“أناس عاديون” لـ سالي روني.. ثيمات متعددة وفضح للطبقية والظلم الاجتماعي في إيرلندا

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حميد عقبي

رواية أناس عاديون للكاتبة الإيرلندية سالي روني، الصادرة عام 2018، تُعدّ من الروايات الإيرلندية المهمة، كونها لم تركز على سرد علاقة عاطفية تقليدية، بل عملت على كشف ضعف الفرد أمام المجتمع. فقد صوّرت هشاشة الشخصيتين أمام مجتمعهما وضغوط الطبقة الاجتماعية، وأبرزت كيف أن أخطاء صغيرة أو تردّدات صامتة قد تُباعد بين الحبيبين مرارًا، قبل أن تعيدهما الحاجة إلى الأمان والحميمية إلى بعضهما من جديد.

أناس عاديون رواية تلامس القارئ عالميًا لأنها تكشف ضعف العلاقات الإنسانية في ظل واقع معاصر يخلط بين الحرية الفردية وضغوط المجتمع. الكاتبة تدعونا إلى  تأمل في معنى أن تكون “إنسانًا عاديًا” محاصرًا بالتوقعات، بالطبقية، وبنقص الأمان العاطفي. هذه الرواية يمكنت من تحقيق نجاحًا عالميًا  وتُرجمت إلى عشرات اللغات، وحُولت إلى مسلسل درامي بارز لاقى إشادة نقدية واسعة، وأكدت مكانة روني كأحد أهم الأصوات الأدبية المعاصرة.

تقدّم الرواية حكاية معقّدة تدور حول ماريان شيريدان، الفتاة الذكية والوحيدة التي تعاني من عزلة اجتماعية وأجواء أسرية مضطربة، وكونل والدرون، الشاب الرياضي والشعبي الذي تنتمي والدته إلى الطبقة العاملة. تبدأ العلاقة بينهما في مدرستهما الثانوية في بلدة صغيرة بغرب إيرلندا، حيث يعيشان حبًا سريًا مليئًا بالتوتر، ثم يواصلان بعد ذلك مسارهما المتقاطع بين الارتباط والانفصال خلال سنوات الجامعة في دبلن.

ثيمات متعددة وفضح للطبقية والظلم الاجتماعي في إيرلندا

في رواية «أناس عاديون» قدّمت سالي روني نصًا يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه شديد التعقيد في طبقاته الداخلية، حيث تتحوّل العلاقة العاطفية بين ماريان شيريدان وكونل والدرون إلى أداة فحص عميقة للذات، والمجتمع، والطبقة، والجسد. الحب هنا لم يكن المخلّص والمنقذ، ولم يكن رومانسيًا، بل تجربة كاشفة عملت الكاتبة على استغلالها لتعري الجروح النفسية التي يحملها الطرفان منذ الطفولة ثم المراهقة. ماريان، التي نشأت في بيت كبير لكنه افتقر إلى الحنان، تميل أحيانًا إلى الخضوع في علاقاتها، كأنها تعيد تمثيل العنف الصامت الذي تعرّضت له داخل العائلة. في إحدى اللحظات الحاسمة، تُلمّح إلى أنها لا ترى نفسها جديرة بالحب إلا إذا قُدِّم مقرونًا بالألم. في المقابل، يعاني كونل من ارتباك عميق في التعبير عن مشاعره؛ هو يحب ماريان، لكنه كثيرًا ما يعجز عن قول ذلك في اللحظة المناسبة، فيتحوّل الصمت إلى حاجز، وتكبر المسافة جارحة بينهما.

القارئ المتأمل سوف يلمس حضور ثيمة الطبقة الاجتماعية بقوة، بوصفها قوة فاعلة تشكّل الوعي والسلوك. ماريان تنتمي إلى عائلة ثرية، لكن هذا الثراء لم يمنحها الأمان ولا القبول، ونرى سخرية وتهكمًا وسيطرة من شقيقها. في المقابل، ينتمي كونل إلى الطبقة العاملة، ابنًا لأم تعمل منظّفة، لكنه يمتلك حساسية ثقافية وحبًا عميقًا للقراءة والكتابة. تستخدم الكاتبة هذا التناقض لتكشف مفارقة أساسية ومهمة، وهي أن المال لا يحمي من الانكسار النفسي والخسارة العاطفية، كما أن الفقر لا يعني فقرًا ثقافيًا. ومع ذلك، تبيّن روني كيف يؤثر الاقتصاد في الطموح وتقدير الذات، وكيف يصبح النجاح الأدبي أو الأكاديمي أكثر صعوبة من دون شبكة دعم عائلية. حين يعمل كونل في وظائف صغيرة ويسكن غرفًا بائسة، يبدو واضحًا أن الموهبة وحدها لا تكفي للكرامة والتفوق في المجتمعات الأوروبية.

 

أما الهوية والاعتراف، فهما قلب الرواية النابض. الشخصيتان تسعيان باستمرار إلى أن يُرى كلٌّ منهما على حقيقته. كونل يخشى نظرة الآخرين ويخفي فقره، كما يخاف من أن يُحاصَر داخل صورة «الشاب العادي» التي يرسمها له المجتمع، بينما تتحدّى ماريان الأعراف، لكنها تدفع ثمن ذلك عزلةً ونبذًا، خاصة في السنة النهائية بالثانوية. نقرأ من خلال الكثير من الأحداث أن الاعتراف في هذه المجتمعات ليس ذاتيًا فقط، بل اجتماعي أيضًا، مرهونًا بنظرة الآخر، وبالانتماء الطبقي والثقافي، وبدعم العائلة.

 

في ثيمة العائلة والعنف الصامت، تتجلّى إحدى أقسى صور الرواية. عائلة ماريان تمثّل نموذجًا للبرود والإنكار؛ نجد الأم تتجاهل ابنتها، وأخًا يمارس عليها تسلّطًا وإذلالًا مستمرين. ما يميز العمل خلوّه من الصراخ الكبير، وسيطرة الصمت القاتل؛ فالأحداث مليئة بالنظرات والعبارات المقتضبة التي تفضح الطبقية والعنصرية تجاه الفقراء. في المقابل، تظهر والدة كونل كشخصية داعمة، قليلة الحضور لكنها مؤثرة، تشكّل نقيضًا أخلاقيًا لهذا العنف الصامت، وتمنح ابنها حدًّا أدنى من الأمان العاطفي، لكنها لا تملك المال ولا النسب ولا العائلة.

علينا، ربما، كقراء ونقّاد، أن ننتبه إلى قيمة الجسد والجنس في هذه الرواية، حيث تعاملت معهما روني بجرأة وهدوء دون خوف أو مبالغات. المشاهد الحسية والنقاشات عن اللذة والسيطرة والخضوع لا نشعر أنها كُتبت للإثارة المجانية، بل لفهم التوتر النفسي وحدود الثقة. الجنس هنا يصبح لغة بديلة، وأحيانًا جمالية وشعرية حين تعجز الكلمات، ومساحة تُختبر فيها العلاقة بين الحب والجرح، وبين الرغبة والخوف.

مستوى الأساليب والتقنيات

تعتمد الكاتبة الإيرلندية سالي روني على التكثيف والاقتصاد اللغوي: جمل قصيرة تأتي كضربات مباشرة أحيانًا، لكنها محمّلة بدلالات عميقة. استخدمت الكاتبة السرد غير المباشر الحر للتنقّل بسلاسة بين وعي ماريان وكونل، كاشفة تناقضاتهما الداخلية من دون تعليق مباشر. كما تلجأ إلى البناء الزمني المتقطع، حيث تأتي الأحداث على شكل مقاطع متباعدة تعكس حركة العلاقة نفسها: اقتراب، ابتعاد، ثم عودة. الكتابة ذات طابع مشهدي، قريبة من السينما، تعتمد الحوار والإيماءة الصغيرة، ونظرة عابرة أو صمتًا أطول من اللازم. وأخيرًا، تحضرالإيحاءات الثقافية بذكاء، لتشير إلى صعوبة نيل الاعتراف الثقافي في إيرلندا وبريطانيا، حيث يظل النجاح رهين الطبقة والداعمين أكثر مما هو رهين الموهبة وحدها.

بهذا، تقدّم سالي روني قصة حب، والأكثر سحرًا أنها أبدعت نصًا ثقافيًا معاصرًا يفكك ما يبدو «عاديًا»، ليكشف أن أكثر العلاقات بساطة تخفي داخلها أعقد الأسئلة عن الذات، والمجتمع، والكرامة الإنسانية.

 الكتابة  فعل نضالي

قراءة رواية «أناس عاديون» لسالي روني تقودنا إلى الامتداد الواضح لمشروعها الحقوقي والسياسي، الذي يتجاوز الأدب إلى مساءلة البنى الاجتماعية ذاتها. روني، المعروفة بمواقفها الجريئة الداعمة لقضايا العدالة وحقوق الشعوب، تنقل هذا الوعي إلى الرواية عبر الإنصات العميق لهموم جيل كامل من الشباب الذين نشأوا داخل منظومات طبقية قاسية، تُعيد إنتاج النبذ والفشل والاغتراب والتمييز والذكورية.

في هذه الرواية، تُنصت روني إلى أصوات الشباب الذين يعانون من الإقصاء الطبقي بوصفه شعورًا دائمًا بعدم الاستحقاق. كونل، الشاب الموهوب، يُدرك مبكرًا أن الموهبة وحدها لن تكفيه، ولذلك يبحث عن منحة دراسية خارجية ويفضّل الهجرة والغربة، فالمجتمع لا يمنح فرصه بالتساوي. وكذلك نلمس ألم ماريان، التي تعيش نبذًا من نوع آخر، مرتبطًا بالجندر والنظرة الاجتماعية المتعالية.

تحليل روني للنظرة الذكورية يبدو شديد الذكاء والحدة. المدرسة والجامعة تظهران كمكانين لتطبيع فكرة أن الفتاة ليست سوى مشروع للذة أو موضوع رغبة لدى الشاب، وكأنها حق من حقوقه. الفتاة المقبولة هي من تخضع لقواعد الجماعة والهدايا والمدح، وحين ترفض، تُعاقَب: تُوصَم بالقبح، أو بالغرابة، أو بالاستعلاء. ماريان تُنبذ لأنها لا تلعب الدور المتوقع منها، ولأنها ترفض أن تكون جسدًا متاحًا أو صورة نمطية سهلة الاستهلاك. هنا تكشف الرواية كيف يُربّى الشباب على ذكورية ناعمة لكنها مؤذية، تجعل الامتلاك حقًا، والرفض جريمة اجتماعية.

من هذا المنظور، تتحوّل الكتابة عند سالي روني إلى فعل نضالي. هي لا تكتب لتسلية جمهور برجوازي يبحث عن رومانسية مريحة، بل لتفكيك أنظمة القوة والتمييز والظلم، وكشف الكثير من أشكال العنف الصامت، ومنح صوت لمن لا يُصغى إليهم عادة. الأدب، في مشروعها، ليس ترفًا ثقافيًا، بل تحاول أن تجعله أداة وعي ومقاومة هادئة، تُعيد طرح الأسئلة التي يفضّل المجتمع تجاهلها.

 

مقالات من نفس القسم