عجائز قاعدون على الدكك

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

 

قصة: الطاهر شرقاوي *

ذبـاب الشتـاء

هش بقطعة جـريد خضراء في يده، الكلبة الحمـراء، منحولة الشعر، الراقدة في بقعـة الشمس، فمشت على مهل وهى تعرج، رافعة رجلها المكسـورة، وأثداءها المتدلية تهتز، وحلمـاتها تكاد تلمس الأرض، حتى وصلت إلى بقعـة الحلفاء على حـافة الترعة، وقفت لبرهة حائرة، ثم رقدت بجوارها، وأخذت تبص عليه في غيظ.

قعد مكان الكلبة، واتكأ بظهره على حافة الكوبري الخرسانية، سحب طرف جلبابه لأعلى، كاشفا عن ساقيه الرفيعتين، الخاليتين من الشعر، مثل عروق السيسبان الناشفة، دلكهما بيديه، أطلق تنهيدة وهو يقول:

ـ شتاء هذه السنة وعر، عجزنا قبل الأوان.

وبطرف شال الصوف القديم، الملفوف حول رقبته، والذي انسلت بعض خيوطه، نش عن وجهه بضيق، ذباب الشتاء العنيد، وأخذ يشكو لنفسه، التي قرفصت بجانبه، الولد البكـري الذي فشل في المدرسة، ولم يفلح إلا في سرقة، بيض الدجاجات السبع، ثروة أمه الشمطاء، ليشترى بثمنه الدخان. رد بسرعة: لا.. لا تدافعي عنه، انه ولد شرير، عاق، يسمعني دوما ـ بصوته الزاعق ـ كلاما  فاحشا، ولا يتحرج في أن يشتمني قدام الخلق، فيبتسمون قليلا، ثم يهمسون لبعضهم من وراء ظهري: مسكين.

 

بعينيه المعمشتين بحلق، في مؤخرات أربع بنات، ذاهبات لملء جرارهن، الراقدة فوق رءوسهن.. تابعهن حتى اختفين عند النخلات الثلاث، آخر سور الجنينة.

تابع في استسلام: لقد ابتلاني الله بشيئين اثنين، زوجة تلتصق بي مثل القراد، وزمن رديء أقعدني عن طلب الرزق، لم يبق قدامى، إلا أن أساعد ـ في المناسبات ـ  في رص الدكك، فرش الأكلمة، وضع المساند، رش تراب الشارع بالماء، اللف بصينية الشاي على الضيوف، لأعود آخر الليل، بما قسمه الله لي، من نوائب اللحم، والسجائر الفرط، التي أعبئها في العلب الفارغـة، المرمية تحت الدكك، وأدسها بعيدا عن يدي ابن الكلب.

أتت مجموعة من الأغنام، يتبعها ولد، يلف رأسه ورقبته بشال، لا يظهر منه سوى عينين صغيرتين. يدس يديه في سيالتى جلبابه، ويضع عصا رفيعة تحت إبطه. اقتربت منه نعجة سوداء، شمشمت في ساقيه، وبحلقت في وشه قليلا، ثم تحركت ببطء، وهى تهز إليتها المكتنزة، وبعــر صغير يتناثر من تحتها على الأرض.

بصوت منغم، حث الولد الأغنام، فمشت على مهل، مخلفة وراءها غبارا خفيفا، ورائحة صوفها الكثيف، المتسـخ بالبعر والبول الناشف، تفوح في المكان.

كانت البنات الأربع، العائدات من البحر، يمشـين متقاربات، وهن يرفعـن أيديهن لأعلى، يسندن الجرار الممتلئة، كن يتهامسن، ويأخذن في الضحك بصوت واطئ. رفعت الكلبة رأسها، تابعتهن حتى ابتعدن عنها، ثم عادت تبص عليه. حك ما بين فخذيه، وبدأ يضرب بقطعة الجريد على الأرض ،ثم بص على نفسه، القاعدة بجانبه، واصل في أسى: لقد أثقلت عليك اليوم، وأفسدت بحماقتي لحظات الخلوة النادرة.

تحامـل على ركبتيه، ثم على حافة الكوبري القصيرة، نهض بصعوبة قائما، وأخذ يدب وراء البنات الأربع. من بعده، قامت الكلبة، وهى تحجل بسرعة، إلى جوار الكوبري.

 

ــــــ

يـوم ملائم تمـاما

 

 

 

كل الظروف، تهيأت ليكون موته كما يريد، في أبهى صــــورة، خلت السماء من الغيوم الداكنة، التي غطتها لمدة يومين كاملين، وبدت جميلة، بزرقتها الخفيفة، وقليل من النتف البيضاء، عالقة بها، والشمس الطالعة تلامس الأرض، المشبعة بسقعة طوبة .

 بدأ يومه بالاستحمام، بعد أن حلق شعر رأسه وذقنه، وعلى غير العادة، تكلم كثيرا، وهو مقرفص على فرو الخروف، قدام المزين، الذي قال، وهو يلم الفوطة البيضاء، المتسخة، المليئة بثقوب السجائر، وينفضها أسفل الحائط:  ” نعيما يا حاج “. فجرت سحلية صغيرة، بذيل أزرق، واختفت بين قوالب الطوب المرصوصة .

ثم أصر، رغم حلفان المزين الشديد، أن يعزمه إلى أول الطريق، ولم يتركه، إلا بعد أن غاب عن عينيه، متجها ناحية النجوع القريبة .

وضعت له البنت، الطشت وجردل الماء الفاتر، فى البقعة المشمسة بالحوش، بعد أن هشت منها النعجات الراقدة، فقامت في تكاسل، وهى تهز ذيولها، ثم ذهبت البنت وأغلقت الباب وراءها.

صار عاريا، فخرجت الأرانب من جحورها، وأخذ الدجاج ينكش في الجير، العالق بالحيطان، أما النعجات، فقد رقدت على بعضها في الظل، وأخذت تجتر، وهى تبص على عريه بلا اهتمام.  

جو ملائم تماما، لأن يأتي كل الجيران، والأقارب، والأصدقاء، والغرباء، لحضور الجنازة. وسيجدونها فرصة مناسبة، لعدم الذهاب إلى الشغل، والقعود في السهراية، يدخنون بشراهة، ويثرثرون، منتظرين تجهيز الكفن، وانتهاء الغسل.

حتى العيال الصغار، سيزعقـــون في وجوه أمهاتهم الباكيات: “لقد مات.. ولن نذهب اليوم إلى المدرسة”.

ثم يرمحــون بعيدا، ويظلــون هادئين، وهم يراقبون الكبار في صمت.

يوم مشمس، دافئ، ملائم تماما، لأن يشتغل الفحار العجوز بلا تذمر، في أرض الجبانة الناشفة، يصنع بحب، قبرا يليق به.

العجائز القاعدون في سوق الاثنين، ممسكين بين أيديهم، بعنزة عجفاء، تركوا الفصال فيها لما جاءت سيرته، وقالوا في حسد: “لا أحد مثله، مات دفيانا، شبعانا”.

بينما السيدات الكبيرات، سيتبادلن قصبة الجوزة، وهن قاعدات على حصر الحلف، المفروشة تحت الشمس، يرقبن بطرف أعينهن، حريم أبناءهن، المشغولات في خدمة البيت.. يلقين عليهن من وقت لآخر، بعض الأوامر، ثم يقلن: “انه قطب… كان يجب أن يبنوا له ضريحا”.

بدا خفيفا وبشوشا، في ملابسه البيضاء، النظيفة. قعد على كوم القش، يبص على الغيطان، المفرودة أمامه حتى الجبل العالي، تتخللها بيوت طينية قليلة، ونخيل متناثر.

مدد جسمه، وغطى وجهه ـ من وهج شمس الصباح ـ بطرف شاشه، مستمتعا بالدفء، وبهجة خفيفة، تسرى في عروقه.

ـــــــــــــــ

* القصص من مجموعة: “عجائز قاعدون على الدكك”.. تصدر قريبا عن دار نهضة مصر ـ القاهرة

*  روائي وقاص مصري

 

 

 

 

 

خاص الكتابة

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون