البحث عن السعادة لـ ريم بسيوني.. مِن اَلنَّصِّ اَلسَّرْدِي إِلَى اَلْمَقَامِ اَلصُّوفِيِّ

البحث عن السعادة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ناصر السيد النور*

عُرفت الكاتبة والروائية المصرية الدكتورة ريم بسيوني، أستاذة اللغويات بالجامعة الأميركية، بغزارة إنتاجها الإبداعي والفكري، وتعدَّدت مؤخراً إصداراتها الروائية التأريخية (أولاد الناس.. ثلاثية المماليك، سبيل الغارق.. الطريق والبحر، القطائع.. ثلاثية ابن طولون، الحلواني.. ثلاثية الفاطميين، وأخيراً رواية ماريو وأبو العباس)، وقد سبقتها روايات: (الحب على الطريقة العربية، رائحة البحر، بائع الفستق، الدكتورة هناء، أشياء رائعة، مرشد سياحي). وقد نالت عن أعمالها الروائية جوائز أدبية مرموقة، كما ترجمت بعض أعمالها إلى الإنكليزية، إضافة الى مؤلفاتها العلمية والأكاديمية باللغة الإنكليزية.

صدر لها هذا العام كتاب (البحث عن السعادة.. رحلة في الفكر الصوفي وأسرار اللغة) 2023م عن دار المعارف المصرية العريقة، ويأتي في سلسلة مشروعها الأدبي التاريخي، مسنوداً إلى تجربة ممتدة في الكتابة الروائية بتراكم معرفي يوسِّع من مَدارِك رؤية النصوص من أكثر زاوية. وكتاب (البحث عن السعادة.. رحلة في الفكر الصوفي وأسرار اللغة) يعكس تلك التجربة في الكتابة البحثية والتاريخية، ويطرق مجالاً شائكاً (التصوف)، وإحدى أهم محفزات الحياة (السعادة) بوصفها حالة إنسانية جوهرية في الوعي البشري متنازع عليها من حيث المعنى وطرق تحقيقها.

 الكتَّابة في التصُّوف:

الكتابة في التراث الصوفي الإسلامي – وهو تراث ضخم يعصى على الحصر- متجذرة في الكتابة العربية التراثية والغربية الاستشراقية بكل ما أَفاضت به اتجاهات وحركات اجتماعية وفلسفات وشخصيات مواقف تاريخية، وتعابير لغوية لم تخل من تأويلات لنصوص وأحاديث دينية تمَّس في تقاطعاتها النصية الأصول الدينية العقدية. وتكونت بالتالي بنية فكرية تاريخية ولغوية أعادت تفكيكها مسوحات أنثروبولوجية وفيلولوجية تقاطعت مع الكتابات السردية (الروائية) والمسرحية والشعرية، تمثلت شخصياتها (أبطالها) بكل آلامها وحيواتها الصاخبة. فأنتجت سرديِّات روحية مُؤَوَّلَة مادية الأرض وواقعتيها العلمانية إلى أفق السؤال الوجودي بالمعنى الميتافيزيقي في بحث عن (سعادة) وتحرر من كثافة الطغيان المادي إلى الحياة مأمولًا في تحقيقها إلى حدٍ الذوبان في أتون الحب الإلهي والألم النفسي والجسدي (المجاهدة)؛ عبر مقامات ادرجتها المدارس الصوفية كسلم للارتقاء في رحلة بلوغ الغاية المرتجاة. بل وعبرت عن رؤية كليِّة من خلال مبدأ وحدة الوجود إلا تفسيراً طرحته فلسفة التصوف بتوغلها العميق في متاهة المسار الأنطولوجي بصورة موضحة في النص والحرف والكلمة الإلهية مكونة نصاً ممزوجاً بالتجربة التأملية في ناموس الكون. التجربة الصوفية بنزعتها الروحية وزهدها المادي في تجليِّاتها المتعددة بتعدِّد الديانات، والتجارب الروحية، والنزعات الصوفية لا تقتصر على دِّين محدد أو مذهب بعينه أو أيدولوجيا أحادية في رؤيتها وتفسيرها للوجود. فهل (البحث عن السعادة.. رحلة في الفكر الصوفي وأسرار اللغة) هو قراءة إبداعية بمنظور سردي، أم دراسة حول موضوع “التصوف” كغيرها من الكتابات المنهجية العلمية التاريخية؛ تستقصي بمنهجٍ تاريخي وصفي لظاهرة إنسانية ت حكمها شبكة سوسيولوجية واسعة الانتشار تقوم على تقاليد التنشئة التربوية توريض النفس والمجاهدة والتطهر الذاتي؟

السعادة والتصوف:

كتبت ريم بسيوني (البحث عن السعادة) عن التصوف، للدِّقة – كما أوضحت في مقدمة الكتاب- عن الفكر الصوفي وهو ما تعده أمراً مختلفًا عما تَّم تعميمه عن التصوف من طرق وجماعات هامشية وتقاليد طقسية، وأفراد ميزتهم ميولهم ونمط مسلكهم في الحياة عن الآخرين. وتلك من دلالات البحث وسياقات المنهجية في تحديد مساره العام، ولهذا جاء الكتاب بمباحثه داخل الأفكار التي أسست لهذا الفكر. وكما تقول في المقدمة بأنه كتاب “يتكلم عن رحلة الإنسان في هذه الدنيا في البحث عن السعادة. وأهم عنصر في السعادة هو الرضا، والرضا عند المتصوفة هو مقام، أي لابد أن نصل إليه بالمجاهدة، وعند الوصول إليه نحاول أن نثبت عليه. فيصبح الوصول إلى الرضا هو تحقيق الهدف”. إذٍ نحن أمام كتاب محوره الإنسان وغايته فيها السعادة بين أن تكون لذّة تجيب على تساؤل الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون، الذي يعتبر أن السعادة هي نتيجة التعبير الحر عن شخصية الإنسان؛ أي ذلك الوعي الصوفي والحقيقة المتصورة عن وسائل معرفية تخرج عن نطاق المألوف من وسائل المعرفة، وتعول على الروح والقلب والذوق في تحصيل المعرفة. والسعادة تصور سيكولوجي وبحث فلسفي أخلاقي وهدف أسمى تدفع إليها قسوة الحياة والآمها ومشقة الواقع المادي تحقيقاً لغاية قصوى تتوازى فيها المشاعر المشتركة انفعالاً Euphoria بين النفسي والجسدي. فما الجديد الذي -بعد أن كادت أن تستنفد الكتابة في التراث الصوفي – أرادت أن تقوله الكاتبة في كتابها الذي حوى موضوعات متشعبة وعناوين متعددة؟

بهذا التحديد المنهجي (الفكر الصوفي) يكون الكتاب قد اخطت مساره الشَّاق في بحث عن رحلة إنسانية تزداد الرغبة في التوصل إليها داخل تصور إنساني رغبوي وهي السعادة المكتسبة من مجاهدة النفس بالمعنى الروحي في تضَّاد مع ما راَّج من جانبها المادي والشهواني الذي يؤثره الإنسان العادي على ما عداها من لذَّة تحققها محبة الله والتسامح وفضائل الأخلاق.

