قراءة في “دفتر النـائم” لـ شريف صالح

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سليم شوشة

يتسم قص شريف صالح بصفة عامة وفى مجموعة دفتر النائم بشكل خاص بعدة خصائص تميزه. فمن جانب يمكن عده نوعا من القص داخل حدود القصيدة، سردا قصصيا لا يعترف بالحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، وهو الأمر الذى ينعكس على لغة السرد، ويمنحها بعدا جماليا خاصا، وينتج شعرية قصصية ترتكز على الغرائبى أو النموذج المحطم للنمط والتقليدية.

سرد قصصى يجد القارئ نفسه مخيرا بين قراءته بأكثر من شكل، بين أن يقرأه بوصفه نصوصا قصصية منفصلة أو بوصفه سردا روائيا جديدا (شكل جديد من السرد الروائى)، ذلك لأنه دائما ما يكون فى المجموعة القصصية الخط وربما الخطوط الممتدة التى تربط بين كل النصوص، فتبدو صادرة عن حال واحدة متماسكة برغم احتفاظها كذلك بالتنوع وملاحقة مشاهد متنوعة وعديدة. والأمر نفسه موجود فى الرواية، فالرواية فيها التنوع ولكنها تحتفظ بالتماسك أو الربط بين هذا الكم السردى الخاضع للتنوع.

يتسم كذلك بالخيال المتمرد وغير النمطي وينتج قيمة التشويق وكسر توقعات التلقى. بحيث يستعصى توقع مسار معين للأحداث ولا يخضع خيال القارئ وبخاصة فى القراءة الأولى لنوع من المشاركة فى التخيل بل يظل خاضعا بشكل كامل لخيال النص.

تحت وطأة الحلم يتم إعادة صياغة العالم، وتشكله النصوص تشكيلا جديدا فى كل أبعاده، الزمان، المكان، وحتما لهذا أثره فى إنتاج القيمة الدلالية والجمالية للنص، فهذا العالم الحاضر بملامحه الخاصة يحيل على نفسه ويحيل على العالم الآخر الطبيعى أو المعتاد، فهو يكون دلالة أخيرة منه ومن نقيضه.

يبدو السرد فى دفتر النائم نوعا من اللعب الذى يصنع ضوابطه وقواعده من داخله وكأن لا سلطان عليه من خارجه، وفى إطار هذه اللعبة تتم صياغة العالم وأشياءه ومفاهيمه بشكل مغاير، صياغة على نحو جديد وخاص، سواء فيما يتعلق بالأشياء الجامدة أو التى تبدو جامدة أو فى المفاهيم والقيم المعرفية والفكرية. فأنت بإزاء عالم تشكله القصص له أماكنه الخاصة وزمانه الخاص وأشياؤه الخاصة، كما له أفكاره وتصوراته الخاصة، فالمرض ليس هو المرض المعهود بشكله وأعراضه، بل هو شىء آخر ليس له من خصائص المرض غير اللغة والاسم، ومن ثم فإنك لا تتوقع له مسارا أو شكلا، بل حضوره يبقى مرهونا بما يوجه إليه النص، وكذلك الموت ليس هو الموت الذى يعرفه البشر أو استقروا على صورة جمعية مقربة له، بل هو شىء آخر يحتمل حدوث أفعال بعينها فى ظله مثل الابتسام مثلا فى قصة إحياء الطفل.

عبر نافذة الحلم الغرائبية ووفق منطقها الخاص تمر الرؤية إلى العالم الواقعى بمفرداته ومشاكله وقضاياه السياسية أو الإنسانية الخاصة بالفقر والطبقية والضغوط على الإنسان.  

ومن نافذة الحلم كذلك تأتى غرائبية الحدث القصصى، بحيث يخرج الحدث عن المنطق الطبيعى، ويبدو أقرب لأحداث السيرك، جوهر فعل السيرك أنه يخرج على المنطق ونرى الرجل يركب دراجة بعجلة واحدة أو يسير على الحبل أو يطير فى الهواء. وهو ما نجده فى دفتر النائم فى القاص الذى يلوح بسيفه فى النفق حتى يقايض مملكته بامرأة، ثم حين يضيق به النفق يضع السيف فى فمه، أو بالمدينة الطبية الغارقة فى المياه ويأتيها الناس من كل أنحاء العالم للعلاج، والطفل الميت الذى ينجح الطبيب الساحر فى جعله يبتسم لأبويه.

ولهذا المسار فى الخروج على المنطق فى الأحداث أثره فى إنتاج الفكاهة بوصفها أحد مرتكزات الإدهاش وإحدى جماليات هذا القص، فتجد مثلا المقالب التى يسويها الآخرون للبطل أو يقع هو فيها من ذاته أو يعدها هو للآخرين. مع ما تتسم به الشخصية بقدر من السذاجة العفوية التى ربما تشبه حالا من الخدر أو غياب العقل أو غياب اليقظة بحدتها. مثل ذلك المشهد الذى يخبر فيه الكهل بأنه سيتجه إلى آخر فيصل معتذرا عن نقله معه بالسيارة ظانا أن كل الناس يتجهون إلى أول فيصل ناحية ميدان الجيزة، فتكون المفاجأة أن الكل ذاهب إلى آخر فيصل باتجاهه.

من أهم خصائص هذه النصوص القصصية كذلك بنية الخاتمة فى كل نص قصصى، بحيث تعمد إلى شكل من المغايرة المفاجئة أو التحول المفاجئ، غالبا ما يكون مدهشا أو صادما أو فكاهية، مدهشا يفسر أحيانا ويكشف عن البنية السابقة للنص ويحيل عليه مرة أخرى بشكل توضيحى، أو صادم بحيث ينفى ما سبق أو يهدمه تماما ويتعارض معه، وأحيانا يكون مفاجئا فكاهيا، والتحول المفاجئ وبخاصة من النقيض للنقيض من آليات إنتاج الفكاهة أو المكون الكوميدي. والحقيقة أن التحولات المفاجئة تكاد تكون سمة ثابتة فى كل النصوص وفى كل مواضعها، ولكنها فى نهاية النص تكون أبرز بما يسهم فى خلق حالة من التشظى الدلالى وتوجيه القراءة وجهات هيرمنيوطيقية عديدة، وتكرس لغياب اليقينى أو الاستقرار عليه. ففى التحول المفاجئ الذي يبلور سؤال النص أو دهشته أو بؤرته الدلالية إن جاز التعبير نجد الحبيبة التى تحولت فى الأخير إلى عنكبوت يتسلق جدار محطة الباص وفى مرة أخرى يتحول إلى بجعة أو تغوص فى المياه عارية لا يسترها شىء أو تتلاشى تماما عند الأفق متزامنة مع صدى أغنية حزينة. وفى مرة أخرى يأخذ التحول مسارا مناقضا، بدلا من المرأة التى تتحول إلى أشياء أخرى، فاليمامة تتحول فجأة إلى امرأة كأنها حورية من حوريات الجنة ثم تتبعها الغزالة نحو التحول نفسه وتصبح امرأة فاتنة وفق القاعدة التى أسسها النص لنفسه، ثم تتحول المرأة إلى يمامة هذه المرة وتطير خارجة على القاعدة نفسها. لتتلاشى الحدود بين الأشياء ويحل بعضها فى بعض بشكل انسيابي وفى عالم جديد له ضوابطه الخاصة وحدوده المرنة التى تحتمل انزياحها أو انهيارها تماما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 كاتب وروائي مصري 






مقالات من نفس القسم