا يختار لها كلمات اعتيادية، يستضيف على رفوفه الحلاج، وابن عربي والرومي، يبحث بين مأساتهم وأشعارهم وصوفيتهم عن العبارات المختارة، كما يختار من يهبه إياها، يذكر أن الصدق للصدوق، يبحث داخل القلوب عن أختامها، ويرى في الخاتم بصمة تليق بالشخصية كرتاج يفتح أسرار سرادبها.

أكانت تلك فلسفة أوحكمة؟ أم كانت لعنة أصابته منذ عقود،حينما لم تفلح التعويذات أوالأحجبة لفك شفرة ما أصابه من سحر، فاكتفى بالتكفير عن خطيئته وتذكر أن "الحواس تزني"، وعيناه لم تحفل بعاقبة "فعلها"فبقي عقوداً أسير لعنته.

تلك اللعنة التي أصابته حينما رآها ذات صباح من خلف مشربية المنزل العتيق،التي اعتاد التعلق بنقوشاتها وعناقيد زهورها الخشبية، حيث يحب أن يجلس خلفها وقت راحته أو قبيل موعد فتح الدكان بقليل، يتأمل الحي القديم قبل أن يتحول لمزار سياحي، تتعلق عيناه بالعبارات المرسومة بخط فارسي رقيق، ويتعجب لعاشق يكشف وجده ويعلنه: فكتب لعشقه الخلود:

أيحسب الصّبّ أنّ الحبّ منكتم ... ما بين منسجم منه ومضطّرم

لولا الهوى لم ترق دمعا على طلل ... ولا أرقت لذكر البان والعلم

فكيف تنكر حبّا بعد ما شهدت ... به عليك عدول الدّمع والسّقم **

حينها وقعت عيناه عليها كأميرة آتية للتو من حكايات ألف ليلة وليلة، تتدثر بعباءة كتانية مزخرفة بالخيوط المذهبة والملونة بالأحمر والأزرق، ووجه صبوح ورأس معقودة جديلته للخلف،وقدم تخطو في خف مرصع بالخزف والدلال، وفي يديها تحمل ألواح ورقية كبيرة تبدو كالمنوم المغناطيسي وهي تتنقل بين أزقة الحي القديم، تملأ رئتيها بعبق الجمال والحنين، يتابعها من الشرفة المعقودة من الخشب العزيزي القديم، حتى تختار مقعدها قبالة المسجد الكبير،تتعلق عيناها بالمئذنة المربعة الممتدة للسماء كأيدي درويش، حتى حدثته نفسه أنها أميرة تليق بالتعلق بالعلا.

عاد لدكانه مع إنتهاء فترة راحته، وقلبه معلق بفتاته، حاول دون جدوى التركيز في طبق النحاس بين يديه، وحينما رفع رأسه، وجدها أمامه بابتسامة رائقة، تقلب عينيها بين الصحون المزخرفة، والشمعدانات، والأباريق، والثريات المتدلية، سألها إن كان عجبها شيئاً، فأخبرته أن النحاس عشق قديم، ولكنها تكتفي منه "بالخواتم"،فداعبها "إن رسمت له لوحة، سيصنع لها واحداً"، ردت طلبه بالقبول،وعدته بالعودة وتلبية طلبه.

تعلق الهوى بقلبه، حتى كاد أن يعصف به، طاوعته نفسه على ملاحقتها حتى خرجت من البوابة الكبيرة تجرها تعويذة محبته لحفظها ولتفي له بوعدها. ظل ساعات يبحث عن كلمات تليق بقلبه يصب فيها وجده، فلما وجدها اعتكف في ورشته ليفي بوعده لها، اختار قطعة دائرية مموجة تشبه تنورة الصوفي، وأودعها ترنيمته: "الله تَوحُد"....."ابن عربي"

حضرت أيام عدة،تجلس على الرصيف قبالته، تبدأ الحديث بطلبها بمواصلة عمله، ولكن هيهات له، فحضورها غلب مادونه، بين يديه طبق نحاسي بوجه أملس، فور خروجه من الفرن، وبعد تطهيره يبدأ بالحفر، حدثها عن أدواته والاختيار بين نماذج النقش التي ورثها عن والده، نماذج ورقية، وأخرى قوالب خشبية، بعضها يعود لقرون مضت، عن مراحل النقش المتعددة، وعن البكوات من زبائن والده، وعن القصور التي تزينت أرجاؤها بنقوشاته، عن عشق والده للنحاس وتحفه التي انتجها، وكيف تعلم الخط العربي لإنتاج نقوشات خاصة به، عن الزخرفة العثمانية وتداخلات الزهور والأشكال الهندسية.كسيل تدفق حديثه لعدة أيام متواصلة، وكفيضان النهر لم يستطع التوقف، ولكن انقطع وصاله كما يتوقف المطر دون سابق إنذار بانقطاع زياراتها فجأة، انتظرها أيام عدة تلاها بأسابيع حتى تيقن من رحيلها دون أن تتم لوحته ودون أن يهبها هديتها التي أنهاها في اليوم الأول دون إبلاغها حتى تواصل المجئ.

مرت سنوات وعقود ظل باقياً على وعده، محتفظاً بخاتمها لا يبيع هديتها مهما جاءته من عروض الشراء، وحينما أضناه الشوق، أغلق سره كحبة لؤلؤ داخل صندوق مرصع بالصدف، وتقديساً لمحبته أو حتى تكفيراً عنها ابتدع هوىً جديداً، فصنع خواتم عديدة، تليق بالمحبة وبالمحبين، جعلها كنذر يوفه لقلوب تقدس الحب، صار يتابع الزائرين ويكتشف كخبير مندل العاشقين بينهم، ويهبهم خواتم تليق بقدسية محبته. ...

لمح اتهامات المجون حيناً والجنون حيناً آخر من صبيته أو عملائه، وحتى مساعده الذي يعمل لديه منذ عقود أربعة يقسم بأغلظ  الأيْمان بأنه لم ير يوماً فتاة تجالسه بمواصفات ما يذكره،مشيراً إلى أن قصته ربما اختلقها لتبرير هلوسته التي يضبط متلبساً في غياباتها وهو يتحدث للخاتم أو يسرد في حضرته بعض أشعار المجذوبين من قبله.

يا سيدي، لا تـُسلِمني إلى نفسي

لا تتـركني مع أيٍّ سواك

لخوفي مٍني، أُسرع إليــك

أنا لــك.. فأعدني إليّ ***

....

في صباح شتوي تدخل إليه بسترة صوفية موشاة بنقوشات تراثية، وبنطال جينز، وجديلتين متدليتين في براءة على جانبي رأسها، وفي يدها ترقد ألواح ورقية عريضة، تتطلع بنظرة مفتوحة على الدهشة لعروضاته النحاسية، تتدفق بالأسئلة عن النحاس وأنواع الأحجار الكريمة، عن الخط المستعمل والزخارف وفروقاتها، ثم تسأله في حياءٍ عما إذا كان تسمح له برسمه، يقلب سؤالها مشاعر الذكرى، ويقبل طلبها، ولكن قبل أن تبدأ عملها يتناول صندوقه الصغير وبأطراف مرتعشة يهديها خاتمه الأثير.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ابن زيدون

** البردة للبوصيري

*** جلال الدين الرومي 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون