الموتى ينسجون الشِّباك

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد إبراهيم  قنديل

سافَرَ الفقيدُ إلى ليبيا منذُ سنة..

 أخذَ دبلوم الصنايع وأمسَكَ شهادة الإعفاء من التجنيد ثم سافَرَ في ليلةٍ كهذه، كلَّمَها في اليومِ السابقِ لسفرِه "قابليني" واستأذنَتْ هناء من الست عائشة أمِّها التي وبَّخَتْ وحذَّرَتْ ثم أذِنَتْ على أنْ لا يراهما أحدٌ معًا وأنْ تعودَ البنتُ قبل الغروب وحدَها

" الحبُّ ابنُ كلبٍ براوي لا يمكنُ ترويضُه ولا منعُه " قالت الست عائشة لنفسِها.

"والولد مسافر الغربة، سَيَرَى مصلحتَه، والبنتُ ترفضُ سواه، عسى يكون نصيبَها"

 

وسارا في سكةِ الغيط متباعدَيْن حتى واراهما دوارُ الباز فاحتضنها ولامسَها وقاومتْ ثم استحلفَها بالغربةِ والنأيِ والأيامِ الطويلة فَلَانَت بعد ممانعة، ووقعَ ما لم يكن في الحسبان، سافرَ وائل السجيني عازمًا على إعلان الخطوبةِ في أولِ إجازةِ عودة ومات قبلَ أولِ إجازةِ عودة، اتحدَتْ الرواياتُ أنَّ صاروخًا للجماعاتِ المتقاتلة حول القذافي أصاب البيت الذي كان يعملُ فيه فقتلَهُ وأهلَ البيت، وطاشَ وائل السجيني غريبًا في بلادٍ غريبة لم يُعرَفُ له قاتل ولم تُجمَعُ له أشلاء، لم تنطفئْ حرقةُ أهلِه برؤيةِ جثمانِه ولم ينعم جسدُهُ ثانيةً بترابِ البلد ولو قبرا، وهناء التي ظلَّتْ بعد سفرِه في رعبٍ تتحسسُ بطنَها حتى نزلَتْ دماءُ الدورةِ فقفزَتْ من الفرحة، ولم يكَدِّرْ صفوَها إلا وقوفُها على حافةِ المجهول، بين حينٍ وآخَر كانا يتكلمان:

لا أصلُحُ إلا لك يا وائل، فضيحةٌ وموت، فلا تغدرْ بي يا بن الحلال

وكان يقسمُ ويتعهدُ فتهدأَ وتجري على الست عائشة يتحدثان في الادخار وشراءِ الشوار، بين سوقٍ وأخرى يتجولان ويعجبُها طقم صيني مرة، طقم ميلامين مرة، طقم ملاءات مرة، وتقابلان أمَّ وائل في السوق فتمتدَّ حبالُ المودة ويُنشرُ عليها كلامٌ موارَبٌ يحتملُ أكثرَ من معنى لكنَّ القلوبَ البيضاء تأخذُهُ على محملِ الفرحِ القريب.

مسكينةٌ هناء، فرحةٌ مغتالة ورعبٌ مما سيجيء.

كان حزنُها قويًا فتسمَّمَتْ نفسيتُها حتى ذبُلتْ نضارتُها وضمُرَتْ أنوثتُها، وضاق بها صبرُ البيومي لرفضِها الخاطبين الكُمَّل مرةً واثنتين وثلاثًا، وحملَ عليها ضربًا وتضييقًا من غيظِه، لكنهُ سرعانَ ما كان يلينُ لحزنِها ويحوقلُ ويدعو اللهَ بتفريجِ الكرب، يشكو لعائشة فتُطَيِّبُ خاطرَه:

كله إلا الغصب يُدخلُ الشياطين، لا يُعَمِّرُ في بيت ولا يباركُ في قوت

خفَّ عقلُ هناء وهمَّتْ بقتلِ نفسِها مراتٍ ثم تراجعَتْ رهبةً وحلاوة روح، لكنَّ شبحَ الموتِ الخبيث لم يغادرْها منذ تلبَّسَها، زاهدٌ فيها لكنهُ كامنٌ يتحينُ الوقتَ الذي يروقُه، والموتُ لا يغادرُ عقلًا خايَلَه إلا بطلوعِ الروحِ إلى بارئِها.

……….

الموتُ طفلٌ عابث، يستمتعُ بما يفعلُ ولو كان إشعالَ حريق، لا يلتفتُ حتى ليلقيَ نظرةً أخيرة على حياةٍ تشظَّتْ بفعلِه، دون اعتبارٍ لما يتصلُ بتلك الشظايا من حيواتٍ أخرى ما زالَ مقدَّرًا لها الاستمرار، كمفترِسٍ لا يشبع، ينقضّ فيتداعى كلُّ شيءٍ في لحظة، يموتُ وائل السجيني فقيدًا لشبابِ البلد، يموتُ في الغربةِ ويتركُ داخل أهلِهِ حرقةً وداخل هناء بنت بيومي رعبًا يقودُها إلى الجنون، الجنونُ الذي لا يعرفُ ملةً ولا يرعى ذمة.

عاد شبابُ البلد من ليبيا جماعاتٍ وفرادى، مُهرَّبين وقانونيين، يصِفون جحيمَ الحربِ الأهليةِ وأحوالَ المغتربين المستحيلة، وبقِي هناك عرفة ابن نعيم الباز، كان يحدثُ أهلَهُ كلَّ يومٍ في المحمول، يطمئنُهم على نفسِه ويداعبُ خيالَهم بما جمعَهُ من أموال، والمالُ شيطانٌ يُغري بالمزيد، والحربُ كما تنسفُ ناسًا وتخسفُ بهم فإنها ترفعُ آخَرين، حتى الخرابُ يعرفُ المالُ كيف يستثمرُه، ويجيدُ عرفةُ الرقصَ على حبالِ الخطر كلاعبي السيرك، حتى أدمنَ الخطرَ وتلاعبَتْ به نشوتُه، وأرسَلَ إلى أهلِه في طلبِ عَروسٍ، تسافرُ لتعيشَ معه هناك، بحثَ أهلُهُ فرُفِضوا من الجميعِ خوفًا على بناتِهم، اشترطَ الجميعُ بقاءَ العروسِ في البلد حتى يعودَ إليها، وأصَرَّ هو أنْ تسافرَ إليه عروسُه، رفضَ الجميعُ بمن فيهم بيومي شلبي لكنَّ هناءَ وافقَتْ معارضةً خوفَ أبيها الذي فشِلَ في إثنائِها، ولم يعرفْ هل يفرحُ لانفكاكِ عقدتِها أخيرًا، أمْ يحزنُ عليها وما تفعلُ بنفسِها، لم يفهمْ أنَّ ابنتَهُ سقطَتْ في فخِّ الموتِ وهي حية، عقدوا القرانَ بتوكيلٍ لوالدِ الزوج، وسافرَتْ بعدَ أسبوعٍ بعقدِ الزواجِ إلى تونس ومنها إلى ليبيا كما رَتبَ زوجُها.

الموتُ صيادٌ شاطر يحملُ قوسَهُ وكنانةَ سهامِه، ويقفُ متحفزًا منتصِبًا كالفرسان، لكنهُ يغدرُ ويأتي على غِرَّة كما يفعلُ الخوَنة، وما كلُّ ميتٍ كان يُحسَبُ ميتًا، وأنتِ ذهبتِ إليه بقدمَيكِ قربانًا لخطيئتِكِ القديمة، وتحسبينَ أنَّهُ في بلادِ الغرباءِ هَيِّن، وربما يَرِقُّ لكِ فيأخذُكِ في هرَجِ الانفجاراتِ والقتال، كما يأخُذُ عشرين ومائة دون اعتبارٍ لأسمائِهم وأصولِهم وما يتركونه وراءَهم من أعمارٍ وخططٍ وأحلام، كنتِ تطمعينَ أنْ يمُدَّ يدَيْهِ فيكفيكِ شجاعةَ الانتحارِ ويرحمَكِ من تكرارِ الفشلِ فيه والحنينِ إليه، لكنَّ اختياراتِ الأقدارِ عصيةٌ على الفهمِ لأنَّ الحكمةَ فيها إلهيةٌ واسعة والمحكومُ بها بشريٌ قاصرٌ وضيِّق، والدوامُ لله.

فعودي يا هناءُ حيةً بجثمانَ زوجِكِ الذي غدَرَهُ الموتُ في ليلِ زفافِكما، وكنتِ أولى بالموتِ منه، أنتِ المغدورة في الحقيقة، وهي أقدارٌ يا منحوسة.

دُفِنَ الفقيدُ وأنشبَتْ العيونُ والألسنةُ أظافرَها المسنونة في لحمِ هناء العاري، وبين مصمصةِ الشفاهِ المواسية كانت تمتمتُها الحائمةُ كجارحٍ جائع، والنساءُ تلِحُّ على الست عائشة والرجالُ يأكلونَ رأسَ البيومي شلبي، وهناء صامتةٌ لا تجيب ولا تريح، هل دخلَ بها أم خطفَهُ الموتُ قبلَ أنْ يدخلَ دنياها؟

وحين كان الأمرُ مجردَ خاطرٍ فضوليٍّ مُلِحّ يبحثُ عن إشباع، صدعَ عباس الباز في وسطِ سرادقِ العزاء، دون اعتبارٍ لجلالِ الموتِ وفداحةِ الخسارة:

لو لم يدخلْ بها أخي فلا قشةَ لها عندنا

وانفَضَّ العزاءُ سريعًا لتنعقدَ المجالسُ العرفيةُ، تنحى الحزنُ بسرعةٍ ليأخُذَ الحقُّ مكانَه، والحقُّ هنا مالٌ وأطيان، والمالُ لا يرحمُ إلا مَنْ يملكونَ قوَّةً تحميه، مَدَّ المالُ يدَهُ الطويلةَ يرفعُ عن هناءَ سراويلَها، ويخوضُ في بكارتِها، ويقتحمُ غرفةَ نومِها في ليلتِها الأولى مع زوجِها قبلَ أنْ يختَطِفَهُ الموت، وينفضُّ مجلسٌ لينعقدَ آخَر والباز لا يلين:

على جثتي هناء بنت البيومي ترِثُ ابني بليلةٍ واحدة على ذمته، زيجةٌ مشئومة وميراثٌ مستحيل

وفي ليلةٍ كهذهِ خلعَتْ هناءُ سراويلَها، ودخلتْ الجساسةُ أم شبل بأصابعِها تختبرُ البكارةَ فلم تجدْها، دخلَ الزوجُ بزوجتِه فهَدَأَتْ النفوسُ وألانت الكلام، وأُجِّلَتْ قضيةُ التوريثِ حتى يُلقيَ الرحمُ بطانتَه حيضًا خفيفًا متخففًا من الحمل أو يُظْهِرَ بوادرَ حَمْلٍ تصلُ عَقِبًا وتُثَبِّتُ جذورًا وتُبَدِّلُ مصيرا، الحقُّ حقُّ والولدُ يُحِقُّ حقوقًا ويُبْطِلُ أخرى.

وحدَكِ يا هناءُ تعرفينَ أنَّ الرحِمَ لا تحملَ بذورا، وأنَّ الأرضَ بُورٌ من الداخل، لا تصلُحُ لممارسةِ الحياة ولا لمنحِها، هرَبْتِ كثيرًا من فعلِها بنفسِكِ وجبُنْتِ عن لَيِّ عُنُقِه، لكنَّ الموتَ يا بنتَ عائشة شحيحٌ كالحياة، كلاهما أعطياكِ مسمارًا ليأخذا منكِ دارًا ودوارا، الحياةُ يا هناءُ أعطتْكِ حبيبًا ذُقتيهِ في غفلةٍ منها، وأذاقَتْكِ الفراقَ والويلَ وخوفَ الفضيحةِ أيامًا وليالي، والموتُ يا هناءُ هبَطَ كما أردتي على زوجٍ اكتشَفَ ذكَرُهُ أنَّ القِرْبَةَ مثقوبة من قَبْل، وكادَ يقلبُها على رأسِكِ ورأسِ أهلِك، لكنَّ الموتَ هبَطَ لرُوحٍ واحدةٍ فأخذَها، وأشاحَ ساخرًا عن الأخرى، لينفرِدَ بكِ على راحتِه يغرسُ هواجسَهُ في العقل ويدُقُّ مساميرَهُ في رُوحِك، وأنتِ يا معيوبةَ الطالعِ ستبقَيْنَ قتبًا في ظهرِ أهلِكِ وشوكةً في حلوقِهم، لكنَّ أحدًا لا يعلمُ ما حدثَ هناكَ إلا أنتِ، في أرضِ الغرباءِ كان عرفةُ يغلقُ المغاليقَ ويطفئُ الأنوارَ ويدفنُ الأموالَ في بدرومِ البيتِ الفسيح، وعلِمَ الغرباءُ أنَّ المصريَّ الذي لا يذهبُ إلى البنوكِ سيدخُلُ بعروسِه، والمصريُّ لم يبُحْ لأحدٍ بموضِعِ مالِه إلا حين طوَّحَهُ الحشيشُ في الليلةِ التي سبَقَتْ وصولَك، فكَمُنَ الملثمونَ لكما في ليلةِ الدُّخلة، دخلوا إلى المالِ كأنهم من دفنَه، ووقفَ المنكودُ في وجهِهِم اقتلوني قبل أنْ تأخذوا مالي، فقتلوه، توسلْتِ أنْ يقتلوكِ أيضًا لكنهم ترفعوا أنْ يقتلوا أنثى في ثيابِ عُرْسِها، ورحلوا قبلَ أنْ تصرخي وعُدْتِ قبل أنْ تقتلي نفسَكِ وقُيِّدَتْ ضدَّ مجهول، لكنكِ تعرفين مَنْ القاتل، لم ترَيْ وجهَهُ لكنكِ تعرفين عينيه، لن تسمحي لهُ أنْ يعبثَ بعقلِكِ أكثرَ من ذلك، أجهِزِي عليه واقتليه.

في ليلةٍ كهذه دخلَتْ الست عائشة على بنتِها هناء فلم تجِدْ سوى جسدٍ هامد ويدين ملطختين، وعلى ظهرِ المرآةِ عينان مقلوعتان من وجهٍ هادئٍ أكثرَ مما ينبغي

 

 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون