رواية “دابادا” لحسن مطلك: جماليّة المعمار الروائيّ وقوة السّرد المراوغ

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هشام بن الشاوي *

يستهل حسن مطلك روايته الماتعة "دابادا" بوصف الخريف،(وهو فصل الكآبة بامتياز، حيث يثير قدومه في النفس شجنا مجهولا، وخوفا مبهما من النهايات)، وهاجر /أم شاهين وهي تلملم الحطب، فتشتعل الذكرى الخريفية التي لا تخبو: ذكرى محمود، الزوج الذي ضاع في البراري بسبب أرنب مبقع، ويصافح القارئ حزنها غير المعلن عنه، الحزن على الابن المنعزل عن الناس، الأبله الذي لم يتجاوز الطفولة، وهو في سن السابعة والعشرين، ولا يمكن أن نغفل الدلالة العميقة لهذا الرقم المقدس دينيا.

و نبدأ في التعرف على شاهين، وهوايته الوحيدة في غرفته العلوية، وهي التلصص على الصباحات الندية.. يستيقظ قبل الشمس ليرى الطيور، وفجر الحقول يتسلل إلى غرفته.

للتوضيح، الرواية، وكما أكد الكثيرون من الصعب الإلمام بتفاصيلها، حيث أن السارد العليم يراوغ القارئ عبر رواية تبدو مثل قصة مسترسلة، عكس بقية الروايات التي تتيح للقارئ، محطات استراحة واستجمام بين الفصول المرقمة أو المعنونة، أما رواية “دابادا”، فتبدو أشبه بسباق ماراثوني، سباق يتحدى فيه حسن مطلك نفسه لاغير، غير معني بمجاراة أو محاكاة ما يكتبه الكتبة أو أصحاب “دكاكين الأدب”- كما كان يدعوهم- من روايات ترمى بعد القراءة الأولى، مثل ورق الكلينكس!!

لا أنكر أنني كنت أهجرها لفترات، مستاءً من تلاعبات الكاتب بالقارئ وبالأحداث والشخوص. أحياناً، أضجر من لغتها الشعرية المتعالية الباذخة، إذ تحس أنك بصدد قراءة قصيدة نثر سرمدية، فتضيع خيوط الحبكة في دروب المجاز، وأزقة الاستعارة، وتارة، أسأم أجواءها القريبة من الواقعية السحرية.

لكن وأنا أقرأ الرواية، كنت أتخيلها (سيناريو) سينمائيا، حيث يعنى الكاتب بالمؤثرات الصوتية، برسم الإطار (الكادر)، وبناء المشاهد على طريقة التقطيع السينمائي، حيث تتجاور اللقطات، تتداخل، وتتوازى، ولن نستغرب، لأن حسن مطلك كان رساماً، وهذا ما يفسر وجود شخصية عواد، الفنان التشكيلي المحبط، الـ “ملتاع مثل خسارة نهائية”. تأملوا جيداً هذا التشبيه، حتى تشفقوا على قارئ هذه الرواية!!

لنعد إلى المتن الحكائي.

تذهب الأم إلى المطبخ، وتوقد ما تبقى من الحطب، ونرى شاهينًا يتلصص على أربعة رجال وامرأتين في البيت المقابل له، يضحكون بعيون دامعة، وسط رفعة الأثاث، ويبدو له “ترف الحياة التي تعلو مقابل شباكه”، ثم يغوص في تخيلات مستقبلية…

تبدو هاجر في كامل أناقة الحداد، وتنتظر أن يكبر ابنها، الذي لا يشبه أباه، الأب الذي كان مليئا بالغناء، وكان ميلاده (الأب) حدثا استثنائيا، وكان يركض خلف الأرانب بعد خطواته الأولى. وشاهين لا يعرف كيف يقول: أمي، ولا ترى إخلاصه كبقية الأبناء، حيث يسألون عن طبخة اليوم، فقط ترى جحودًا مشعًا، وتنادي عليه أن ينزل، ويغادر شباك الضحك، والجيران اللاّهين، المحتفلين بـ “ذكرى المعذب صابر يوم الأربعاء بعد المطر”، تأمره أن يلبس ويتبعها، بعد أن تصفعه، ومن بين أصوات الحيوانات والحشرات، كان يكتفي بالإصغاء إلى حفيف عباءة هاجر… وكما سبق وأشرنا، فالكاتب يعتمد على طريقة السرد السمع- بصري، مثل كتاب السيناريو، حيث يمكنك تخيل المشهد بكل تفاصيله، والإصغاء إلى ما يرافقه من أصوات خارجية، لكن حسن مطلك لا ينسى الغوص في أعماق شخوصه أيضًا، والإصغاء إلى ضجيجهم الداخلي، فيكتب عن شاهين ومشاعره الغريبة اتجاه أمه، ونحسّ بأنه “لا يكرهها، لكنه فقط لا يعرف كيف يقول: أمي”.

ويلج شاهين مقهى صغيرًا رخيصًا، حيث الوجوه القاسية تدخل بصحبة غبار الطريق، و تنساب الذكريات، الضحك والمزاح الثقيل… في انتظار الغائبة. لكن، يخيل إلينا أنه كان يحلم فقط، كما أن السارد لم يحدد لنا أين اتجه مع والدته؟!

يعود السارد ليغوص في أعماق شاهين المفتقد للحميمية العائلية، وكذلك قسوة الأب الضائع في البراري، وهاجر تنتظر عند الباب، في إشارة إلى جرحها النازف في صمت، وهو انتظار أشبه بانتظارات مسرح العبث… وسيدرك القارئ أن لشاهين رغبات حميمية أيضا، حيث غواية الحفيف السري للثياب، وهذا ما يفسر بعودة الصبي، شاهين إلى بيت الغائبة، التي تغيّب الحاضرين وهي تفك ضفائرها، ويغرق في أحلام هلامية… مرة أخرى.

ونلمح شاهيناً في شباك الضحك، والفتحات (الأفواه) الست غارقة في نشيد الضحك المتواصل، وحين يسمع صرير الباب، يندس في الفراش، وتسأله أمه عن سبب تركه لها وهروبه، وتخبره بضرورة البحث معها عن أبيه في الغد، فهو لازال حيّاً، كما قالت وزة. في الجوار، يخبو الضحك، ويذوب في تأمل مفردات المشهد الليلي، يتذكر خديعة الختان، وهو الذي لم يضحك ضحكة حقيقة بعد تلك الخديعة.

بعد احتباس طويل عن رؤية الفصول، يقرر أن يخرج إلى الناس، بعد أن صار رضاه نادرًا، والرسائل تعاد إلى أصحابها لأن لا أحد يعرف شاهين محمود. يخرج بخطوات مربوطة في اتجاه وادي السدرة، ونخمن أن الروائي يكتب عن قريته (اسديرة) ايحاءً، وعن العلاقة الغريبة بين شاهين وعواد، والحمير الطينية التي كان يحطمها الرجل التقي (أب عواد) باعتبار أنها أصنام، وعلاقة عواد بالكلب شرار، جرو الكلبة الغدارة التي تعض الأطفال، وعزيزة ابنة القطان، التي تختلف عن بقية نساء القرية المنشغلات بجلسات نقش صوف الوسائد…

عزيزة التي يرى شاهين في عينيها الشيطانـتين تعابير أخرى، حتى لو لم يكن يعرف غير هاجر، ولا يعرف كيف يقول لها: أمي. يقف مسحورًا أمام عينيها، لا يعرف أي تفسير لنظراتها، وحين يبدأ عواد في رسمها، يغادر شاهين، ويعترف عواد بعدم قدرته على مجاراة السحر الربّاني، وبغرور الأنثى وإحساسها، تقول له في زهو :”فلتتعذبا بي، أنت وصديقك”.

بيد أن العلاقة الأغرب هي ذلك الميل الخفي إلى عالية، والدة عواد، ذات الأربعين شتاءً، بطقوسها اليومية: الوقوف بالشباك، البرنامج البدوي، السجائر الحادة ، وتغيير الثياب.

عالية التي تستمع إلى ربابة البرنامج البدوي منذ عشرين عامًا، بخلاف ابنتها زهرة، التي لا نعرف عنها من خلال المتواليات الحكائية سوى أنها أخت عواد، وتنصرع عند ذكر الزواج، وأمها تخشى مضي الأعوام، والتي لن تكون جديرة سوى بإقامة الصلوات وفق حسابات زوجها مسعود، والذي ينهرها قائلا، حين يراها واقفة في الشباك:

– لست صغيرة يا عجوزي.

يتعلق بصر شاهين بها، ولا يسقط عليها… وعند النهر يلتقي بعزيزة، التي تصر على أن يتعلم ركوب القارب، ويتذكر رحلات الصيد مع أبيه، ويصاب بالدوار، وهو يمد يده ليلمس أنثى…

منذ عشرين عامًا، توقظه هاجر، يفتح الباب ويجد الأربعاء دون أن يعرف الجمعة، وخسارة فادحة- بالنسبة له- أن يكتشف أن” أسوا عمل يقوم به الإنسان هو: أن يفتح الباب”.

الأربعاء الذي يحسبه ثاني أيام الأسبوع، حزين لأنه مدهون بلون سرة اللحاف، وكل صباح يسمع نفس الأخبار المتجهمة عن الكوارث والحروب.. يذهب إلى بيت عواد، تحدثه عالية – في محاولة يا ئسة لإغوائه- عن بقعة حمراء في فخذها، قرصة حشرة.. تسأله إن كان يعرف التدليك، وببلاهته يشير إليها أن تحك الفخذ بالحائط، مادام الفخد فخذها.. يدخل زوجها مسعود، ويحثه على أن يتعلم الصلاة حتى لا ينجرف مثل ابنه، لا سيما واليوم يوم جمعة، ولأن اليوم جمعة، فقد ظنه شاهين أربعاء، وحين أخبرته زهرة أن عوادًا في المقبرة، قال لها ببلاهته: “متى حدث ذلك؟ يجب أن أتألم”، فاستدركت بأنه على قيد الحياة…

وعن طريق التداعي، ينتقل السرد إلى المقبرة ووصف أجوائها، وسرد حكاية الشيخ عبد المجيد الذي جن قبيل موته، بعد أن دس له حلاب سم الفئران في الطعام، حتى يصير مختار القرية، ويبدو قبره أشبه بمزار، بعدها نتعرف على حلاب، الذي لم يبصر إلا بعد بلوغه السن الخامسة، حيث فتحت قبتي عينيه بسكين البصل إحدى العجائز حتى يبصر، وكان يتساءل دومًا: “هل يصلح هذا الوجه للحب؟”.

يرى شاهين أمه في الصفوف الأخيرة، تشيخ أكثر عند حلول المناسبات، تحتجز في قلبها دموعا مؤجلة، وينقل بصره نحو العراء، لأنه لا يحتمل صدق تلك الابتسامة. ومن المقبرة نبحر في اتجاه النهر، واللقاءات الغرامية، وتأرجح قلب عزيزة بين عواد وشاهين…

تطلع العجائز من الوديان بمناسبة خروج ابن هاجر إلى الناس، ملبيات دعوتها، تنزع ثوب الحداد، وتصعد إليه، بصحبة إحدى النساء، تطلب منه حمل البندقية والتماسك، بعد ارتداء زي احتفالي، يتذكر جولاته مع أبيه، بيد أن الراوي يستدرك بأن شاهيناً “يحلم أكثر مما يتذكر”.. حسن مطلك وبسخرية مبطنة يستفز القارئ، الذي تعود على قراءة الروايات التقليدية، ويخاطبه قائلا بأنه لا يعرف من أبطال الرواية أحدًا، وأنه يكتب بمنطق: املأ الفراغات التالية، حتى تصير الرواية أكبر حجمًا…!!

يكتب عن انكسار عواد، ولقائه بعزيزة بعد عامين من المقاطعة، وقد صارت أكثر بهاء وشجاعة في النظر إلى وجهه، ثم الحديث عن شخصية صاحب النظارة السوداء الغامضة والذي يحمل المسدس معه دائماً، وحديثها إلى شاهين – دون ذكر اسمه- عن علاقتها بعواد التي أنهتها، لأنه مرتفع عنها، وتشعر أنها صغيرة.

وسيتضح أن السارد يراوغ القارئ مستخدما تقنيات شتى: الاستباق، الاسترجاع والتأمل، تعطيل السرد وتسريعه، الحذف والتكرار، التداعي، تيار الوعي… ويعود إلى الحديث عن الذئب الذي طارد محمودًا وشاهيناً، حين تعطلت السيارة في الحفرة، والعواء الذي سمعه قبل عشرين عاما، وقد حاول أن يهاجمهما الذئب، فلجأ الأب إلى إضرام النار في قميصه ثم سرواله، بعد أن يجعل الثوب على شكل فتيل…

يستدعي حلاب شاهيناً، وترفض أمه، يهدد رجاله بكسر الباب، وفي أجمل المشاهد السردية المتزامنة، يتنقل حسن مطلك بعدسته بين هاجر وعزيزة وشاهين…. في أماكن مختلفة، يوحدها الظلام والترقب، معتمدًا على تقنية التقطيع السينمائي المتوازي ببراعة، ثم يعود إلى الليلة الماضية، وإلى ليلة عودة والد شاهين حاملاً ذئباً على كتفه، وإلى عزيزة في مخزن التبن تنتظر عوادًا، بعد أن ظنت بأنها قد تواعدت معه، لكن الذي يأتي هو صاحب النظارات السوداء، تسأله عن أوان الزواج، ويضربها، حين تسخر منه قائلة إن زواجهما سيكون حين تكتمل اللوحة.

وفي الظلام يتم استنطاق شاهين، حيث لا يسمع غير احتكاك الخفين.. ويقربنا الكاتب من حلاب، غريب الأطوار، عن طريق ثرثرة زوجته مع إحدى النساء متفاديا بذلك كسارد عليم الوقوع في فخ التقريرية والمباشرة، فنعلم أنه يكتئب من نفسه، يمزق ثيابه بلا سبب، يتألم لرؤية الفقراء، ويعجبه الظلام… وفي الظلام يتشاجر أهل البيت بسبب الملاعق.. هنا لا بد للإشارة إلى السخرية الطافحة عبر المتواليات الحكائية والسردية، والتي يدرك الراوي متى يستخدمها لتبديد قتامة المناخ الروائي، وإزاحة بعض الملل عن القارئ. ويطلب منه العودة في الرابعة صباحا، وفي تلك اللحظة، تقبل أمه تسأل عنه، ويرد عليها بأنه كان يعلم ابنها الحساب، ليجد له مهنة مناسبة…

يراقب شاهين الفجر، يحس بأنه حزين، ويريد أن يبكي.. وقبل ذهابه إليه تناوله أمه مدية.

في الطريق يصادف شاهين امرأة تخبره بأن عزيزة تنتظره عند السدرة، وفي اللحظة ذاتها، يسأل عنه حلاب بعد أن غادر سريره المعد لثلاثة أشخاص، تقابله بوجه مليئ بالكدمات الزرقاء، تحدثه عن عواد الذي سافر إلى العاصمة، بحثا عن الشهرة، وتؤكد له بأنها لا تحبه، حتى لو طلبت مقابلته.

يقوم رجال حلاب بقص شعر شاهين مستخدمين مقص جز الصوف، ويحتفلون بحدث انضمام شاهين إلى رعايا حلاب، تسمع هاجر ضحك الضيوف وصوت ربابة شعبان، ويصير شاهين مسؤولا عن الحمار قندس، الأغرب من صاحبه، وللتخلص منه قام شاهين بطعنه وهرب عبر فتحة السياج، ويحمله عارف في قاربه إلى الجبل، وفي القرية يبحثون عن الهارب متأسفين على قندس، لكن عارف يخبره -لاحقا- بأن الحمار لم يمت، يفاجئنا السارد بأن شاهيناً استخدم المدية بالشكل المعكوس، فالدم دمه، وليس دم الحمار… لكن كيف لم ينتبه عارف إلى الدم النازف، من يد شاهين، والذي سيبقى ينزف لمدة، حتى لو افترضنا أنه أبله، وسيظن أنه قتله…؟

وكنوع من الخلاص أو العقاب الإلهي، يموت حلاب بسبب قرصة الحشرة، وينقلنا حسن مطلك إلى أجواء غرائبية عن النهر، والليل، والجنيات المنهمكات في الحفر..

ونراه يركض خلف آلام الليل، والقرية تستيقظ ضاحكة، كل ما فيها من كائنات حية يضحك، حتى النباتات.. وثمة رجل غريب، ضيف عابر، نام خجلا بفضل تكرار الكرم، (لم يحدد السارد من هو)، يتساءل: ما الذي يضحككم؟ يهز مهد طفلة مضيفه، ويسألها وهو لا يعرف ماذا يحدث، ثم يهمل رأسه، ليكمل نشيد الضحك الناقص…. وقبلها نتلصص على البيت اللاهي، والمسمار المشويّ ينطفئ في الماء، ويضحكون لسماع صوت”الكش”.

“دابادا”، صرخة باحثين عن الحرية والانعتاق، وتعرية لأوضاع سريالية يعيشها العراق ولا زال، ولعل هذا التوق الهائل إلى الحرية المجيدة المشتهاة في زمن النخاسة الفكرية والخراب الداخلي واللهو المجاني، هو ما جعل الروائي يلجأ إلى تحطيم أسوار الرواية التقليدية، كما كرسها الأسلوب المحفوظي، بالإضافة إلى تجاوز اللغة العادية الشاحبة، واجتراح عنوان غير مألوف وغريب، وهو – العنوان- ليس سوى تهجي الطفل في بدايات النطق:(دا.. با.. دا..)، و تفتيت الحدث السردي، بحيث يصعب القبض على تفاصيل الرواية، التي تحتاج إلى أكثر من قراءة، وهي الرواية التي قال عنها في مراسلة خاصة مع عبد الهادي سعدون بأنها أتعبته ويريد أن يستريح.. ولا يرغب في الحديث عنها!

وهي رواية متعبة حقاً، لكن سر حلاوتها، يكمن في تمنعها ودلالها…!!!.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*ناقد مغربي

مقالات من نفس القسم