مازوخيا الجسد

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

كتب: علي حسن الفواز


الجسد الانساني صانع الأسئلة الأزلي ومكمن سرانيته الغائرة، هو الكينونة الأولى التي انكشفت على المجهول والطبيعة والمعرفة والموت، وهو الساحر القديم الذي أدرك سر النار وسر اللذة وتلمس رعشتاهما البكر ..

هذا الجسد يحيلنا دائما الى لعبته الغريبة في الغواية، حيث المراودة والافتراس  والاحتواء. يحرضنا على التورط الساحر والخائف في الوجود والخصب مثلما يطلقنا  للخطيئة النبيلة، إذ يكشف من خلال هذه الثنائية لنا أسرار صنائعه وفيوض جواهره، وتوهجاته الباعثة على التلذذ والعواء والخلق، والذهاب بعيدا نحو أقصى الغابة الساحرة حيث تفاحة المثيولوجيا.

إزاء هذه الحضورية الخالقة والطقوسية الباهرة. يبتكر الجسد توغلاته  العميقة في الاكتشاف والانتهاك، ويطلق  دون تورية لعبته في السيطرة والتناسل والقوة، حتى يبدو وكأنه سر الكينونة القديمة أو سرنا الذي يمثل شهوة  صاحب الذات القديمة الكليانية الخالصة، وصاحب شفراتها السرية، لكنها الولودة  والباثة أيضا في علن الانطولوجيا والمكان.

 

من هنا يكون الجسد هو جوهر  الحضور  الأولي الذي جعله  الرب  أصل المضغة المقدسة، وجوهر الصلصال الحي  المؤنسن لتوحش الطبيعة، كما هو  الكاشف والفاضح والمنتهك والصانع  والاباحي والأخلاقي، هو  الأول أيضا  في صناعة السيطرة والقسوة والضعف وابتكار الأمكنة، مثلما هو الأول في صناعة  خطاب الجنسانية الباعث على استحضار رمزية الأنوثة الكونية  وشفراتها  في الوجود والخلق والوصال، واصطناع  نصها  المثيولوجي والملحمي  بكل تفجراته  الفجائعية والغنائية، تلك التي تضع أنوثة هذا الجسد  في  ترسيمة ثنائية تتجاوز المقدس/المدنس، وثنائية الكفّ والاندفاع، باتجاه إنسانية هذا الجسد عبر اقتراح نصه المضاد النافر والمتجاوز  والحاوي والعارف والمواجه  لتاريخ قمعه المكين المحكوم عليه بالهامشية  أو  باللا وجود كما يقول فوكو…

هذا التوصيف يقترح  للجسد الأنثوي   سياقا صراعيا دائما، إذ هو صراع في  سيرة الخلق، وهو صراع مع السلطة! أية سلطة  بدءا من سلطة الكهف والفأس الى سلطة الخطاب والجسد  وسلطة قوانين العمل وانتهاء بسلطة الأبوة  ومقدسها المريب والملتبس.  هذا التوصيف يقترح للجسد فرجته الباهية، إذ هو المكشوف أمام  شخصانية العرض وغواية مشاهدته، مثلما هو المكشوف لاشتغواءات حميميته الباثة لشفرة التلقي والجنس واللغة، والذي لا يملك إلا أن يورطه بإنتاج المزيد من الغموض والعرض والسحر والفرجة. هذه التوصيفات تختصر الجسد في كليته التاريخية والدينية والطقوسية، والتي تصطنع للجسد استيهامات فائضة لمعناه ودلالاته، وربما لجوهر ذاته في الخصب و النشوء،  وفي الوصال والتجلي.

ادوار هذا الجسد تفرش لها مسارب بعيدة، تغوص في اللاوعي الجمعي، اللاوعي المجهض بسلطة المدنس والمقدس،  إذ تتحول صفات الجسد الى تابو، والتعري معه خطيئة، وهذا ما يجعل الجسد هو الأكثر تماهيا في اصطناع الطقوس الحمائية، تلك تتحول الى نسق مغلق لا يملك إلا سلسلة مكررة من الصلات المتشابكة التي تعزز قوتها عبر الكثير من المراكز والسلطات والأقنعة التي تجدد عرضها دائما.

ثقافة الجسد في عقلنا الغاطس لا تعدو أن تكون إلا مركزا ايروسيا في جوهر نظرية الخلق كما تراه سوزان سونتاج ، وفي أسطورة الآلهة الأنثى يكون هو المثال لسحر الخلق والإغواء والخطيئة وسعار الغيرة، وفي أسطورة المعرفة والجمال يكون النموذج الإيهامي للغواية على طريقة بجماليون.

