جماليات التناص الداخلي في (روح الحكاية) لـ منير عتيبة

روح الحكاية
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

  أ.د أبو المعاطي الرمادي

     التناص في أبسط معانيه دخول نص أو مجموعة نصوص سابقة في علاقة مع نص آخر ينتج عن هذه العلاقة نص جديد يجمع بين سمات النص/ النصوص السابقة وجماليات النص الآني. وهوـ كما يقول فكري الجزارـ: “خاصية ملازمة لكل إنتاج لغوي، أيًا كان نوعه، فليس هناك كلام يبدأ من الصمت، كل كلام يبدأ مهما كانت خصوصيته من كلام قد سبق”؛ لذا لا يمكن أن نعد النص ذاتًا مستقلة؛ فهو نتيجة طبيعية لعلاقات مع نصوص أخرى، تتم بوعي المبدع أحيانًا، وبدون وعي منه في أحايين أخرى.  

     وهو في القصة القصيرة جدًا الوسيلة المثلى لتحقيق الاقتصادين السردي واللغوي المناسبين لطبيعتها البنائية القائمة على الإيجاز الشديد، ووسيلة مهمة ـ كما يقول الغذامي ـ:” لكسر أفق التوقع عند القارئ” المتحقَّق به الإدهاش، أحد أهم ركائز البنية السردية في القصة القصيرة جدًا، إضافة إلى أنه يحوّل النص القصصي القصير جدًا من نص ذي دلالة واحدة إلى نص حواري، بالمفهوم الباختيني، متعدد القراءات والتأويلات.

   والتناص قد يكون خارجيًا فيه يتناص الأديب مع نصوص غيره، مثل: استحضار النص المقدس (القرآن، والإنجيل، والتوراة، والحديث النبوي الشريف)، والنص الأدبي، والنص الشعبي (أساطير، وحكايات، وأهازيج)، والنص التاريخي، وما يرتبط به من شخصيات وأماكن وأحداث، والأفلام والمسلسلات المرئية، وقد يكون داخليًا يمتص فيه الكاتب أثاره السابقة أو يحاورها أو يتجاوزها، فنصوصه يفسر بعضها بعضًا، كما يقول محمد مفتاح.

    وهو تناص له حضوره في مجموعة (روح الحكاية)؛ فإبداعات منير عتيبة* السابقة، لها حضور واضح في قصص المجموعة القصيرة جدًا، بداية من العنوان روح الحكاية، وفضاء القرية الأثير لدى عتيبة في العديد من أعماله الروائية والقصصية، إلى الرؤى التي يرى من خلالها واقعه. سنكتفي هنا بالوقوف على تناص العنوان الخارجي والداخلي، وبيان جماليات هذا التناص.

   1ـ تناص العنوان الخارجي:

   عنوان المجموعة يستدعي خمسة عناوين سابقة لعتيبة، هي (حكايات البيباني، وحكايات آل الغنيمي، والحكايات العجيبة، وحكايات ماكوندو، وحكايات عربية)، والملاحظ في العناوين الخمسة حضور الاسمية، والثنائية؛ فالعناوين تتكون من مقطعيين (روح / الحكاية)، (حكايات/ البيباني)، (الحكايات/ العجيبة)،(حكايات/ آل الغنيمي)، (حكايات/ ماكوندو)، (حكايات / عربية)، والقصر؛ فكلها مكونة من دالين اسميين، والغياب الصياغي؛ فهي تحتاج إلى دال آخر قد يكون قبلها،( هذه روح الحكاية/ هذه حكايات البيباني…)، وتكون في موقع الخبر لمبتدأ محذوف، أو يكون بعدها، ( روح الحكاية قصصي/ حكايات البيباني حكاياتي…) على سبيل المثال، وتكون هي في موقع المبتدأ المحذوف خبره.

   إن عنونة عتيبة لمجموعته بهذا العنوان (روح الحكاية) الذي لم تعنون به قصة من قصص المجموعة، يستدعي _ لا محالة_ إبداعاته الحاضر في عناوينها لفظة حكاية أو حكايات، والبحث عن الرابط المشترك بين هذه العناوين، وليس الرابط بالضرورة رابطًا أسلوبيًا ذا وظيفة جمالية أو تعبيرية، أو تفسيرية؛ فقد يكون إشهاريًا الغرض منه جذب انتباه المتلقي إلى رؤى الكاتب المتكررة في أعماله، والقضايا التي يتبنّاها إبداعه؛ فلكل كاتب عالم أثير يسعى إلى تجسيده عبر نصوصه، لا سيما أصحاب المشاريع، ومنير عتيبة _ في رأيي _ واحد منهم.

      إن تكرار لفظة حكايات في عناوين منجز عتيبة الإبداعي توحي أنه يسعى خلف حكاية منشودة، وأن مشروعه الإبداعي لم يكتمل بعد، والمدقق في منجزه يدرك أن ما أنجزه ما هو إلا وحدات في هيكل هذه الحكاية، وليس تكرارًا للرؤى والأفكار؛ فكل نص له خصوصيته التي تميزه عن غيره من النصوص، وله فكرته الخاصة المحددة ملامحه، لكنه في الوقت ذاته حلقة في سلسلة تؤدي إلى مأمول، وهذا ما يجعلني أقول: إن (روح الحكاية) تمثل مرحلة متقدمة في مراحل سعي عتيبة خلف الحكاية التي وصل إلى جوهرها، والدخول إلى عالمها لابد أن يكون من بوابة الأعمال المتناصة معها.

2ـ تناص العنوان الداخلي:

        بجوار تناص العناوين الخارجية تتناص عناوين بعض قصص المجموعة مع بعضها البعض، فقصة (قرار آخر خاطئ)، يتناص عنوانها مع قصة (قرار جريء)، فالقصة الأولى وترتيبها بين قصص المجموعة الثاني عشر، تفرض نفسها على القصة الثانية وترتيبها الخامس والسبعون، وقصة (انسحاق1) يتناص عنوانها مع قصة (انسحاق2) التالية لها مباشرة، وكذلك قصة (ذاكرة الألوان) يتناص عنوانها مع عنوان قصة (ألوان الصوت)، ومع عنوان قصة (أصابع وألوان).

  إن القارئ غير الاستهلاكي لابد أن يقف أمام العناوين السابقة بسبب الوحدة المعجمية التي تقوم بدور الرابط المشترك (قرار/ انسحاق/ ألوان)، وبسبب الإيحاءات الناجمة عن مواجهة العناوين لبعضها البعض، وهي إيحاءات تدل على وجود روابط مضمونية بين القصص المتشابهة العنوان.

   ويمكن إدراك ذلك من خلال وضع العنوان (قرار آخر خاطئ) أمام العنوان (قرار جريء) والنظر إليهما على

أنهما علامتان دالتان أو أيقونتان مشعتان للدلالات، قبل أن تكونا وحدتين بنائيتين يتعين بمعطياتهما المعجمية

نص قصصي.

_ قرار آخر خاطئ……… قرار جرئي

  العنوان (قرار آخر خاطئ) وحدة بنائية دالة على تكرار القرارات الخاطئة، دون الإفصاح عن طبيعة هذه القرارات، وعمن صدرت، وما الذي ترتب عليها، والعنوان (قرار جريء) وحدة بنائية دالة على اتخاذ قرار لتنفيذ فعل ما، دون الاهتمام بعواقب الأمور، وهو أمام العنوان الأول يبدو وكأنه رد فعل للقرارات السابقة الخاطئة، ومضمون القصة، ومعناها السطحي المباشر يؤيدان ذلك، ففي القصة القصيرة جدًا (قرار آخر خاطئ) تنتحر الشخصية المصدومة في الآخر، بمفهومه الواسع، ثم تفاجئنا عن طريق المفارقة أن قرارها الخاطئ لم يكن الانتحار نفسه، بل الإقدام عليه أمام الآخرين ” عندما التف الناس حولي، شعرت باختناق لمرأى وجوههم المحملقة القبيحة، وعرفت أنني اتخذت قرارًا آخر خاطئًا بقتلي نفسي في وجود الآخرين”(روح الحكاية: ص 17)، والأمر ذاته (اتخاذ القرار) يناقشه عتيبة في (قرار جريء)، لكن من زاوية أخرى، زاوية علاقة المثقف بالسلطة” قرر ابن المقفع نزع قناع كليلة ودمنة، والتوجه إلى السلطان ليخبره برأيه في الأسلوب الصحيح لحكم الرعية، حتى ولو دفع رأسه ثمنًا. عندما وقف أمام السلطان حاول أن يتكلم، فاكتشف أن رأسه مقطوع بالفعل”(روح الحكاية: ص80).

    متصفح المجموعة قبل القراءة سينظر _ لا محالة _ للعنوان (قرار جريء) على أنه رد فعل للعنوان (قرار آخر خاطئ)، بسبب المشترك اللفظي (قرار)، والتضاد المعنوي بين (خاطئ، وجريء)، وبعد القراءة سيبحث بالتأكيد عن العلاقة بين العنوانين، والشخصيتين (السلبي، والجريء)، وعن المغزى الذي يريده الكاتب من وراء وضعهما في وضعية المواجهة، وعن العلاقة بين الفضائين (القديم في قرار جريء، والمعاصر في قرار آخر خاطئ).

  هذا البحث الناتج عن التناص غير المباشر بين العنوانين، والتضاد بين المضمونين أراه محاولة من الكاتب لإبراز رؤيته الخاصة لواقعنا العربي، ورأيه في المثقف المعاصر، وهما رؤية ورأي لا يمكن إبرازهما من خلال النصين، منفردين، بسبب طبيعتهما السردية المكتنزة، فربط بينهما بالتناص ربطًا مولدًا لنص ثالث غير مسطور قادر على نقل رؤيته للقارئ. وكأننا بتناص العناوين يصنع نصًا هلاميًا غير مكتوب، لكنه موجود، ويفرض نفسه على وعي المتلقي بعد الانتهاء من عملية القراءة، يستغله الكاتب الواعي لطرح رؤاه الكبرى في حيز سردي شديد الاقتصاد.

   هذا النص الهلامي يمكن إدراكه بسهولة بالتعمق في العناوين (انسحاق1/ انسحاق2/ ذاكرة الألوان/ ألوان الصوت/ أصابع وألوان)، فالأولى منها حاضرة في الثانية ومتفاعلة معها بشكل أو بآخر، خاصة إذا نُظر إليها من زاوية غير زاوية العنوان المحدد لمضمون النص.

   إن استدعاء عنوان لعنوان آخر للمؤلف نفسه، واستدعاء نص لنص آخر سابق عليه في الترتيب داخل المجموعة القصصية الواحدة دليل قاطع على وجود علاقة تناصية ما بينهما، وإن لم تكن مدركة، يريد الكاتب

المتحلي بتمام الوعي في أثناء عملية الكتابة، جذب انتباه القارئ إلى هذه العلاقة، إما لأهميتها في إدراك مغزى معين يريده دون غيره، أو لأهميتها في تفسير ما غمض في النصين. وهي في جميع الأحوال آلية جمالية لها تأثيرها على عملية التلقي برع عتيبة في استثمار طاقاتها.

………………..

* منير عتيبة: أديب وناقد مصري، ومؤلف دراما معتمد بالإذاعة المصرية، يكتب الرواية، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًا، وقصص الأطفال، من أعماله: حكايات آل الغنيمي، روح الحكاية، كسر الحزن، حكايات البيباني، الأمير الذي يطارده الموت، مرج الكحل، أسد القفقاس، مونجيتيوس، بقعة دم على شجرة، الحكايات العجيبة، ومجموعة كتب فكرية وثقافية ونقدية. فاز بالعديد من الجوائز المصرية والعربية، وانتخبت أعماله مدونات للعديد من الدراسات الجامعية، داخل مصر وخارجها.

* أ.د أبو المعاطي الرمادي، أستاذ  بجامعة الملك سعود ـ الرياض

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم