أكتوبر 1973.. حين عبرنا هزيمة ثم سقطنا في الفخاخ

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
    الجيل الذي عاصر حرب 6 أكتوبر 1973 يذكر «ورقة أكتوبر»، يستدعي المصطلح من ذاكرة متعبة، ولا يكاد يصدق أن ما حلم به صار إلى تلك النهاية الكارثية، ولا يسأل بالطبع أين ذهبت «ورقة أكتوبر»؟ لم تعد تلك الذكرى تنفع أحدا أو تعنيه؛ فبعدها جرت سلسلة من الشراك، قفزات إلى قاع لم نتمكن من النجاة منه. لا يمكن القفز إلى الهاوية إلا من ذروة، قمة صلبة تصلح للانطلاق، وكانت حرب أكتوبر قاعدة تم تدميرها عقب انطلاق رجعنا منه بانفتاح عشوائي هشم البنية الاجتماعية، وأطلق شهوة السعار للنهب، وانتهى بالتبعية لأمريكا، والخضوع لعدو نجح في إثارة الغبار على نصر أكتوبر، بعد أيام من اندلاع الحرب.
أين ذهبت روح أكتوبر؟ لا آثار تذكر، تذكّرنا بتلك اللحظة، في الشعر والرواية والمسرح والسينما والأغاني، على عكس أعمال فنية قبل حرب 1956، وبعد هزيمة 1967، تكتسب أصالة وجمالا وحيوية تدهش جيلا لم يشهد تلك الأحداث، ولكنه يشعر بما فيها من «صدق فني» أودعه مبدعوها أمانة إلى الأجيال التالية. إنه حكم التاريخ، وقسوة الزمن، وقدرة الشعوب على الفرز وانتقاء الطيب من الخبيث، بعيدا عن أجواء مشحونة بالإدانة كما في حالة أحمد عرابي، أو احتفالية رسمية تجبر تلاميذ المدارس، في طابور الصباح، على الرضوخ لجنون العظمة بالغناء لأنور السادات: «يا رسول السلام».
    أراجع كتاب «التفاوض من أجل السلام في الشرق الأوسط»، فأجد إسماعيل فهمي وزير الخارجية يحذر السادات: «أنت تلعب بجميع أوراقك بالذهاب إلى القدس دون أن تجني شيئا، كما أنك ستفقد مساندة البلاد العربية». ويروي أنه قال لمدير مكتبه أسامة الباز وللدكتور محمد البرادعي المستشار القانوني بالوزارة ما سمعه من السادات، فقال الباز: «هذا جنون، لا شك أن الرجل غير متزن. لا بد من منع ذهابه إلى القدس حتى ولو استعملنا القوة. ولم يختلف اعتراض البرادعي بالنسبة إلى فكرة السادات عن موقف الباز». أبرأ فهمي ذمته بالاستقالة في 17 نوفمبر 1977، قبل يومين من رحلة السادات، واختير وزير الدولة للشؤون الخارجية محمد رياض وزيرا للخارجية، «غير أنه خلال ست دقائق استقال رياض أيضا، وحضر إلى منزلي فورا ليخبرني بقراره». (ص 328).
    أما وزير الخارجية التالي محمد إبراهيم كامل فسجل شهادته في كتابه «السلام الضائع في كامب ديفيد» منذ قبوله المنصب على مضض، وعلى مضض أيضا استمع إلى بيجن، وهو يصف لكارتر والسادات صعوبة المباحثات، قائلا إن كارتر بذل جهدا «يفوق العمل والجهد الذي بذله أجدادنا عندما بنوا الأهرامات في مصر، ودوى ضحك وتصفيق»، (ص 614). ولم يكن السادات الكاره للقراءة والثقافة والمثقفين «الأفندية الأراذل»، قادرا على تصحيح خطأ تاريخي، إذ بنيت الأهرام في الأسرة الرابعة، (2613 ـ 2494 قبل الميلاد)، قبل أكثر من 500 عام من زيارة متخيلة لإبراهيم الخليل إلى مصر، وفقا للعهد القديم وحده، ولا أظن البشرية أنجبت يهودا قبل إبراهيم.
     تابع الوزير تنازلات الرئيس الذي كان يتصل بحفيده شريف في باريس، ويداعبه: «انت كخة يا شريف»، ويضحك ويكرر القهقهة أكثر من عشرين مرة. (ص 582). ومن يتفرغ لهذه المداعبات لن يتردد في القول لوزير الخارجية: «سأوقع على أي شيء يقترحه الرئيس الأمريكي كارتر دون أن أقرأه‏». رأى كامل رئيسه «يتحول إلى موظف في حضرة كارتر يتلقي تعليماته‏»، إنها «مذبحة التنازلات»، (ص 603)، فاستقال الوزير في 16 سبتمبر 1978، عشية توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، تاركا مقعده شاغرا أمام الكاميرات‏.
    سيحتج السذج، ويحملون الفلسطينيين مسؤولية «تضييع الفرصة» بترك السادات وحيدا، ناسين أن الوفد الإسرائيلي في مباحثات اتفاقية السلام رفض دخول فندق فلسطين بالإسكندرية، وكان «معدا للمباحثات لمجرد أنه يحمل اسم فلسطين. وفي المقابل أصر مناحم بيجن ـ فيما بعد ـ على ضرورة عقد المباحثات الخاصة بالحكم الذاتي الفلسطيني في القدس بوصفها عاصمة إسرائيل الأبدية»، (ص 327).
    لم يهنأ الشعب بنصر أكتوبر، أطفأ الفرحة توالي الصدمات، كما لم يفرح بعد 25 يناير 2011، لتوالي الصدمات.
    الوعي الشعبي الذي يرتاب في السادات هو نفسه الذي أنقذ أحمد عرابي، وجعل منه وهو الضابط «زعيم الفلاحين». لقب لا يبالي بشيء، ولا بعرابي الذي وصف ما جرى، في مذكراته، بأنه «النهضة المصرية»، ولم ينسب الثورة إلى نفسه.
    لم يتعرض زعيم مصري لما أصاب سيرة عرابي من تشويه، منذ إعلان الخديو توفيق «عصيان عرابي»، ووصفه بالشقي العاصي ابن العاصي والكافر ابن الكافر، الباغي وأتباعه من المفسدين. وبعد الاحتلال البريطاني الذي باركه توفيق، في 14 سبتمبر 1882، قبض على عرابي ورفاقه، ووجهت إليهم تهمة العصيان، وتم تجريدهم من رتبهم، فصار عرابي باشا وزير الحربية «أحمد عرابي أفندي»، وعزلوا من الجيش المصري غير الموجود أصلا، إذ تم حله عقب الاحتلال. صودرت أملاك السبعة (عرابي، وعلي فهمي، وعبد العال حلمي، ومحمود سامي البارودي، يعقوب سامي، ومحمود فهمي، وطلبة عصمت)، ونفوا إلى سريلانكا، وهناك أصيبوا بالأمراض، وتوفي عبد العال حلمي (19 مارس 1891)، ثم محمود فهمي (17 يونيو 1894)، وتبعه يعقوب سامي (30 أكتوبر 1899).
    لم يكن أحمد شوقي يتمتع ببصيرة خطيب الثورة عبد الله النديم وعنفوانه، والأهم بإنسانيته، إذ ظل النديم يراسل عرابي في المنفى: «يا قرة العين لك العذر… ولكنك كنت في بلاد أمراؤها ذئاب وأهلها أحزاب، كل حزب يميل إلى دولة»، وفي نهاية الرسالة يذكّره النديم بهزائم تعرضت لها دول وجيوش: الإنجليز والفرنسيين أمام الرومان (78)، والجيش الإنجليزي أمام غليوم (970)، وفرنسا أمام إيطاليا (1283)، والبرتغال أمام الفلمنك (1600)، وغيرها إلى أن قال: «ولو شطحت في هذا المجال لطال بنا المقال، وما علمت من تواريخ الأمم يمنعني من التطويل الموجب للسأم». وفي رسالة أخرى يخاطبه بأخي وصديقي، ويراهن على الزمن، والوعي الكفيل بإنهاء الاحتلال: «اليوم لكم وغدا لنا».
    عاد عرابي إلى القاهرة (1901) ليواجه هجوما عاصفا أقرب إلى «هتّيفة» ابتلي بهم الإعلام المصري بعد 30 يونيو 2013، (فضائيات الإسلامجية ورجال المال). اتهموا عرابي بالمسؤولية عن الاحتلال. تشهير وتخوين وشماتة لم ينج منها شوقي، وقد استقبله بقصيدة «عاد لها عرابي»، بادئا بهذا البيت:
صَغار في الذهاب وفي الإياب ـ أهذا كل شأنك يا عرابي؟
    وختمها بقوله:
يريدون النساء بلا حجاب ـ ونحن اليوم أولى بالحجاب
فماذا يعلم الأحياء عنا ـ إذا ما قيل عاد لها عرابي؟
    أراجع الشوقيات، فتواجهني قصيدة «على قبر نابليون»، وقد نظمها شوقي في 84 بيتا:
هل درى المرمر ماذا تحته ـ من قُوى نفسٍ ومن خَلق متين.
    عاد الاعتبار إلى عرابي، زعيم أول ثورة دستورية في مصر والعالم العربي. كان الجيش مستاء من التدخل الفرنسي البريطاني في شؤون مصر المالية، وفرض الضباط الوطنيون إرادتهم بتعيين البارودي وزيرا للحربية (فبراير 1881)، ثم كانت مواجهة الخديو توفيق (9 سبتمبر 1881) واعية، شملت مطالب عسكرية ومدنية: زيادة عدد أفراد الجيش إلى 18 ألف جندي، وتكوين مجلس للنواب يناقش الميزانية، ويسائل الحكومة. أصر عرابي ورفاقه على النظام البرلماني، فاستقال رئيس الوزراء شريف باشا، وحل مكانه البارودي، وأصبح عرابي وزيرا للحربية، (فبراير 1882)، على غير هوى مندوبيْ «صندوق الدين» اللذين يراقبان الميزانية. وتلاحقت الأحداث فطالبت بريطانيا وفرنسا حكومة البارودي بالاستقالة، واقتربت قطع من أسطول الدولتين من الإسكندرية، واستقال البارودي وظل عرابي وزيرا في حكومة ترأسها الخديو. ثم افتعلت فوضى في الإسكندرية فضربها الأسطول البريطاني (11 يوليو 1882)، وأصبح التحالف سافرا بين الجيش البريطاني والخديو الذي عزل عرابي، واتهمه بالخيانة العظمى، وانتقل ميدان المعركة إلى التل الكبير، لمواجهة جيش الاحتلال القادم من قناة السويس، ووقعت الخيانة فانهزم عرابي.
    الجنود هم أنصار عرابي في مواقفه الدستورية والعسكرية، وقود الحرب، أصحاب النصر في أي معركة، ولا يسألون عن رعونة الساسة وخطاياهم وخياناتهم، وإذا تعرض زعيم وطني لخيانة ناصروه، تزامنا مع نهوض الوعي العام الأكبر من الخونة والمتواطئين.
    الاستهانة بذكاء الشعب، أي شعب، جريمة استعلاء، تثاقف استشراقي؛ فإحساس الشعوب لا يخطئ، يستعصي على هواة السياسة ومحترفيها، ويصطفى من يشاء، فما أكثر المعاول التي أسهمت في هدم سيرة جمال عبد الناصر وصورته، مبادرات ذاتية أو مدفوعة زادته جمالا يكتمل بنقصه. وليست الهزيمة في 1967 عارا، فالأهم هو الاعتراف بالخطأ، وإعلانه «سقوط دولة المخابرات»، وبناء جيش احترافي. وكان خروج الشعوب في مصر والعالم العربي وعواصم غير عربية، في يونيو 1967، رفضا لكسر هذا النموذج في الاستقلال الوطني.
    أستعيد ثلاث سنوات عقب النكسة، فأجد ثراء دالا، أكثر من عشرة أفلام من كلاسيكيات السينما المصرية، صنعت بالتوازي مع إقامة حائط الصواريخ، ودوران آلات المصانع، دون شكوى من ارتفاع الأسعار: «الزوجة الثانية»، «قنديل أم هاشم»، «يوميات نائب في الأرياف»، «المتمردون»، «البوسطجي»، «شيء من الخوف»، «الرجل الذي فقد ظله»، «ميرامار»، «غروب وشروق»، «المومياء»، «الأرض».
    خطيئة عبد الناصر أنه أسس دولة الرجل الواحد، يفكر وحده نيابة عن الشعب «المعلم»، ويحلم وينفذ وينتحر عملا وإخلاصا ونزاهة، فكان لا بد أن يموت في الثانية والخمسين، وملامحه تتجاوز الثمانين، تاركا دولة يتوارث حكمها أفراد غير مؤهلين، يديرون دفتها، في غياب المؤسسات، باتجاه آخر، نحو كارثة.
………..
(افتتاحية مجلة “الهلال” أكتوبر 2015).

مقالات من نفس القسم