والبحث عن السعادة بالنموذج الصوفي كما نقرأ في الكتاب وسط زخَّم تراث كتابات وآراء مهولة تراكمت عبر قرون لابد له من صرامة منهجية دقيقة استخدمتها الكاتبة بحثاً عن وسائل تحقيق تلك السعادة كما رآها أهل التصوف، وكيف أن كبار المتصوفة تواضعوا على آليات ووسائل معرفية روحية وذوقية وأسرار عرفانية بالمصطلح الشيعي للتصوف؛ وهو حالة شعورية المنبع تختلف عن أدوات الاستدلال المنطقي والعقلي، إنها العلاقة الجدلية بين الله والإنسان والعالم. وذلك الحوار متصل بين الإنسان ومركزيته المتصَّورة للكون Anthropocentric بهيمنته الافتراضية على ما يحيطه من مخلوقات أوجدها خالق عظيم يقف عاجزاً عن تفسيره وإن نزع أئمة المتصوفة إلى حلول كامل في ذاته Pantheism في خطوة جريئة تعارضت مع النصوص وما صحَّ من متوارث الفقه، موقفاً متقدماً في تجليات الذات الإنسانية. إنها الصورة الصوفية الكليِّة لوحدة أجملها إمام الصوفية ابن عربي صاحب نظرية الإنسان الكامل في ابياته الشهيرة:

لقد صَّار قَلبيِ قابلاً كُلَّ ُصورّة ٍ* فمرعىً لغزلانٍ، ودير لرهبانِ
وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبة طائفٍ * وألواح توراةٍ، ومصحف قرآنِ

أَدينُ بدينِ الحُبِّ أَنّى َتَوجَّهَتْ* ركائِبُهُ فالحُبُّ ديني وَإِيماني

وهو ما تصفه الكاتبة بمحاولة الوصول إلى الله – هي عن حب له في الغالب، حتى لو لم يدرك الإنسان. ومن يحب الله يحب كل عباده وكل خلقه، بمعنى يقارب ما قاله المفكر الراحل نصر حامد أبوزيد. وهذه الفكرة تعكس آخرية الوجود الإنساني من جهة، كما تعكس أفضلية الإنسان من جهة أخرى؛ لأنها تنتهي إلى أن الإنسان وإن َّ استمد وجوده من الكون، فهو متميز عنه بكماله الذاتي وعدم مماثلته لأي جزء من ِ أجزاء العالم على حدة”.

الشخصية الصوفية والسردية:

تمكنت الكاتبة من تنفيذ كتابة مفتوحة احتوتها مسارات متعددة لغوية وفلسفية وفكرية ودينية وتاريخية ولعل ذلك يرجع إلى التجربة المُخصبة في الإدراك الواعي للتجربة الفكرية التي لا تستقيم إلا في وجود ممارسة كتابية مسبقة. فالكتابة في التصوف ليست -بالضرورة- كتابة سردية محضة تتوسل أدوات الرواية لإنتاج نص يستأنف الحدث الروائي. فهل الكتابة في التصوف هي كتابة في الترُّاث؟ وهل الكتابة حول السعادة يستدعي تناولها من باب التصوف دون الممارسات الأخلاقية الإنسانية الأخرى. فالرواية لا تمثل مساراً أو مداراً للتصوف أو الأفكار المجردة ومعلومات التاريخي إلا في حدود التوظيف، كالرواية التأريخية التي تناولت مؤخراً الشخصيات التأريخية والصوفية منها كروايات الروائي المصري يوسف زيدان والسعودي محمد علوان في رواية (ابن عربي الصغير). وعليه فإن النص الروائي لا يتقيد – ولا ينبغي- بالمنظور الأيديولوجي أو الفكري في رؤيته الإبداعية للحدث وإنْ ظلَّ ذلك التأثير من الصعب الفكاك منه.

يعد كتاب البحث عن السعادة مبحثا ينفصل عن السرد الروائي، ولا يقترب مما يمكن تصوره كتابة سردية محضة، فقد استوعب عبر تطبيقيات بحثية منهجية التراث الصوفي بشخصياته وأحداثه وتجسديها عبر ما تجلى من تجاربها وسير أعلام الصوفية وافكارهم. تقارب السياق الروائي في البحث التاريخي عبر تقنيات الكتابة الروائية المستخدمة في البحث أخصب اللغة المستخدمة، وهي لغة تنبثق عن تجربة سردية متمكنة تجلَّت في الحديث عن الشخصيات الصوفية (أعلام) كسيرة رابعة العدوية والغزالي وابن عربي، وابن عطاء السكندري…الخ قدمت تجاربهم على نحو سردي مشوق شكل مع التحليل المعمق نصاً يستدعي إعادة التفكير حول كثير مما أشيع عن الصوفية في المخيلة الشعبية. وأدى البحث عن السعادة إلى خلق أماكن تخيلية (يوتوبيا) صاغتها تصورات فلسفية سابقة ممزوجة بين الفلسفة والتصوف أنتجت مدنًا فاضلة (جمهورية أفلاطون، حي بني يقظان)، والفيلسوف الإنكليزي توماس مور في سياق غربي آخر. فالصوفية على ما يُقرّ الغزاليُّ بأنهم فئة خاصة، ولا يمكن أن يكون العالَم على مثالهم، وإلا لخربت الدنيا، وتغيرت معالمها وفسد نظامها. أو كما في قول الفيلسوف ابن باجة في تصنيف منازل الناس ومنهم السعداء الذين يرون الشيء بنفسه.

فما بين الرواية التاريخية والتاريخ كمادة بالشكل الذي هيمن على الرواية العربية مؤخراً تبحث المقاربة التاريخية للواقعة التاريخية عن أسانيدها في المصادر والمعلومات بما يعرف بالتحقِّيب التاريخي لفترات زمنية تؤرخ للحدث Periodization للاستِيثاق من المادة التاريخية بأدوات البحث التاريخي. فرواية التاريخ والرواية التاريخية ليستا مترادفتين يلزمهما تتابع في طرق الكتابة، ولأن المساحة الفاصلِّة أدبية النصَّ الإبداعي (السردي) والشواهد التاريخية تمثل الفارق بين قراءة التاريخ وتمثيله سرديا. فإذا كانت الرواية انعكاساً للمادة التاريخية بما فيها الشخصية في السيرة الذاتية مثلاً إلا أنها لا تكون مُؤرِخَّة وما يميزها عن ذلك الخيال الذي يحيل الوقائع أو الشواهد التاريخية إلى نطَّاق آخر يكتنفه التشويق والإثارة وحدَّة التخييل. ويتوغل النص التاريخي في كتابات ريم مؤخراً بما يشبه التحول من المرحلة الأولى للروايات آنفة الذكر. ظل التاريخ حاضراً في رواياتها غير التاريخية فقد تناولنا نقديًا روايتها (مرشد سياحي) وما انبثق عنها من المكان والتاريخ وكيفية أن التنوع الذي يسمُّ أعمالها في الشخصيات والمكان والزمن لا ينفصل عن البنية التاريخية: هذا التنوع في الشخصيات الموجودة في المكان جعل منه منطقة تقارب عالمي، فالمكان ببعده الحضاري التاريخي الواقعي يتوافق مع الرؤية الكلية للتصور التاريخي المتجسد في عناصره، يجذب إليه العالم بقوته الكامنة في ماضيه ويعيد تشكيل هذا التنوع الانساني في تعدد الجنسيات، واللغات، والهويات، والسحنات. تحاول الرواية تفسير العالم مجتمعاً في النص الروائي بقدرة النص على تركيب هذه الرؤى سردياً. بما أنها، أي الرؤى تمثل حوار الوجود القائم بين الإنسان ورؤاه والظواهر الطبيعية والوجودية التي تحيط به تجاوزاً لحدودٍ شكلية يسعى السرد إلى هدمها.

شخصيات التصوف والرواية:

إنّ الشخصية في الكتابة الروائية والتاريخية والفكرية إذا كانت محور للبحث (عينة البحث) أو تهمين على الأحداث (البطل) في السياق السردي، لكنها تظل شخصية مستحوذة على وجودها. يتضمن هذا التفسير الشخصية بما لها من دلالة موصولة بحاضر الحدث، فلأن لاختيار الإبداعي لا يمثل – وإن يكن مقروءاً بظروف أخرى – استعادة تاريخية محضة لميثولوجيا متراكمة عن شخصيِّة لها موقع في التصور الشعبي ودور في التاريخ المتسلسل وارتباط وثيق بمأساة الحاضر، أي مرحلة الانقطاع التاريخي وثبات المفارقة للحدث. وقد يقود الاستدلال بالتأمل التاريخي في مصير الشخصية التاريخية إلى استعادة الشخصية إلى مسرح الحدث كعنصر سردي Fictional Character متجاوزًا الأبعاد النمطية والتعريفات السيكولوجية للشخصية Persona بفعل غياب الشخصية عن المثول والحضور معًا. فشخصيات (أعلام، أقطاب التصوف) التي أفاض البحث بالغوص عميقاً في ثناياه الفكرية والحياتية والتاريخية يكشف اهتمام ومعرفة الكاتبة بأثر الشخصية في دائرة الحدث أيًا تكن المسافة التاريخية الزمانية أو الفكرية. وبرصد بحثي ورؤية سردية تناولت أسماء أئمة التصوف: ابن عربي، الحلاج، السهروردي، ابن عطاء السكندري، عبد القادر الجيلاني، الحارث المحاسبي وغيرهم، وبتلك تلك التجربة الذَّاتية التي خاضتها هذه الشخصيات في مجرباتها الصوفية قبل أن يكتبوا أو يتركوا آثاراً توثق لتجربتهم.

ويكاد الكتاب يدور بتركيز شديد على ثلاث شخصيات شكلت خطاب التصوف: أبن عربي والغزالي وإلى حد ما ابن عطاء السكندري، فأطلعنا عبر رحلة وعرة في المطلق الوجودي احتوتها مقامات وأحوال من الألم إلى الحب ثم السعادة. فلم ترد مقولات ابن عربي أو الغزالي كعبارات مستشهد بها في معرض البحث؛ فقد توسعًّت في مناقشة الأفكار في كتبهم على تعقيداتها الفكرية المبهمة من جانب ومواعينها الفكرية الواسعة. فقاربت من بين الآراء المختلفة التي تفاوتت في مستوى اختلافها حول قضايا داخل دائرة الخطاب الصوفي نفسه. فكتابات المتصوفة ومؤلفاتهم ككتاب (الفتوحات المكية) لابن عربي بوصفه كتاباً تأسيسيا في الفكر الصوفي والفلسفي الإنساني مكان خلافٍ منذ قرون أمكنها استجلاء اهم محاوره الخلافية على غزارة وتشعب ما ورد فيه.

وكان لحضور اللغة ورمزيتها الدلالية كما في تجليّ المرويات الصوفية شعراً نبغ منهم شعراء كبار (ابن عربي، ابن الفارض…الخ). ويشير هذا إلى أن الشخصية تمت معالجتها بكل مستوياتها الإنسانية والفكرية والروحية إذا كانت شخصيات (روائية) أو صوفية (اقطاب) على أساس من الفصل بين مجالين يستقل كل منهما عن الآخر دون أن يسقط دور الشخصية في تشكيل الحدث أو الفكرة. فبعض الروايات التاريخية في صيِّاغة اتجاه سردي تاريخي متقن في مزاوجته بين وقائع التاريخ وسياق السرد الروائي محكم بالنظِّر إلى ما يتجلىَّ على مُتن الرواية مستوفية لشروط فنية تمنحُّ النص من وعي التاريخ ومحَّركاته، والنص الروائي؛ إلا أن ذلك لا يعد مؤشراً تقاس عليها ظاهرة الرواية التاريخية بالشكل الذي استقرت عليه مؤخراً. وهو فائض الروايات التاريخية العربية في السردية العربية التي تنتزع شخصيات وأحداث من التاريخ وتمثلها سرديًا في أعمال روائية. 

اللغة ولغة التصوف:

ابتعدت لغة الكتاب (التأليف) عما عهدته غالب الكتابات في المجال الصوفي والديني بشكل عام، وهو اختلاف له بالضرورة منطقه داخل سياق البحث وبنيته ذات المقارنات المتعددة Multiple Comparison. ولذلك جاءت المقاربة اللغوية مزيجاً بين اللغة الأكاديمية البحثية واستخدام إمكانيات اللغة السردية والاستفادة منها في تخصيب لغة البحث؛ وإن أكثر ما تتجلي فيه هذه المقاربة اللغوية السردية في تناول حياة الشخصيات الصوفية. وكان للغة سطوة تكاد تطغى على الأفكار الواردة في المباحث التي قاربتها الكاتبة، ولكن بما أن اللغة الصوفية (أسرار اللغة) لا يمكن فهمها على نسقها في الكلام وما يغمض من دلالاتها التي كثيراً ما يركن إليها أهل التصوف في إخفاء ما يرغبون عدم كشفه أو بتعبيرهم مضنون به على غير أهله. فاللغة في التصوف لا تخلو من إشكال يتمحَّور حول توظيِّفها وتفسيرها (التَّأوِيل الإشاري) كما في قول النفري: “إذا خرجت عن الحرف خرجت عن الأسماء وإذا خرجت عن الأسماء خرجت عن المسميِّات وإذا خرجت عن المسميات خرجت عن كل ما بدا” وهكذا يبلغ مستوى الترميز اللغوي المُلَّغز. ومما يلحظ أن الخلفية اللغوية بالمعنى التخصصي علم اللغويات Linguistics مكَّن الكاتبة من التعامل مع كثيرٍ من المفردات والعبارات التي توحي بغير معناها الظاهر. وقد تناولت الكاتبة ما وصفته بـ) إشكالية اللغة الصوفية) من خلال البحث المعمق على خلفية علم اللغويات. وبما أن اللغة كظاهرة تواصل بشري لها محدداتها ورموزها في الاستخدام الموظف التي استقرت على اصطلاحات وعبارات شكَّلت معجماً كأغلب أسراره الأخرى الخاصة بأهل التصوف والذوق والعرفان والعلم اللدَّنيِّ. ولعب التصوف دوراً مهماً في التراث اللغوي والفلسفي وأصبح جزءًا لا يتجزأ عن ذلك التراث بكل تجسد فيما وراء المعاني الإيمانية والروحانية للفكر الفلسفي الإسلامي كما يرى المستشرق الفرنسي هنري كوربان في كتابه عن تاريخ الفلسفة الإسلامية.

وينزع هذا الاتجاه اللغوي في التصوف إلى إضفاء حقائق مطلقة لا تقل أهمية عن أسراره الطقسية بما يمثله الاحتواء اللغوي بتوازٍ مع رؤية صوفية ترى في وحدة الموجودات وحدة للمصدر الخالق، بمعنى ما تكون اللغة مسكن الوجود نفسه بتعبير الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر.  وأسرار اللغة لا تدخل في دراسات علم اللغُة، ولكنها اختصَّت بها العربية في أديباتها وربما لارتباطها بالنص العربي المقدس بالقرآن الكريم (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) وتطوّر هذا الاتجاه في كتب المفسرين لإبراز الجانب المعجز والمقدس. وقد شكلت اللغة إحدى مدارات التصوف وجانباً حَفَّه الغموض بما تتيحه اللغة من تأويل ومجاز ووسائل بلاغيِّة ومجالاً خصباً كجزء من تأويل العلامات الكونية الكبرى إلى علامات مستغلقة الرموز والحروف لها تقدم تفسيرًا باطنيًا تجاوز النص إلى النفس البشرية بأسرارها الغامضة. فهي لغة تختلف كما ناقشت الكاتبة كمنظومة لغوية تؤدى وفق علاقاتها وقواعدها المستقرة؛ ثمة رؤية لغوية تمكن من وراء الحرف واللفظ والدال والمدلول، ينتهي هذا الجدل إلى لغتين بين لغة الشريعة والحقيقة. لغة التصوف باعتمادها على المجاز والرمز كما تفيد في بحثها اللغوي في لغة الصوفية تعمل على إحالة الكون إلى نص لغوي موازٍ للعالم المادي وترجمة علامته الكونية وبالتالي حمله على تفسير آخر. ولم يكن مدار اللغة محدد بمجالهم كجماعات لغوية، بل امتد إلى النص القرآني في تأويل آياته والأحاديث بما يخالف ظاهر القول والمعنى، وقد أدى كما في قول الكاتبة   إلى حد تكفيرهم لأجل استعمال اللغة. هذا المبحث اللغوي استخدمت فيه الكاتبة أدواتها المعرفية التخصصية وتكمنت من عبر المقاربات الفقهية والتاريخية من استجلاء اسرار اللغة في التصوف.

منهجية الكتابة والنقد:

لم يقدم كتاب (البحث عن السعادة وأسرار اللغة) نقداً للفكر الصوفي في تجلياته الطقوسية أو أصوله العقدية في عروجه نحو آفاق سعادة مبتغاة كما جرت العادة في الكتابات الفقيهة، فقد استعرضت عبر موضوعات الكتاب آراء الصوفية فيما يتصل بالنفس ومجاهداتها كما عبر عنها كبار الصوفية وهو ما أكدته الكاتب بأن الكتاب: لا يتبع طريقة صوفية بعينها، وإنما يقدم الفكر الصوفي للقارئ”. وجاء استعراض ومناقشة هذه الآراء والمقولات وما أؤثر عنهم عبر بحث استقصائي متخذة من المناهج البينية المتداخلة Interdisciplinary في العلوم لجمع وتحليل مادة ضخمة تطبيقاً على تيارات ومدارس وطرق فكرية وأدبية سردية تقارب التساؤل الصوفي نفسه في الوجود. كروايات نجيب محفوظ وبابلو كيلو. والنقد ما يفهم منه دائرة التقييم من رؤية قد تكون لديها تحيزاتها الفكرية أو الأيدولوجية وإلا كان نقداً فقيها له مذاهبة وطرقه التي يغلب عليه التشدد تجاه التصوف كاتجاه داخل الدين.

وبدا أن الشخصيات (أعلام الصوفية) التي تناولها الكتاب تعد أعمدة أو أقطاباً بلغتهم أفضت تجاربهم وكتاباتهم وما نُقل عنهم إلى نتاج خطاب صوفي تراثي واسع التداول في الحياة الدينية والاجتماعية وممتد زمنياً عبر مساحة جغرافية واسعة. وإذا كان التراث تصوف تطور عبر تجارب إنسانية عميقة على مستواها الفكري والإنساني وصدام مع السلطة السياسية والدينية (الفقهية) دفع ثمنه أفراد وجماعات من الصوفية. ثمة شخصيات لا يمكن تجاهلها في تاريخ التصوف ضمن السياق التاريخي والفكري. فلا يمكن بحال تجاهل شخصيات صوفية قلقة مثل السهروردي، والحلاج الذي كتب عنه المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون دراسته الضخمة (آلام الحلاج) La Passion وفلستهم ونهاية حياتهم المأساوية بالشكل الذي خلدته كتابات وثقت لحياتهم المثيرة. ولكن تبقى محددات الكاتب واختياراته خاصة إذا كان البحث في منطقة شائكة وموضوع يعد من أكثر الموضوعات الإنسانية غموضًا في جدلها القائم بين الإنسان والكون درجة تفاعله بين رغائب النفس وقيود الدين والمجتمع. وقد أشارت إلى شخصية الحلاج وخاصة أن الكتاب بنطاقه البحثي الواسع لم يستثنِ أي من طبقات الصوفية المشهورين منهم والمغمورين على طوال تاريخ تراكم السردية الصوفية. فقد قاربت شخصية الحلاج في أعقد مصطلحات جدلية عرفها التصوف (الاتحاد والحلول) وكيف أن استخدامات الصوفية للغة آثار ضدهم من المحن ما وصل إلى حد تكفيرهم، ولا يزال هذا الصراع قائماً بين الصوفية ومن يعتبرون أنفسهم يمثلون صحيح الدين الذي يمثل المؤسسة الدينية الرسميِّة. 

أنجزت الدكتورة ريم بسيوني مبحثاً غزير المعلومات تعددت فيه المباحث الأنطولوجية والتاريخية والدينية وأدب السيرة لذا جاء بصورة معبرة عن محور الموضوع بالدراسة والتحليل والشرح وكل ما تقتضيه تقنيات البحث العلمي. واستندت في أطروحتها على مرجعيات موثوقة في أصولها التأريخية ملزمة منهجها بالتتبع المستقصي للمعلومة التاريخية. واتضحت الفكرة بما يكفي من الوضوح لتبيان موضوع لم يمكن الاقتراب منه دون ثبت من القراءات المنهجية المتعمقة، وتمكنت باحترافية مقتدرة من معالجة الموضوع بأسلوب أدبي رفيع مما جعل من الكتاب مادة شيقة مثيرة. وبوجه من القول، فإن الكتاب على مضامينه الأكاديمية التخصصية لا يقف عند دائرة المهمتين بالتصوف من منظور التخصص، بل يقترب من مستوى القارئ المتخصص والمثقف والعادي. فلم يكن التقارب بين النص الروائي التاريخي والمقام الصوفي في تجليات الكتابة يقود إلى تناقض أداء الكاتب، بل يوسع من مجالات إنجازاته ضمن حزمة من الإنجازات السردية والفكرية أوسع. فقد قاربت التصوف من بعدٍ إنساني بالمعنى الانطولوجي الشامل ليس كمجردات فلسفية أو صور نمطية أسست لها الكتابات العربية التي لم ترِ فيه إلا صوراً مجتمعية سلبية وحالة ردة اجتماعية وكسل ذهني يتلبس الروح الشرقية ولا يخلو من شطحات وشعوذة غير عقلانية.

وتثير الكتابة في التصوف الكثير من الأسئلة وما يمكن تصوره عن نشأته وعلاقته بالدين ومحدداته العقدية ومدى اقترابه أو ابتعاده من التجربة البشرية التي يعتورها الزلَّل، وإن كان الدين مصدره يظل الجانب الروحي وما يمكن تفسيره من وجهة نظرة لأشخاص حكمهم سياق تاريخي فاجترحوا طرائق لمواجهته والتعامل معه اعتبار بزعمهم علم الوجود ونظرية المعرفة غير قابلة للإدراك الحسي. ولعل هذا ما دعا الكاتبة أن تضع في خاتمة الكتاب عنواناً لافتًا (بعض الأسئلة والملاحظات) مما يؤكد أن خوضها في جانب يثير في الذاكرة التاريخية الدينية والشعبية الكثير مما يستدعي شرحاً إضافيًا منعاً للبس واستدراكاً لإزاحة ما قد يساء تفسيره وفهمه. وخلال رحلة متصلة في التجربة الإنسانية تقودنا ريم بسيوني عبر سرديات وفكر وممارسات اتجاهات وشخصيات التصوف متخمة بالثراء الأدبي والبلاغي والتاريخي، وكيف أن السعادة المبتغاة لها أكثر من وجهة، وتأويل، ومعنى، وتفسير. ويضاف أن الكتاب بكل ما حفل به من مادة علمية تاريخية ولغوية يضع تحدياً فكريا أمام الباحثين والمهتمين والدارسين مهمة إدارة حواراً علمياً حول أهم كتاب فكري تناول موضوعاً لم يزل يثير الجدل. ولا تكفي القراءات العابرة للإحاطة بالكتاب ومادته العملية الصلبة إذ يفتح آفاقاً للحوار بقدر إثارته للأسئلة.

…………………………

*  كاتب/باحث سوداني.

مقالات من نفس القسم