هذا ما يجعله الأكثر حيازة لمصدر الإثارة قديما وحديثا، لان العقل الذي يتلقى رسالته  محكوما بذات الشروط التاريخية والحمائية والقمعية، والتي تجعل الجسد نصا في التحريم، ونصا في اللذة التي لا يتملكها الأخر إلا في ظل  إنتاج الشفرات الباعثة على تبرير صلات السلطة والمعنى والقناع،  ليس لان الجسد حامل اللذة حسب، بل لأنه الحامل السسيو تاريخي الذي تتجوهر عنده المقولات العقلية واللغوية وأنماط الاستعراض والتي تجعله في نوبة من السيولة والجريان والتجدد، تكون فيها الاستعراضية هي جوهر الباعث على استمناء افرجة، وعلى اصطناع القوة الايروسية التي تبرر الرغبة العميقة في تفكيك تاريخ الصمت الجسداني المكبوت تحت قواه العالية في اغترابها ومقدسها المتعالق مع الحكاية المثيولوجية الراكزة في اللاوعي السردي للربات النقيات، البغايا المقدسات، الشريرات الميدوزات، وباتجاه إعادة إنتاج نصه الاحتجاجي في سياق علاقات قرابية متمردة ونافرة أكثر تمثلا ل(جريان وسيولة) الجسد وأكثر احتفاء بأخطائه النبيلة ، وتفرده الوارث لأسطورة ليليت الاستثنائية المسكونة بقوة وشراهة الأنوثة.

تبدأ لعبة /التفكيك / التمرد من خلال الدعوة الى إعادة تأهيل مفهوم الجسد في عقلنا الثقافي المأزوم، وشيوع ثقافة الجنسانية المعاصرة في المناهجيات الجديدة غير القهرية التي حاول أن يفلسفها  كل من فرويد ولاكان، باعتبار أن فكرة الجسد  الخاضع لهذه الفكرة هو جسد مرضيّ مشوب بالحاجة العيادية، فضلا عن أن الجسد الفرويدي لم يكن جسدا عاما، ومرجعيا، وصانعا للفوانيس. إذ كان جسدهما الظاهراتي جسدا مسحوبا الى الوعي القهري والعصابي والمنحرف. الجسد الآخر الاحتفالي والمتحرر والفاعل والذي يعي ذاته وإرادته وحريته المسئولة جاء مع كتابات جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، وفرنسوا ساغان، وكذلك في كتابات البنيويين وما بعدهم: رولان بارت وميشيل فوكو وجاك دريدا الذين احتفوا بالجسد كقيمة عليا، وكمصدر لإنتاج المعرفة واللذة ولتدوين القمع والحبس وتاريخ العيادة.

واحسب أن تاريخ هذا الجسد وجد في ثقافة الفرجة السياسية بعض مرجعيات نصه في ثقافة الاستعراض، إذ  تحول في فرجة الفنون الأوربية المعاصرة (السينما، المسرح، التلفزيون، الأزياء، الحفلات، فنون الدعاية، مجلات البلاي بوي) الى صناعة خالصة لها نظمها الإنتاجية والتسويقية، والذي قال عنه مرة الرئيس الفرنسي شارل ديغول (إن سيقان بريجيت باردو تجلب أرباحا لفرنسا أكثر من إرباح شركة رينو للسيارات )

ولعل نموذج مثل مادونا وشاكيرا يمثل خرقا آخر لسياقات العرض المألوفة التي اعتاد الكثيرون أن يشاهدوها في الوسائط المرئية أو في تقديم اللوحات الجسدية التي تحتشد بها علب الليل، إذ يمثل العرض هنا نزوعا الى توليدات مغايرة في فكرة المراودة ذاتها كنسق إشكالي لا يمكن السيطرة عليه لأنه يقدّم نموذجا للجسد المتفوق المتعالي. هذا النزوع ارتبط أيضا بآليات العرض التي أخذت تقدمها الكليبات الغنائية العربية كنوع من صناعة النص الاغوائي الذي يحمل في جوهر احتجاجا عميقا لتاريخ المسكوت والمقموع عنه في ثقافتنا الجسدانية في اغلب أفلام هوليود وغيرها والذي امتد الى الأغنية العربية الجديدة في نمط إنتاجها للكليبات الغنائية، فنماذج مثل نانسي عجرم، وأليسا، وروبي، وهيفاء وهبي، ومروة، وغيرهنّ.. لا تنتمي الى تاريخية تقديم الجسد في سوق الرقيق القديم، كما كانت تقدمه لنا الحكايات والمرويات، وحتى التوصيفات التي كانت ترد هنا وهناك للجواري والمغنيات والإماء اللائي ملئن جسد الحكاية العربية بمثيولوجيا ساحرة، لا تمثل إلا الجانب الظاهري من السرديات الكبرى لثقافوية التدوين العربي، إذ أن هذه المثيولوجيا ظلت مرتبطة بحكايات الوصال والغناء والعلاقات السرية عن العشق والأولاد غير الشرعيين الذين سرعان ما يظهرون لتكون لهم أدوارا فاعلة في الحياة السياسية والعسكرية وفي صناعة القمع والاخصاء السياسي والجنسي، مثلما يمارسن نساء هذه الأدوار(سرديا أو تاريخيا) ادوار الصانعات الماهرات للمؤامرات والتصفيات السياسية والجسدية داخل أروقة البلاطات ..

الجسد هنا يملك  حضورا علنيا وسريا، ويملك أيضا إيهاما وتعاليا على  سلطة المكان والعرض مع وجود عزلة إباحته للعامة ،فضلا عن انه جسد فيه الكثير من (الهرمينوطيقيا )  إذ  يقدم لنا نصه المتعالي ويقدم لنا  رؤيته للمعنى المضاد لفكرة ألمعاني المبذولة والمتداولة  في  ثقافة العرض القديم وأسواقه وكذلك في خطابات التابو وثقافة الوصايا التي جعلت الجسد نصا ثقافيا مملوكا لمؤوله، وليس نصا طبيعيا..

النموذج الاستعراضي الذي تطرحه الآن القنوات الفضائية العربية، والبرامج الفنية والمسلسلات الاستعراضية التي تستعير أجواء نوادي الليل هو نموذج اغترابي عن ظاهرة الجسد البلاطي،  لكنه أيضا يحمل في هذا السياق استعارة وظائفية لما تقدمه استعراضات الجسد الثقافوي الغربي الذي اصطنع للجسد نسقا إشكاليا خارج مفاهيم وضغوط الخطيئة والإثم والرعوية والتحريم، وربما هو الأقرب الى طبيعة الجسد القديم الذي ارتبط بإشكال وثقافات مثيولوجية خاصة في الحضارات السومرية والفرعونية التي  تركت لنا جسدا مكشوفا ومباحا وغاويا بدءا من جسد ليليت المتمرد وجسد عشتار الصاخب وجسد سيدوري الاستعراضي وانتهاء بالجسد البلاطي ..

فنموذج نانسي عجرم بطفولته وعفويته وإثارته يأخذ طابعا هو اقرب للطبيعة المتعالية  التي لا يحدها المعني أو يقدمها التأويل، ففكرة العرض الطبيعي (النانسوي) تقوم على أساس صناعة الجسد باعتباره نصا شهوانيا تصوغه تقنيات العرض بالطريقة التي تحرض الحس والغواية وجاذبية التلقي/ المشاهدة، وكذلك نموذج “اليسا” الأكثر استخداما لنصي الصورة والعرض واللغة، إذ تأخذ صورة الأنثى / نموذجها هنا  طابعا كامل الغواية عبر ربط هذه الصورة مع ايهامية اللغة التي تصنع لها بخصوصية فائقة يمتزج فيها مهارة العرض/ النص الاغوائي مع مهارة الصوغ الايحائي/ نداء الأنثى/ بوحها/ اعترافها، وهذا يدخل في لعبة إعادة إنتاج الجسد الاستعراضي عبر الإيهام به خارج المكان القديم ،سوق الرقيق/ بيت الحريم / الجواري/ المبغى/ الملهى/ علب الليل.. كما أن نموذج هو اقرب الى الفجاجة الاستعراضية الذي يمثله نموذج المطربة روبي يعكس الجانب الايروتيكي في عرض النص الجسداني وفق صياغة تدخل في إطار تعويضي مباشر، إذ يعمد صانع نصها الى توليف العرض الجسدي على شكل رسالة الى أعمار معينة والى أمزجة مرضية تؤمن بالعرض المباشر كنوع من التعويض الإيهامي المقابل لسايكولوجيا الحرمان والإحباط والفشل، وأظن أن بعض مواصفات النص (الروبوي) تجعله هو النص الأقرب الى ما يمكن أن نسميه بالهستيريا الجنسانية.

إن محور الثقافي/ الجسدي الذي شاع في أدبياتنا المعاصرة مع كتابات فوكو حول الجنسانية ومع طروحات نوال السعداوي وفاطمة المرنيسي، وحتى بعض الكتابات الروائية لغادة السمان وحنان الشيخ وبعض الكاتبات السعوديات يمثل نوعا من التمرد على تاريخ الفحولة وتاريخ العرض الذكوري التاريخي، وهذا المحور رغم كل التابوات والتدنيسات التي تجد فيه خطابا في إعادة إنتاج الخطيئة ! إلا انه يعزز فاعليته في ثقافتنا المعاصرة ليس كخطاب تنويري وإنما كمنظور إشكالي متفرد تنعكس تأويلاته وقراءاته على الكثير من أنماط المتداول الثقافي باعتبار أن فضاء الجسد هو مادة الحبس والتحريم في سياق الكثير من الثقافات والمعتقدات، وان التعاطي معه نصوصه في المشاهدة/ العرض وفي القراءة يجعلنا نؤشر معطيات الوعي وانعكاساتها على البرامج الحداثوية التي تضع هاجس الصناعة الصورية مادتها الجوهرية، وهذه الصورة لا يمكن أن تكون نصا في التأثير دون الجسد باعتبار هذا الجسد النص المكشوف والنص المؤّول والنص الذي يصنع متلقيه.


ــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصورة من فيلم “الجلد الذي أعيش بداخله 2011” – للمخرج: بيدرو المودوفار.

مقالات من نفس القسم