“حصن” أحمد عبد اللطيف… إعادة كتابة التاريخ ، بحنان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 

" حصن التراب " رواية بديعة .

ربما لا يجدر كتابة شىء بعد هذه الجملة .

الرواية الخامسة للروائى المصرى أحمد عبد اللطيف والصادرة عن دار العين 2017 تتميز لغتها بانسيابية و تدفق أكبر، بتجريب أكثر استرخاء مقارنة بتجريبه السابق، فهل سبب ذلك التاريخ ( خروج الموريسكيين من الأندلس وعنوان الرواية الفرعى هو "حكاية عائلة موريسكية" ) أم الشعر؟ أم كونه أقام فى إسبانيا فترة أثناء كتابتها ( وربما يكون أنهاها كلها هناك ) زائرا الأماكن التى عاش فيها و طُرِد منها عرب الأندلس و منها القلعة التى حملت الرواية اسمها و بالإسبانية  Iznatoraf، أم سبب ذلك هو نضج الرؤية و الأسلوب على نحو أوسع و ربما إطلاعه هو ثم إطلاعه لنا على أهوال من قضايا محاكم التفتيش ؟                              .

فى هذا العمل الممتع المرهِق كتابة و قراءة (على مستوى المضمون و قسوة" الأحداث ") نجد الدرجات الشعرية من التكرار و التى وُجِدت فى كتابته السابقة جعلت الرواية أكثر غنى، وتعامل هو معها، أى مع تلك الدرجات بحرية و ثقة أكبر.

منذ الصفحات الأولى تستطيع أن ترى المشهد الذى بدأ يصفه ، تستطيع أن تتخيله أمامك كأنه بعثه أمام عينيك ، وهي عندى علامة السرد الناجح المؤثر ، ثم داخل أنواع التكرار الذى يلعب به – بين متنين أحدهما ببنط مائل يوحى بسارد آخر .. مثلا " من أوراق إبراهيم بن ميجيل دى مولينا . تطوان / 1679 و الآخر يوحى بخط السرد / السارد الأصلى – هناك صوت تكرار مُقطّع قصير شبه لاهث استدعى عندى نبر سرده فى " إلياس " ، و بلغة غرائبية الأجواء والوصف يقدم فكرة " المخطوط " التى شاعت فى روايات أبناء و بنات جيله الروائيين لكنها هنا تبزغ باستحقاق و تبرير و تجلٍ تاريخى أكبر لا يناوئ النَفَس الفانتازى بل يتوازن معه ويكون فى خدمته .

   التاريخ الموريسكى مع الأذى لا يطل جافا مفرط القسوة على نحو خالص بل يرفده الكاتب بالتخييل و الفلسفة و موسيقى و موشحات أندلسية يحيلنا إلى "لينكات" و"روابط لها" على "يوتيوب" مع فيديوهات عن محاكم التفتيش تشكل عصبا أساسيا نقطع من أجله فعل القراءة ونعود إليها ولا تكتمل بدونه .

داخل المخطوط و به يلعب السارد أو للدقة الكاتب متنقلا داخل لعبته فتجد احتياجك للتركيز يتنامى بعد صفحات قليلة. الابن الذى كان فى الخامسة و العشرين أثناء رحيل الأب يتزاحم معه صوت ( قد يكون صوته ) فجأة فيكون فى الخمسين و الأب يُريه المخطوط . لقد بدأ اللعب وعلينا أن نكون يقظين ، خاصة و أنه أثناء متابعة و سماع وصايا أبيه عليه البدء فى النسخ والترجمة و نتأهب لاحتماليات تلك القذفة التى يقوم بها الكاتب لنا فى لعبة داخل اللعبة . فقط هنا التاريخ هو اللعبة ، ربما تكون هذه حقيقته الوحيدة   و لعل هذا ، حتى بدون تجريب ما بعد حداثى يجعلنا نحن اللعبة داخله ، داخل اللعبة .

يقدم عبد اللطيف وثائق ممهورة بتوقيع أصحابها القساوسة مع تسمية المدن و التواريخ ، إعدامات و محاكمات و على هولها بعد إفراج الكنيسة عن القليل منها كما اعتَرَفت فقد جعلنا المؤلف نحيا رعب تلك المرحلة ضابطا جرعة النوستالجيا و التعاطف عبر ترك المواقف والعقوبات التى واجهتها شخصياته هى التى تتحدث بنفسها ، و قد عرف بذكاء كيف يجعل تعاطفه خاضعا لتجريبه ، و لشعريته السردية ، فتشعر أنك أمام عمل مكتوب بحنان ، و هو يطرح أسئلته حول الكينونة و الهوية و الحياة و الموت .

يعود السارد لذكر الأب الذى يأمره أن يقرأ فيقرأ ، يجد مخطوطات الأجداد الموريسكيين الذين عليه أن يفهم تدويناتهم بالإسبانية القديمة السائلة فى " ألخاميادو" ، تلك الإسبانية المكتوبة بحروف عربية ، أن يفك شفراتها ويترجم موضحا أنها لن تكون ترجمة أمينة . و هنا معنى الخيانة المرتبط بفكرة الترجمة الجيدة يتداخل مع الاعتراف بأمانة العجز ، و خيانة التاريخ ، الذى لا وجود له إلا بالإنسان ، باختراعه ، و ربما تشييده عبر الخيانة و حتى الموت كخيانة لا مفر منها للحياة .

ولمقاومة الخيانة من التاريخ للمشاعر و الحقائق خلق الإنسان الرمز ، كى يستطيع المواصلة والصبر . الرمز المادى لشىء يؤمن به هو أيقونة للتحمل  و اللجوء النفسى عند الشدائد ، هو عين للأمل تمنح المعنى لوجوده و ما يتعرض له ، مفتاح الحياة عند المصرى القديم و مفاتيح بيوت مدينة كونكة المطرود منها الموريسكيين و التى تُذكّر بمفاتيح بيوت فلسطين كا ذكر الناقد د. شاكر عبد الحميد بعد نكبة فلسطين .

نتعرف من السرد على عقود موثقة بامتلاك مسلمين ( حتى من تم تنصيرهم ) لأراضٍ ، أو سجلات لتعذيب مواطنين حتى الموت عقابا لهم على تعاملهم مع المسلمين الذين أصبحوا المسيحيين الجدد ، و بإزاء تاريخ الوحشية المسجل بافتخار ، لا بنزاهة كما أختلف مع تفسير الكاتب فى ندوته عن الكتاب بدار العين من فترة ، لأن تسجيل المحاكمات لا أترجمه على أنه نزاهة طالما لا دفاع و لا محامين أو طالما الحكم بالموت متخذ مسبقا ، بل و لا تهمة من الأساس حتى بمعايير و أحكام عصر آخر ، عدا شكوك و افتراضات اقتنع بها بعض رجال الدين ، و كذلك لأنه من المستحيل الجزم بأن كل جريمة قتل أو إعدام لموريسكى سبقتها محاكمة أصلا ناهيك عن أعداد المرحلين منهم بالتهجير القسرى فى البحر حيث تسجل الرواية ( و روابط و لينكات باليوتيويب )  أنه كان يتم التخلص من هؤلاء أحيانا بالإلقاء فى البحر وليس دائما بالوصول إلى شواطئ إسلامية ، أقول استطاع عبد اللطيف عبر أناه الساردة أو سارده الذى تراوح عندى ما بين تأخير منحنا اسمه أو ربما يكون إبراهيم دى ميجيل ، أن يجعلنا شركاء نفسيين مع " بطله " فى مهمة التدوين و التأريخ .

و جوهر فكرة البطل منذ الملاحم هى " ضرورة " أو حتى حتمية أن يقوم بعمل ما أو سلسلة من الأعمال كى يمنع شرا ما أو يعود بمكافأة ما. امتدادات هذا نجدها فى أعمال روائية مصرية تجرييبة راهنة ، البطل أمام قدره ككل نظرائه التاريخيين ، يبدو مُسيّرا ، طائعا بلا إرادة للممانعة و التخلى ، إنه لا يستطيع أن " يرفض " ما يمليه عليه القدر أو التاريخ ممثلا فى الأب أو الجد ، و البطلة قد تكون فى ذات الموقف .                                       

  ندلف بعدها إلى ابن عطاء السكندرى الذى يزور السارد / البطل إما فى اليقظة أو المنام وليس أمامنا غير تصديق سردية تتنازعها الشكوك فى أغلب الأشياء ، ما عدا الألم الإنسانى والموريسكى و الذى يتقدم كحقيقة مذهلة الإيلام لم يحصل ضحاياها بعد قرون على حق مماثل لما حصل عليه اليهود السفارديم فى الأندلس ( المطرودين من عام 1492  ) و هو اعتذار كنسى و حق العودة عبر الهجرة ، حتى أنى لاحظت أن أغلب الفيديوهات الأوروبية على يوتيوب و الأفلام كانت تركز على عذابات اليهود تحديدا و بالاسم على يد محاكم التفتيش مع عدم ذكر عذابات الموريسكيين .

حين يقول السارد : " أثناء ذلك كان سؤالى حول الموت من ناحية يتقاطع مع سؤالى عن المستقبل من ناحية أخرى " فهو كصوت يوليسيس ( عوليس ) أو سيزيف أو هاملت الشكسبيرى . نقطة إلتقاء الموت بالمستقبل غير موجودة إلا فى تكرار الموت الذى يحصد كل مستقبل ، و محنة البطل التراجيدى أن كل ما يفعله لا بد أن يأخذه نحو التراجيديا بوصفها صنيعة الحياة و مولودة معها، مقارنة بفكرة سلسلة العقبات الإعجازية التى لابد أن يتغلب عليها بطل الملاحم ( الذى عادة ما يكون تراجيديا بدوره ) ، الاختبارات الإعجازية بعد تحدى آلهة أو التحايل على بعضها ثم تلقى العون من بعضها الآخر لتحقيق نوع من التعادل القدرى فى مواجهة القدرة فوق البشرية و ذلك من أجل فعل نبيل ما يخرج منه الملحمى منتصرا ( سيزيف و بروميثيوس كمثال )لأن العقوبة ثمنها نجاح تحقيق الإرادة البشرية عبر بطل يوصف بأنه عبثى ولو قدم أعظم خدمة للبشرية طالما سيقبل بعقوبة أن يُكرَّس جهده الأبدى ( و أوقاتا كان يحدث العفو ) للاشىء بعدها ( نهش كبد بروميثيوس من نسر لزمن مفتوح يتم بعده العفو ، بعد سرقته النار من الآلهة للبشر أو  مقايضة الآلهة على أسرارها بنعمة الماء لقلعة كورينث أو تكبيل إله العالم السفلى- الموت كما فى حالة عقوبة حامل الصخرة المتدحرجة سيزيف ) ، و قبول نتيجة الاختيار القدرى بنتائجه ولو أبدية العقاب ، حتى لو تغيرت مشاعر الآلهة تجاه العقوبة لاحقا و دون وجود أية ضمانات لذلك ، هذا هو الانتصار للبطل التراجيدى العبثى بحسب كامو و ليس ثمنها التملص من العقاب أو الالتفاف حوله ، طالما التراجيديا حاكمة حياة الفانين . و هذا يحدد منذ القدم معنى قيمة كالنُبل ، و يرسى معنى العقاب الإلهى فى آن ، فكلما قرر إنسان ممارسة حريته ( خاصة لو سيحمل شيئا غيريا للبشرية ) راضيا بثمن ذلك فى عقاب مؤخر و أبدى فهو يقترب من أن يصبح إلها ، يحاجج و يختار و لن يتهرب من العقوبة ، لأن العقوبة نفسها لا تكتسب معناها و تأثيرها الدامغ إلا بأبديتها . و الفانون لا بد من تذكيرهم بأنهم سيظلون كذلك ، لهذا تحبط الآلهة كل محاولات الإنسان لقهر الموت أو عودة الأحياء من الموت بشروط مجحفة أو تعسفية التطبيق . و يكفى نموذج أخيل الذى مات فى مساحة ضعفه الوحيدة التى أمسكته أمه منها ، فى عرقوبه راجية أن تحصنه بالخلود  لأنها نست موضع يدها حيث سيصيبه السهم .                                 

للمحلمى قد يلوح ثمة أمل بنجاة أما التراجيدى فلا .

و ساردنا يكرر تعبير " يتحتم علىّ ، كفرضٍ إلهى .." فى الوقت الذى ينفى أنه يتطلع لبطولة أو لخلود ، ثم أننا نجد معنى الأمر فى فعل القراءة الموكل إليه قبل الكتابة و النسخ ، والذى يحيل على استعارة تاريخية خاصة بفعل الأمر الإلهى فى الإسلام مع نبوة محمد ( صلعم ) .. إنه سارد نبى على نحو يتوازى مع ميراث كلمة " اقرأ " فى الإسلام . و لو تأملنا أن هذا السارد / البطل ينجو بحياته و ينجز مهمته فهو قد انتصر لولا أن محاكم التفتيش التى استغرقت قرابة ثلاثة أو أربعة قرون كما عرفنا تجعل البطولة الجماعية للموريسكيين ، بل تجعل كل واحد منهم بطلا تراجيديا ، و هم من قاموا  بثورة البُشارات Al Pujarras

و من نماذج شعرية الكاتب هنا اختياره أن يعكس العلاقات المجازية . فمثلا يختار القول : " أبى يسلمنى أوراقه ، كعصفورة تعلّم وليدها الطيران ، غير أن الفارق أن رحيل أبى سيكون قبل أن يتحقق من قدرة أجنحتى على حمل الهواء ". لم يقل : " قدرة الهواء على أن يحمل أجنحتى ".

و يميل البنط مرة أخرى كما يميل التاريخ ، لنقرأ – بشكل متساوق أو متوازٍ – ما لم يكتبه التاريخ ، أو ما كتبه بإيماءة قفزات من القسوة .

من " أوراق محمد بن عبد الله بن محمد دى مولينا / كونكة خريف 1492 " ثم 1443 ، و 1502 و 1609 بارتداد و تذبذب زمنى يقول رأيا فى فكرة الزمن و معنى التاريخ ضمنها . يكتب أنه يكتب بعد سقوط غرناطة بعدة شهور و تسليم أبو عبد الله الصغير مفاتيح المملكة للملكين فرناندو و إيزابيل ، كما يطرح صورة مغايرة لأبى عبد الله و هى أنه لم يكن ضعيفا بل فيلسوفا و يحب حقن الدماء ، عدا أنه صدّق أن الملكين الإسبانيين سيحترمان معاهدة عدم التعرض للمسلمين أو المساجد و كفالة ممارسة الحرية الدينية .

  فى الرواية ترد كلمة " الفتح " ( مثل فتح القسطنطينية من وجهة نظر المؤرخ المسلم مقابل مصطلح " سقوط " أو " تحرير " ) و التى نتداولها لليوم و يتداولها الباحثون و المؤرخون الغربيون كل من منطقته الثقافية و زاوية نظرته ، بل نتداولها من مواقع متباينة بحسب الموقف الطائفى أو الإيديولوجى كلما سقطت مدينة سورية أو عراقية فى يد داعش أو استرجعتها مؤسسات الدولة ، و طبعا نفس المسافة بين كلمة " فتح " و كلمة " سقوط " أو " استرداد " استُخدِمتْ فى عصر الحروب و الحملات الصليبية على بيت المقدس و كما وصفنا ضياع فلسطين فى عصرنا بالنكبة و الوعد البلفورى بمنحها بــ" المشئوم " وصفت عصابات الهاجاناه و إيرجن تزفاى لويمى ذلك بـ " التحرير " ، بل وصل الأمر أن السودان تتكلم عن " احتلال " مصرى لحلايب و شلاتين التى يؤمن المصريون تماما أنها أرضهم مثل تيران و صنافير.

المواقع المختلفة لكل منا تختار و تتشبث بصفة " احتلال " ، " سقوط " ، استرداد " ، " تحرير " و حين نتناسى من المعتدى تقدم لنا تلك الأوصاف معنى المسخرة المتجددة ، تفتح بابا على محاولة فلسفة مشاعر الانتماء لأرض ما فى زمن ما فى مواجهة سيولة زمنية شبه أبدية ، تتجاوز مقولة إن التاريخ يكتبه المنتصر – و هى حقيقة – إلى سيولة اللغة ذاتها و خيانتها                  بل استغلالها و تطويعها فى تبعية مستمرة لمن يصنع النصر و معناه ، لاستزراع أو لإعادة صياغة العلاقات و المعانى .

ثم نتعرف على اسم يونس فى خطاب من شقيق لشقيق و لا يهم كثيرا أن نستوثق هل هذا اسم " بطلنا " السارد أم غيره و نجد إشارات إلى حزن بعض الجيران الإسبان المسيحيين على تهجير و طرد جيرانهم المسلمين .

 

الشعرية الممتدة تغور أعمق فى الجزء الذى بعنوان " من أوراق مانويل كارلوس بن مروان بن مريم بنت عبد الله دى مولينا ( مانويل دى مولينا ) :

" ................... قالت أمى الحجر حجر فى كل مكان . قلت لا أريد أن أكون حجرا . قال أبى لا أريد أن أكون حجرا فى أى مكان . أريد أن أكون حجرا فى جبل . قالت أمى يمكن أن تختار نوع الحجر . قلت لا أريد أن أكون حجرا . قال أبى أريد أن أكون حجرا رخاميا . قالت أمى أفضل أن أكون جرانيتًا . قلت لا أريد أن اكون حجرا . قالت أمى يجب أن تختار ...."

 

قدم أحمد عبد اللطيف غضبه فى شعرية نقية و هو يسرد كيفية رد الحجر الذى آل إليه سارده باستعارة على كائنات الكراهية التى تم استزراعها.

الكرامة هى ما يُفتت الحجر ( الإنسان الذى يصبح مطلوبا منه أن يميت كل ما فيه تجاه كل ما يحدث و ما يحيطه كى يعيش هو و بأية شروط ) كجزاء على التمرد على الحالة الحجرية و يمكن مد هذا التشبيه إلى عصورنا الحديثة حيث تحضرنى لقطات لشنائع كنا نتابعها على الفضائيات قبل سقوط حاكم مثل معمر القذافى . واقعة طبيب سقط فى أيدى قوات موالية للقذافى تقف عناصرها ( بملابس مدنية ) بجانب سيارة نصف نقل و الطبيب كان من المعارضين . تصرخ العناصر الموالية للقذافى ( حوالى إثنين أو ثلاثة يمسكون به فى الصحراء ) : " قول عاش الفاتح عشان روحك! " فيرد بلا إله إلا الله "، فيردون بالرصاص ثم يرمون الجثة و هم يصورون الجريمة فى السيارة نصف نقل كمن يلقى بهيمة بعد الذبح . إنها محاكم التفتيش الإسلامية أو السلطوية العربية هذه المرة ، إنها الرغبة البشرية المتوحشة فى عدم غسل الدم ، الرغبة المسعورة فى إسالته منذ الدم الأول لهابيل.

فى سياق الرواية نتعرف على أن تفتيت الحجر جزاء ( على الحجر الذى تحول إليه الإنسان ) عليه أن يتحمل تبعاته حتى يحسد الحجر الذى يبقى للأبد دون أن يتحرك أو يغضب أو يلحظه أحد .. الحجر الذى لا يدفع ثمن حجريته فيُترَك ، ثم الوصف الشعرى الأنينى لأدوات تعذيب تفتت و تفصل الكعب و أصابع القدم ، بعضها يمكن مشاهدته فى صور و رسوم بفيديوهات على يوتيوب .

اختار عبد اللطيف أن يجعلنا نحن من نتوقف لنلتقط أنفاسنا من رعب التعذيب ، بدلا من النواح فى آذاننا و كما قلت سالفا عبر أغانٍ و موشحات أندلسية بتلحين حديث للرحبانية و صوت فيروز و بعض الشعراء من التاريخ ( أى الشعر القديم ) كما أحالنا إلى وثائقيات مثل " ما الذنب الذى اقترفه الموريسكيون ؟" كى يقع على القارئ عبء استحضار الجريمة بصريا و نفسيا و سمعيا قدر الإمكان . بهذا  كسب تحرير سرده من بكائيات الأطلال كما أعفى نفسه من " تهمة " تعاطف قد لا تتجاوز ما هو هوية دينية إلى ما هو إنسانى مسربا قناعته عبر شخوص فى السرد: " أمى قالت ما من عداوة بين المسيح و محمد ".

يتناص الكاتب مع نفسه فى روايات سابقة مثال " النحات " حيث تتجدد فكرة النحت فى الحجر / البشر و تبرز أدوات الحدادة و استبدال السيقان المدَمرة بأخرى من حديد مُتيحة للفانتازى أن يخفف الواقع و يغنيه ، يكثف الشعر و يوازن تأثيره داخل السردى . الفانتازى هنا جاء استعارة لألم ، هو الحل الجمالى الذى جرب به الكاتب أن يصف تحويل البعض إلى محاربين بالإكراه و وقع ذلك بالمقابل على جماعتهم العرقية الأولى التى تعمد إلى تحقيرهم و قتلهم أو تدمير تماثيلهم . المشاهد التى تعتمد على الفانتازى الرائق ، الصِرف تمثل ذروة درامية بحد ذاتها ، و تفتت – لو استعرنا الصور التى استخدمها عبد اللطيف – الحجر فعليا .

فى ثنايا الفانتازيا التى أعادت صنع و تشكيل محارب من " الحجر " السارد ( يتم تنصيبه تمثالا فى ميدان معروف ثم يأتى أهله و يحطمونه بتكبير ) ، تُروى له ( للحجر الذى هو إنسان يتم تحويله إلى ذلك ) حكاية من حارس إلى أجداده الذين أتوا هنا .." الملك رودريك ملك القوطيين الغربيين اغتصب فتاة و كانت الفتاة ابنة حاكم سبتة و اسمه دون يوليان . كان يوليان فى إجازة استجمام فى طليطلة و كانت ابنته تستحم فى " حمام كابا " يوم رآها رودريك و فُتِن بها . حينها قرر يوليان أن ينتقم من الملك . لهذا دعا المسلمين لدخول شبه جزيرة آيبريا و ساعدهم على الانتصار فى معركة وادى لكة ."

هكذا نعرف أن دخول إسبانيا جاء لأسباب شخصية و تعاون داخلى مع الخارج ضد الداخل ، و سقوط الأندلس كذلك سيكون بنفس العلة ، ممالك العرب الموريسكية سيبدأ حكامها انقساماتهم و تحالفاتهم مع الإسبان  و ضد بعضهم البعض .

يتغير السارد إلى ساردة بلا تبرير ربما سوى فكرة تعاقب الأجيال و الاحتماء باسم الأم و نجد الحس الكابوسى فى أوراق عائشة دى  مولينا فى كوينكا بتاريخ 1530 . السرد من أوراق عائشة دى مولينا مشبع بالتقطيع و التكرار أسلوبيا يعتمد تقرير شىء أو حالة ثم نفيها فى نفس الجملة ، و جماليا كنت أعود ، بطريقة لا شعورية ، إلى سرد عبد اللطيف فى روايته " إلياس " كما أن تلك الطريقة تمنح نَفَس اللهاث تشكيكًا مستمرا يريده الكاتب لا لنقل أفكاره و مقتطفات من السير ذاتى لديه إلى صوت عائشة دى مولينا بل ربما يندرج هنا تحت تبرير الحالة الموريسكية المذعورة التى تركزت معاناتها فى مواجهة الطرد و التعذيب و الاستجوابات و الإعدامات حرقا أو تقطيعا بالمقاصل أو الخيول . الذعر معناه الاضطرار للتخفى و الإنكار و الكذب ، و حين يُضطهَد الإنسان فى دينه حد الموت تعذيبا عليه ، أو يُقتَل بسبب دين أسلافه حتى لو كان تم تحويله بالإكراه فلا شك أنه سيكون متلجلجا ، متذبذبا ، نافيا ، مترددا طالما لا يتم الحديث معه إلا بالإتهام و التكفير . و هنا يصبح لتجريب عبد اللطيف الأسلوبى فى تلك الأجزاء من الرواية معنى مباشرا دالا على قول الشىء و عكسه ، بالاحتفاظ بحالتين أو الخوف من شىء ( تهمة الاحتفاظ سرا بالدين القديم و لو لم تكن حقيقة بعد أجيال من التنصر ) و الإعلان عن شىء محدد و التمسك به و هو الديانة الجديدة. يصبح أسلوبه فى تلك الأجزاء نفيا و توكيدا مستمرا ، رعبا و شكا ، تعبيرا زلزاليا مباشرا عن نفس " منطق " و أسلوب زلزال الاستجوابات توكيدا من الاتهام و نفيا من المتهَمين ( ثم العقاب بالقتل ) على أمور من قبيل أن يتم إجبار موريسكيات من جذور مسلمة تم تنصيرهن على المشاركة فى عصر العنب لتحويله إلى نبيذ و حين يعدن إلى بيوتهن و يغسلن أرجلهن بسبب التصاق لون و سكر العنب بها يتم تفسير ذلك على أنه " وضوء " إسلامى ، أو يتم عقاب أم شهدت عليها جاراتها أنها رغم تحولها للمسيحية لكن تضطر ابنتها إلى عدم تناول لحم الخنزير فى البيت ، تصبح هذه " تهمة " طالما الابنة تأكل الخنزير فى بيوت الجيران لا بيت أمها و تساق الأم لمحكمة التفتيش .

و أسلوب توكيد الشىء ثم التعبير عن الشك فيه يرتبط بمجمل العذابات المادية التى عاناها الموريسكيون ، و يعبر عن أشياء أخرى ، ربما تظاهُر الجانب الإسبانى باحترام المعاهدات ، ثم الرجوع عن المعاهدات و خرقها و تعذيب فقهاء المسلمين ليقبلوا التنصير و كى يعلنوا ذلك أمام الجماهير المسلمة ، إنها حالة مستمرة من " اليقين " الإجرامى المتعصب ضد الآخر يقابلها حالة من الذهول و " النفى " المستمر و الإنكار من ذلك الآخر ،  و كما قلت توكيد الشىء ثم نفيه ، استخدمها عبد اللطيف فى " إلياس " بكثرة بل كانت عصب تعبير بطله إلياس عن نفسه ، أما هنا فربما يكون أسلوب التحقيق و الاستجواب فى محاكم التفتيش قد رسخ عند عبد اللطيف ضرورة توظيف هذه الحالة هنا ، و إن بدرجة أقل عن توظيفه لها بامتداد روايته " إلياس " .

نشعر أثناء القراءة أننا داخل كابوس . ما يزيد وطأته معرفتنا أن هذا كان حقيقة عاشها الملايين فى عصر سابق . يتضح لنا من السرد أن عائشة دى مولينا التى تكتب و تصف ميتة . نعرف أن المحاكم التفتيشية كانت تعاقب الجيران الذين لا يعملون كمخبرين على جيرانهم الذين من جذور إسلامية و من يُقبَض عليه كان يرمى فى السجون أحيانا لشهور أو لسنوات و كثيرا كان لا يعرف ما التهمة الموجهة إليه أصلا و لا يتم الإعلان عمن أبلغ عنه أو بماذا ؟

توالت الأوراق . نجد أوراق خوان بن مانويلا بنت عائشة دى مولينا . يتغير جندر أو نوع المتحدث مرة أخرى . نتعرف على فصول من وحشية المحاكم و المراسيم الملكية أيضا التى سببت عبر التطهير الدينى / العرقى ( حتى بعد تنصر الزوجين ) فصما لعائلات فمثلا كانت الأم الإسبانية من أصول إسبانية مسيحية تبقى مع الأبناء فى إسبانيا بينما يتم ترحيل الزوج الموريسكى المسيحى مع أحد الأبناء لأنه أكبر .

بعد هذا يعود السارد الأصلى ( حوالى صفحة 142 ) كأنما دلف بنا إلى عالم المخطوطات و أخرجنا ، يتحدث عن قبر أبيه و يتأمل كيف يعيش الأب فيه ، ثم يسرب إلينا الكاتب انطباعاته ومقارناته بين " مدينته " ( التى حدستُ شخصيا من وصف تأثيرها عليه أنه يقصد بها القاهرة أكثر من إحساسى أنها كونكة ) و بين مدريد التى سافر إليها عبد اللطيف للدراسة .

من أوراق دييجو فرنانديث بن فاطمة بنت يونس دى مولينا نعلم عن خطف الجنود الإسبان لأطفال موريسكيين من أهاليهم الذين لم يروهم بعد ذلك لتنشئتهم فى كنف عائلات كاثوليكية خالصة و ليس مع آبائهم المتنصرين منذ أجيال رغم أن هؤلاء لم ينقطعوا عن قداسات الأحد .

يحرص عبد اللطيف على تقديم تحليل سياسى يفتح به ثغرة لتفسير أو قراءة سياسية خالصة لقصة محاكم التفتيش التى يرى أن السياسى يقف فيها خلف الدينى و لكنه – أى ذلك السياسى – هو الأساس من وجهة نظره . فنجد فى ثنايا السرد ( عبر شخص أم و أب السارد المتقطع و المتقاطع مع أجداده بالوثائق و الأوراق ) عرضا لحقائق امتداد الحرب بين إسبانيا و الجارتين المسيحيتين فرنسا و إيطاليا لإنشاء إمبراطورية إسبانية امتدت كذلك إلى أمريكا اللاتينية و يطرح ضمن ما يطرح حقيقة أن الحكام المسلمين أيضا لم يتبعوا تعاليم التعايش طول الوقت لكن وحشية ممارسات محاكم التفتيش غطت على كل شىء .

الأم تنصح السارد أن ينشر المخطوطات التى كان يخطها فى السر ، تقول له أنها يجب أن تخرج إلى العلن لأن " التاريخ حق للجميع " ، و بعد تقاطع من نماذج وثائق التفتيش يتواصل سرد خوان دى مولينا ( من أوراقه ) على هيئة رسائل إلى ميجيل الذى انتقل مع الأم إلى الضفة الأخرى من المغرب و يُعلى الكاتب المعنى الإنسانى فى محنة الموريسكيين على الضفتين فحتى بعد التهجير ظلوا فى جيتوهات بالمغرب ، انغلقوا على أنفسهم و كان السكان ينظرون إليهم باسترابة و كراهية كمتنصرين يتحدثون الإسبانية فقط بينما هم عُذِّبوا و طُرِدوا من إسبانيا بوصفهم أصلا من جذور عربية مسلمة و لم يشفع لهم تنصرهم .

فى تداخل الأجيال و اختلاف الأصوات نجد أخا يصف شقيقته ذات العامين ، المفصولة قسريا عنه فى إسبانيا ، و يخبرنا السارد أنها جُدته هو . عبور البحر صار مستحيلا ، الوطن صار الجحيم و أصبح الموريسكيون بعد العبور إلى الضفة الأخرى كلهم برقاب ملتوية كأنها فى الجينات .                                

  يمرر الكاتب فى السرد رأيا يحمل بعض الإيماء السياسى ، فمثلا عدم التزام بعض الجياد بتحريك الحوذى لها أثناء محاولة تهريب جثمان والد السارد ليتم دفنه حسب وصيته ككاثوليكى ، يتم تفسيره من الذات الساردة على النحو التالى :

" رغبة الحوذى فى السيطرة عليهما لم تزدهما إلا عنادا ، أن تُمسِك الزمام لا يعنى تحكمك فى الأرواح ، كلما أرخيت الزمام كلما زادت سلطتك . قلت للحوذى " اتبع هوى الحصانين ".

و قد قرأت فى ذلك إشارة أو إسقاطا على الراهن السياسى العربى و المصرى بخاصة .

ثمة أسئلة أخرى تطرحها علينا الرواية عبر السرد ، بعضها شديد الواقعية داخل سياق توثيقى/فانتازى ( توثيق كمعلومة و فانتازيا كأسلوب ) مثل : " بين القهر فى أرضك و القهر فى أرض غريبة ، أيهما تختار ؟ "و هو سؤال صالح للآن لشباب مصرى كثير ينتظر فرصة الهجرة و أظنه سؤالا صالحا على مر الزمان على كل مهاجر سورى أو عراقى أو يمنى أو ليبى مواجهته و التوصل إلى إجابة عليه .

كما قلت فى بداية المقال ، كتابة عبد اللطيف هنا أكثر حنانا ، و انسيابية  و عمقا بأسئلتها الوجودية ، بتأثرها و اشتباكها المتزن و الحساس مع تفاصيل تاريخ يفتخر به الآخر الذى سفك و لفق و انتصر . الكتابة مثل مصل مضاد للأحقاد التى قام عليها فعل سقوط الأندلس / استرداد جزيرة آيبيريا .  هى كشف يتمسك بالذاكرة و إلحاح على إيمان أعمق من الدين ، يبحث عن ما وراء الأذى للتعايش مع ذاكرة الأذى و أيضا للتعامل مع جديده ، أو فتح صفحة تعامل مع الآخر تقوم على منحة الغفران .

بالنهاية الموت و عبء الإرث و الحياة و الهوية و الذكريات فى رمزية ورق الشجر ( فكرة شجرة العائلة و سقوط كل ورقة لتساوى انتهاء حياة ) و فى الصفحة الأخيرة قبل قصيدة ماتشادو ، حيث يحمل السارد ورقته متجها إلى تحقيق آخر حلقة فى قَدَره ، كلها تستحيل إلى شجرة " تُمسِك " بتلابيبه و يجرها ، عائدا بنا إلى صورة سيزيف المُعذَّب الأبدى فى رواية ينشع أساها بمقتطفات الوثائق لكنها غلبت الوثائق بالفانتازيا و الشجن الهادئ والتجريب الذى بلا اعتساف أو مكابدة .

 _________________________________________ 

 

مقالات من نفس القسم