محمود خيرالله: الإبداع ليس حلبة تتصارع فيها الفنون

محمود خير الله
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره:  مصطفى عبيد

في قراءة لبعض ما ينشر في الصحافة الثقافية العربية نجد نوعا من الصراعات المفتعلة التي لا تتجاوز الجدل العقيم. ومن بين هذه الصراعات صراع الرواية مع الشعر. فكل مختص يقدم هذا الجنس الأدبي على الآخر، بينما هما متكاملان. “العرب” كان لها هذا اللقاء مع الشاعر المصري محمود خيرالله حول أهم قضايا الشعر والأدب في عالمنا العربي.

 

الشعر جمال وسحر وإبداع أخاذ، يسحب مشاعر الناس ويُحلق بها في فضاءات لا سياج لها سعيا لخلود حقيقي، وسحبا لُعشاق ومتابعين مازالوا يرون الشعر قادرا على الإمتاع وجديرا بالمؤانسة. وتتلون الحروف في أحيان كثيرة لتتجاوز رص الكلمات واستخلاص الموسيقى لفتح نوافذ الخيال فتتحول القصيدة إلى لوحة، والشاعر إلى رسام يُضيف التفاصيل للوصول إلى مشهد مبهج.

ويُمثل الشاعر المصري محمود خيرالله نموذجا لمزج الشعر والفن التشكيلي معا، نشاهد قصائده قبل قراءتها، ونتذوق جمال تفاصيلها خيالا وسحرا قبل اللغة وكأننا في مرسم بديع.

كتب الناقد المصري شاكر عبدالحميد، وزير الثقافة الأسبق عن تماس قصائد خيرالله مع الفن التشكيلي في دراسة بعنوان “جماليات النوافذ والشرفات” عن ديوان الشاعر الأحدث المعنون “الأيام حين تعبر خائفة”، ذكر فيها أنه يكتب الشعر كما لو كان يرسم لوحة تشكيلية.

 يقول محمود خيرالله في حواره مع “العرب”، إن الشعر على وجه الخصوص يتطلب من الشاعر تذوق الفنون جميعا واستطعامها وهضمها، وسعى منذ بدايات مشواره الإبداعي إلى أن يغتني كشاعر بالمسرح والسينما والعمارة والقصة القصيرة والرواية، وبالفن التشكيلي أيضا.

يرى الأديب المصري، أن الفنان التشكيلي يبدأ لوحته بالتفاصيل الصغيرة التي سرعان ما تتحول إلى عناصر متكاملة، وهو عين ما يقوم به الشاعر، ويضيف “لو أتيح لي أن أتعلم العزف على آلة موسيقية سوف أفعل، لأن الفنون جميعاً ترفد بعضها بعضا بروح جمالية، تجعلها تتشرب القيم الجمالية في كل عصر، والشاعر في أمسّ الحاجة إلى ذلك”.

نلمح تفاصيل اللوحة الجميلة في الكثير من قصائده، مثل قصيدة “يرفرف عاليا” التي يقول فيها: ما من قلب يرفرف عاليا/ متكئًا – هكذا- على ظهر طائرة ورقية/ تميل وترتفع/ تحت سماء الله رائقة/ بين السحب/ إلا وكان طرف خيطه ينتهي/- متعرقا-/ في قبضة صبي جائع.

وفي قصيدة أخرى، يقول: بعض الشرفات تودّع حياتها التليدة في البناية/ وتهوي على الأرض/ مرة واحدة/ كأنها قررت/ فجأة/ أن تنتحر.

وينتمي محمود خيرالله، إلى جيل التسعينات وهو يعمل بالصحافة، وصدرت له عدة دواوين، أبرزها: “لعنة سقطت من السماء”، و”فانتازيا الرجولة”، و”ظل شجرة في المقابر”، و”ما صنع الحداد” الذي شارك به في مهرجان شعراء البحر المتوسط في مدينة سيت الفرنسية عام 2015، وتمت ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتُرجم على يد المترجم الجزائري عبدالقادر كعبان إلى اللغة الإسبانية، وللشاعر كتاب بحثي بعنوان “بارات مصر”.

وإذا كان الديوان الأحدث للشاعر، وهو “الأيام حين تعبر خائفة”، والصادر عن الهيئة العامة للكتاب بمصر، محملا بصور غريبة ومشاهد غير معتادة، فهو يرى أن مهمة الشاعر أن يكتب ما يدور في داخله، من أوهام وأحلام وشظايا كلام.

التعريفات الدقيقة والنبيلة لقصيدة النثر لن تقول لك شيئا عن الحرب التي تخوضها هذه القصيدة في الثقافة العربية

ويوضح خيرالله لـ”العرب”، أن الشاعر غير مطالب بأن يقدم تفسيرا لما يكتبه، فإن لم يكن ما يكتبه قادرا على إثارة الأفكار والمشاعر، وربما الجدل داخل عقل القارىء، وفي وجدانه، فلن يهتم به أحد.

ويؤكد أن ديوانه الأخير الذي صدر في يناير 2019 نال من الاحتفاء قدراً فاق كل توقعاته، وكُتب عنه العشرات من المرات، بين دراسات بحثية مطولة، ومقالات متوسطة الطول وبعض القراءات الصحافية السريعة.

يحلق الشاعر كما يشاء في فضاء الخيال ويدعي تفسير ما يقول للقارىء كل حسب إحساسه بالكلمات، وحسبنا أن نقرأ له في قصيدة “كل ما صنع الحداد” قوله: يا من تعيشون هنا/ لا تصدٌّقوا السحاب الذي في السماء/ إنّه فراء زوجة الرئيس/ بعدما علّقتْه على شمّاعة الرب/ وإذا صادفْتٌم أسداً هارباً/ من حديقة قصْر/ كذّبوا عيونًكم/ لأنه ُمجًّرد صديق مخلصٍ/ لسعادة الرئيس/ تأكدوا دائماً من كل شيء/ انظروا مثلاً إلى سجاجيد القصر/ وهي تنبُضُ تحت أقدامِ الوفودِ الأجنبّية/ إنّها شُعيرات الصبايا/ اللائي قًتًلهنّ الوباء.

يرى الشاعر المصري أن قصيدة النثر تمثل تحقيقا نموذجيا للتطور المنشود في الإبداع الشعري، والتعريفات الدقيقة والنبيلة لقصيدة النثر في الغرف مثل ما رآه ماكس جاكوب، وسوزان برنار، لن تقول لك شيئا عن الحرب التي تخوضها هذه القصيدة في الثقافة العربية، كما لن تقول لك شيئا عن الانتشار الذي تحققه كل يوم كقوة هدامة للمثل والأفكار القديمة، وهي المنوط بها أن تقود الفنون كلها، من أجل أن تلعب دورها الحضاري، وتطوير وعي الناس وتغيير نظرتهم إلى واقعهم، وهذا هو السبب في أن قصيدة النثر تُعتبر في بلادنا اليوم عملاً من أعمال الشيطان.

الحرب على الشعر

يشير خيرالله إلى إن هناك مُعاملة سيئة جداً يتلقاها الشعر عموماً ومن كل المؤسسات الرسمية، وما يراه البعض تناقصا في جمهور قصيدة النثر يراه هو تزايداً غير مسبوق في الانتشار والتذوق والتأثير، ومن يعرف شيئا عن تاريخ هذا النوع الأدبي يدرك أن الرغبة في محاصرته خلال العقود الأربعة الماضية من قبل مُنتفعين يعملون في مؤسسات رسمية عاتية، وليس أدل على ذلك من اتهام بعض شعراء التفعيلة لشعراء قصيدة النتثر بأنهم “حرافيش”.

حول مقولة البعض بأن الرواية انتصرت على الشعر يقول الشاعر المصري في حواره مع “العرب” “إنني لا أستطيع أن أرى الفن كما لو كان حلبة للمصارعة، فالفنون تبدو قيمتها الحقيقية حينما تتجاور، والأصل في الفنون أن تتكامل وترفد بعضها بعضاً، بحيث يصير الشعر هدفاً من أهداف كاتب الرواية”.

وعلى العكس قال الروائي الأميركي وليم فوكنر، بمنتهى البساطة ذات مرة “نحن شعراء فاشلون”، وحين اقترحوا على الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ أن يكون هناك مؤتمر يمنح جائزةً للرواية كل عام، رد باقتراح أكثر وجاهة، هو أن يكون المؤتمر سنوياً نعم لكن بشرط أن يكون في عام مخصصاً للشعر وفي عام مخصصاً للرواية.

يقول خيرالله، “أعتقد أن هذه النظرية التي تزعم أن الرواية انتصرت على الشعر هي ابنة التصور الساذج الذي شاع عن مقولة زمن الرواية، تلك المقولة التي لم تكن مفهوماً نابعاً من قراءة الناقد المصري جابر عصفور، لواقعه الأدبي، بل هي على العكس نتيجة طبيعية لممارساته على الأرض، وهو الرجل الأكثر نفوذاً في وزارة الثقافة المصرية منذ عقد التسعينات من القرن العشرين، وربما إلى اليوم”.

إذا كان البعض يرى أن العمل الصحافي للأديب يؤثر على إبداعه فإنه يتفق نسبيا مع ذلك التصور، مشيرا إلى أن هناك طريقين فقط للنجاة من هذا التداخل، أولهما ألا تعمل في الأصل في تخصصك، أي الصحافة الثقافية، وتلجأ للعمل في قسم آخر للصحافة، مثل الاقتصاد، وهو تفكير رومانسي جدا، والثاني أن تقبل التحدي وتعمل في الصحافة الثقافية بحرص شديد وتتجنب خلط الخاص بالعام وتعمل بموضوعية.

ويذكر محمود خيرالله أنه بعد هذا العمر، وقد قارب على الخمسين، يتذكر مقولة الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور “إن ما تنشره الصحف والدوريات ينساه التاريخ”، وبعد ربع قرن من العمل في الصحافة قرر الاكتفاء بعمله الأساسي كنائب لرئيس تحرير مجلة الإذاعة والتلفزيون، بجانب عمله كمدير تحرير لمجلة الثقافة الجديدة، الصادرة عن هيئة قصور الثقافة بمصر.

ويعمل خيرالله حاليا على مشروع مختارات من قصيدة النثر العربية بعنوان “طائر فزع بين الأغصان”، كما يعمل على كتاب بحثي بعنوان “مزاج الباشا.. تاريخ ثقافة الخمور في مصر”، فضلا عن ديوان شعر جديد لم يقم بعد باختيار عنوانه.

…………….

*العرب اللندنية ـ الجمعة 2020/11/27

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم