التقنية ومنجز القصة للسيد نجم

السيد نجم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. عبدالمنعم أبوزيد

التمهيد

التقنية: المفهوم، والأنواع.

تعد التقنية المستخدمة فى حمل ونقل وتوصيل النص الأدبى، أحد العناصر المهمة التي يتكون منها الخطاب الأدبى والثقافى المعرفى، ويعني الحالة التي يتواجد عليها النص فى زمن التلقى، والتي تؤثر على تكوين ورؤية المتلقي، أي محاولة البحث عن دور التقنية في خلق آليات التماسك بين النص والمتلقى. تلك العلاقة التى قد تمهد ﻹنتاج المعنى (معنى ودلالة النص) نحو تجسيد رؤية المبدع. ينقسم الحديث عن تقنية الزمن في الخطاب القصصي إلى مبحثين :المبحث الأول: المفارقة الزمنية.. المبحث الثاني: التواتر السردي.

المبحث الأول:  المفارقة الزمنية

وهي الخروج عن الترتيب الطبيعي للزمن، سواء بعودة الأحداث إلي الوراء، أو محاولة استقراء لحظة المستقبل، ويتصل هذا الانزياح في الزمن بموقع السرد منه، وقد أشار(جيرار جنيت) إلي هذه التقنية في قوله: “تعني دراسة الترتيب الزمني في الخطاب السردي بنظام تتابع هذه الأحداث أو المقاطع الزمنية نفسها في القصة، وذلك لأن نظام القصة هذا تشير إليه الحكاية صراحة أو يمكن الاستدلال عليه من هذه القرينة غير المباشرة أو تلك…”( 1)   

ويعنى هذا الخروج الزمني عن التسلسل المنطقى للأحداث إعادة ترتيب زمن القصة بشكل جديد، عن طريق قارئ واع بمجريات الفعل القصصى، ولديه القدرة على تنظيم المادة الحكائية، ضمن مؤشرات زمنية محددة تشير إلي أبعاده بدقة، وهو ما يدل على تعرض هذا الزمن إلي ثغرات عميقة في النظام الزمني، مما يحتاج إلي محاولة تأويل هذه الظاهرة ضمن الوعي العام للبنية الزمنية…”(2)

وتنقسم المفارقة الزمنية إلي نوعين:

1- -السرد الاستذكاري ونقطة الصفر:

تستدعي الأحداث الماضية في لحظة الحاضر(نقطة الصفر) التي تكون دافعًا قويا للاستدعاء بما تحمله من مشاعر حزينة وقلقة فتأتي الذكري لتغيير الواقع النفسي للشخصية في هذه اللحظة، يقول (غاستون باشلار) عن علاقة الماضي بالحاضر “سرعان ما توصلنا إلي الاعتراف في الواقع بأن الذكري لا تعلم دون استناد جدلي إلي الحاضر ؟ فلا يمكن إحياء الماضى إلا بتقييده بموضوعة شعورية حاضرة بالضرورة بكلام آخر، حتي نشعر أننا عشنا زمنا – وهو شعور غامض دائما بشكل خاص – لابد لنا من معاودة وضع ذكرياتنا شيمة الأحداث الفعلية في وسط من الأمل أو القلق في تماوج جدلي، فلا ذكريات بدون هذا الزلزال الزمني، أو بدون هذا الشعور الحيوى(3)

ويقول تودوروف عن هذه التقنية: أما الاسترجاعات وهي الأكثر تواترا فتروي لنا فيما بعد ما قد وقع من قبل، فعادة يشفع – في الروايات الكلاسيكية إدخال شخصية جديدة بقص لماضيها، ويمكننا طبقا لتقاطع الاسترجاع مع القصة الرئيسة أو عدمه أن ننعته بباطني أو خارجي…”(4) وتتفاوت المقاطع الاستذكارية من حيث [ طول أو قصر المدة التي تستغرقها أثناء العودة إلي الماضى، وتسمى هذه المسافة الزمنية التي يطالها الاستذكار بمدى المفارقة..”(5) وقد يستغرق المدى يوما أو أسبوعاً أو شهراً، بحيث يكون محددًا ومعلومًا للمتلقي، أمّا سعة الإرجاع فتقاس بعدد الصفحات التي يغطيها في الخط الزمني للسرد.

وتتمثل وظيفة هذه التقنية في ملئ ” بعض الفجوات من حياة الشخصيات” المحورية؛ ولذا فهي تحتل وظيفة مركزية، إنها لا تأتي لتقديم مزيد من الأخبار عن الشخصية المقدمة أمامنا في الحاضر وحسب، بل إنها ذات وظيفة بنيوية.”(6)في المجموعة القصصية (عودة العجوز إلي البحر) في قصة (فلما اعتلي الرجل الكوبري) تقول الأنا الساردة (هذه الحالة أعرفها تماماً عندما قضيت أسبوعًا كاملاً، مقيداً بالسرير بسبب إصابتي بالتهاب في حوض الكلي.. فلا أستيقظ إلا لحاجة.ثم أنام وأنام، تجرعت الأدوية غريبة المذاق، حتى قال الطبيب “اخرج وسيب السرير.” (7)ويبدو أن هذا الاستذكار،جاء كرد فعل طبيعي للحظة الحاضر المليئة بالوهن والاضطراب، والنوم العميق،والكسل تلك التى عرف مفرداتها فيما سبق، عندما قضى أسبوعًا كاملاً في المستشفى. ولم يذكر النص من محددات الارتداد إلاّ مدته التي حددها الأنا السارد بنفسه في أسبوع، وحجمه قصير جدًا؛ ولذا فسعته لا تزيد عن ثلاثة أسطر، يتم فيها تعرية موقف خاص جدًا بالشخصية.

والواضح من هذا التصور أن الدلالات في اللحظتين متساوية، ولم يكن ثمة تأويل جديد للمنتج النصي في الماضي.

وفي قصة (الذبابة الزرقاء) من المجموعة القصصية نفسها، يحاول الراوي أن يكشف عن اللحظة الغائبة في حياة الشخصية، بفعل الحالة النفسية المتردية التي أحاطت بها، يقول: (للمرة الأولي يتململ العجوز.يرمى نظرة ساكنة إلي إحدى ساقيه، وقد كسرت عنوة من غريم في مباراة شرسة.. لكن فريقه خرج منتصرًا فابتسم، هانت عليه جلسته المحفورة في كتلة أشعة الشمس، فحرك ذراعه الأيمن، وتحسس شفته وأسنانه الأمامية، وقد تحطمتا عمدًا من لكمة غريم لا يرحم.. لكن فريقه حصل على كأس المسابقة…)(8)

يستقرئ الراوي اللحظة الآنية المحيطة بشخصية العجوز التي كانت دافعاً قويا لإعادة لحظة الماضى، وقراءتها بشكل جديد، ولم تتحدد مؤشرات الارتداد إلاّ بشكل غير مباشر، مما فعّل دور المتلقي في استنتاجها من خلال البنية الكلية للنص، وتتمثل في السنوات التي كان فيها العجوز يمتلك شخصية قوية ومرموقة في مجال الرياضة. وأمّا السعة فهي تستوعب موقفا مهما من حياة العجوز، أخذ جزءًا محدودًا من صفحات القصة، ولم يشغل من زمن الكتابة إلاّ بعض الدقائق، لكنه أمد السرد بمعلومات مهمة عن شخصية العجوز. فسرت صبره على ما هو فيه.

والواضح من هذا التصور أن الدلالات المنتجة من لحظة الاستذكار إيجابية، ممّا أثر فيما بعدها من لحظات بشكل إيجابي – أيضًا-؛ ولذا كان تأويل الفعل القصصى في الماضي لقراءة الحاضر بشكل مغاير.

2- السرد الاستشرافي؛ ونقطة الصفر.

ونعني به عرض أحداث لاحقة لا يتصف معظمها باليقين وتمثل قطعا لزمن السرد الحاضر، وتتنافي هذه التقنية مع التشويق النصي الذي يفضله المتلقي المتفاعل مع النص.إذ يجب أن يكون ثمة نقط غامضة لا يكشفها إلاّ بنفسه حتي تمنحه قدرة على مواصلة القراءة، وهذه المفارقة بين تقنية الاستشراف وما تؤدي إليه، كانت دافعًا لمقولة جيرار جنيت:” إن الاهتمام بالتشويق السردي الخاص بتصور الرواية الكلاسي بمعناه العام…لا ينسجم كثيرًا مع هذه الممارسة..” (9)
وفي هذه الممارسة الزمنية أحيانا يستخدم الراوي ” الصيغ الدالة على المستقبل، لكونه يسرد أحداثا لم تقع بعد، على أن هذه الصيغ تتغير وفقا لطريقة السارد / الراوي…”(10) ويرى (توماشفسكى) أن هذا النوع من السرد، (يمثل الحالة الأكثر ندرة فهي حالة Nachgeschichte أي سرد ما سيحدث لاحقا، والذي يدمج في الحكي قبل أن تقع الأحداث الممهدة لما سيأتي. ويكتسي أحيانا شكل حلم منبئ أو نبوءة، أو افتراضات صحيحة أو غير صحيحة بصدد المستقبل.”(11)

ووظيفة هذا النوع من السرد تتمثل (في خلق حالة انتظار عند القارئ، لكن من الواجب ألا نخلط بين هذه الإنباءات التي لا ترد إلا بصفة صريحة، والنواتج، وهي معطيات لا يفهم معناها إلا فيما ترتبط بفن التمهيد القصصي…”(12)

&المبحث الثانى: التواتر السردي

ورد في المعجم: ” واتر بين أخباره وكتبه مواترة، ووتارًا، تابع مع فترة… والشىء تابعه، وتابعه بعد فترة….. وتواترت الأشياء تتابعت، وتتابعت مع فترات، وجاءت بعضها في إثر بعض، وترا وترا من غير أن تنقطع…” ((13)

فالتواتر – كما أوضح المعجم – معناه التتابع سواء أكان سريعا أم بطيئا؛ ومن ثم يمكن الوقوف على معنى ” التواتر السردى” أى حركة السرد في علاقته مع الزمن من حيث السرعة أو البطء؛ ومن ثم فنحن أمام حركتين للسرد؛ أحدهما سريعة، وتشمل تقنتى: التلخيص، والحذف، والأخرى بطيئة وتشمل تقنتي الحوار، والوصف.

1-التلخيص:ونعنى به أن يقوم السارد بتلخيص الأحداث القصصية الواقعة في مدة زمنية معينة قد تطول أو تقصر، دون أن يطرح تفاصيل ذلك، وفيه يكون زمن الخطاب أقل من زمن القصة

&التلخيص = زمن السرد < زمن الحكاية.

ويرتبط بالفعل القصصى في مراحله المختلفة؛ حيث يتعلق بالحدث في اللحظة الماضية أو الآنية، أو لحظة الاستشراف، غير أنه أكثر ارتباطا بالماضى، (ويعد بيرسى لوبوك) أول من فطن إلى العلاقة الوظيفية بين الخلاصة والماضى، وتبعه في ذلك (فيلبس بنتلى) فأشار بوضوح إلى أن أهم وظائف السرد التلخيصى، وأكثرها تواترًا هو الاستعراض السريع لفترة من الماضى…)(14)

& في قصة (ذات صباح عادي) من المجموعة القصصية (لحظات في زمن التيه) يقول الراوي(سريره النحاسي ذو الأعمدة والناموسية… ثروة لا تقدر بمال..ورثه عن أمه مع وصيتها اليتيمة:” لا تفرط في السرير، إن جعت أو عطشت…”، ويقول في موضع آخر على لسان الأم: “من يدري يا ولدي، ربما في ثروة جدك لقمة حرام، أو ربما في فقرنا سترًا من بلاء لا ندريه !!” (115)

يقدم الراوي التلخيص في النصين في صورة استشراف لحركة اللحظة القادمة؛ في النص الأول حذرت الأم ابنها من القيام بفعل خاص في المستقبل حتي لو جاع أو عطش، وفي الثاني منحته موعظة، فسرت في إطارها الوضع القائم الذي يعيشه هذا الابن، وبقراءة القصة كاملة وجدنا أن مفردات النصين قد تحقق وجودهما في بنية الفعل القصصي بعد ذلك، وهذا ما ذكر بدايته الراوي في قوله:” بمضى الأيام يدهش لأفاعيل السرير معه…فقد قبـلته زوجتـه وهـو الدميم..تنتابه سعادة غامرة كلما تأمل سريره..”(16) . الواضح أن النص الأول قد لخص ما تكنه لحظة المستقبل، وعاد الثاني إلي لحظة الماضى؛ ليفسر حركة الواقع الذي تعيشه الشخصية في لحظة الحاضر؛ ومن ثم فقد وظف السارد في نص التلخيص حركة الثالوث الزمني، مبينًا أثره في الفعل القصصى، وتطور الشخصية؛ ومن ثم يستطيع السرد أن يتعامل مع الواقع الإنساني للزمن، منحدرًا في الذاكرة من أجل الماضى، حين يكون وثيق الصلة بالحاضر، ومتخيلاً في المستقبل…”(17) ولم يتوغل التلخيص في المستقبل البعيد؛ وإنما مدته الزمنية محددة، وسعته لا تتعدي ثلاثة أسطر، ولذا لا يحتل من زمن السرد إلا دقائق محددة.

2- الحذف: هو إسقاط جزء من زمن الحكى سواء أكان طويلا أم قصيرا، والقفز بالأحداث فترة زمنية للأمام؛ وبهذا يقل زمن السرد، ويزداد زمن القصة؛ هكذا زمن السرد > بكثير من زمن الحكاية أي أنه” انتقال مفاجيء من نقطة زمنية معينة إلى أخرى، سواء عن طريق الإشارة الزمنية لهذا القفز، أو عدم الإشارة، ولكنه يفهم من سياق الأحداث…” (18) في قصة (مكان مزعج للغاية) من المجموعة القصصية (لحظات من زمن التيه) تقول الأنا الساردة (انقضت شهور الخريف، وأنا داخل غابة هموم الشيخ مع ساعته القيمة حتى فاجأني في عصرية يوم شتوي جديد بالاختفاء (19)

في النص يحدد المتكلم المدة الزمنية المحذوفة بشهور الخريف، ويبدو فيها مجموعة من العلاقات الإنسانية المتبادلة بينه وبين هذا العجوز، ويعد هذا تلخيصا موجزا لمجمل هذه العلاقة.
-في قصة (الجير) من المجموعة القصصية (أسباب للبكاء) يقول الراوى (أسبوع.. أسبوعان.. ثلاثة، وهو على هذا الحال يسب ويسب.. ويضرب ويضرب..) (20 )

في النص حذف محدد، حدده الراوي في أسبوع حتى ثلاثة أسابيع ويعد من التلخيص الارتدادي الذي يستقرئ لحظة الماضي الغائبة عن دائرة الخطاب القصصي، ومن ثم يكشف للمتلقي مساحات نصية جديدة، يربط بها الغائب بالحاضر، وتتمثل المدة المحذوفة في الفترة التي عامل فيها المدرس طلابه بأسلوب سيئ.

وفي نهاية القصة جاء الحذف المحدد في قول الراوي بعد يومين دخل الأستاذ مرزوق الفصل مبتسما دون عصاه.. وراح يحاور التلاميذ بصوت رقيق…).(21)

ويبدو من النص أن ثمة تغيرا واضحا حدث في هذه المدة الزمنية القصيرة التي تتحدد بيومين، ويتمثل في تحول الاتجاه النفسي للمدرس من الضد إلى الضد، بفعل ما استغرقته المدة المحذوفة من بناء علاقة إيجابية بينه وبين طلابه.

وقد يأتى الحذف بدون إشارة نهائية للزمن، وعلى المتلقى أن يقف على هذا الجزء الغائب من بنية النص، من خلال استقراء لواحقه وسوابقه، ويأتى في النص على هيئة نقط متتابعة، وهى تقنية تدخل النص” للتعبير عن أشياء محذوفة أو مسكوت عنها داخل الأسطر…” (22)

3- المشهد: وهو عبارة عن حوار درامى يحدث بين الشخصية، وغيرها، أو بينها وبين نفسها، وفيه تقل حركة السرد، حتى يتساوى زمنه مع زمن القصة، ويحتل ” موقعا متميزا ضمن الحركة الزمنية… وذلك بفضل وظيفته الدرامية في السرد، وقدرته على تكسير رتابة الحكى بضمير الغائب “(23) ويؤدى في القصة دورًا مهمًا، حيث يتحول المنظور القصصى من قبضة السارد إلى منظورات متعددة؛ ومن ثم يطرح وجهات نظر متعددة؛ ولذا فهو يقدم الفكرة بكل أبعادها، ويحللها، كما أنه يكشف بجلاء عن الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات المتحاورة، وقد يكون طويلاً أو قصيرا، خارجيا أو داخليا>

* الحوار الخارجى:

وفى قصة (حكايات النمل) من (عودة العجوز إلي البحر يأتي المشهد الحواري هكذا:
وصباح اليوم التالي، عاود طايع سؤاله، بحسبته وتقديره شك في رقم “مائة”، فقال السجان: “أنا عمرى ما فكرت أعد الزنازين يا بن الملعون” فكر مليا،دهش في نفسه، ثم أخبره بالعدد الصحيح.
ابتسم النمرة “طايع” ربما للمرة الأولي منذ أن وطئ أرض الزنزانة، قال:”معني كلامك أن تنفيذ حكم إعدامي مش قبل ست وثلاثين مرة قبلي”:

ضحك السجان وقهقه، سبه وقال:

“ومين قال لك إحنا ماشيين بالترتيب….

يمكن يكون تنفيذ حكمك قبلهم كلهم..” (24)

يبدو أن هذا المشهد الحواري قصير، ولذا فمساحته النصية محدودة تتمثل في الكشف عن طبيعة السجين وأزمته النفسية، وقسوة السجان وهمجيته، وهو بهذا يطرح رؤى إنسانية متباينة، وقد أثار في المتلقي حالة من الشجن، نتيجة درامية الحوار التي كشفت عن وضع إنساني خاص (25) وتوافق زمن القصة مع زمن الخطاب؛ حيث استمر الفعل القصصى بدرجة متساوية مع حركة السرد؛ وبهذا فثمة علاقة ترابط بين المنتج الدلالي في هذا المشهد الدرامي، وما قبله، والأحداث التي تليه.

* الحوار الداخلي:

يعد وسيلة مهمة من وسائل السرد، ويعني حوار الشخصية مع نفسها، ويعمل على الكشف عن العمليات الذهنية التي تقوم بها لطرح ذكرياتها وهمومها، وأفكارها، ومشاعرها، وموقفها من العالم المحيط بها، وذلك دون أن يتدخل المؤلف بالشرح والتعليق، ومن ثم فهو أحد الطرق المهمة للتعبير عن الواقع النفسى للشخصية، بشكل جديد تعجز الطرق التقليدية عن الوصول إليه، وهو جزء من تقنية تيار الوعي، وقد أشار إلي أهمية هذه (روبرت همفرى) عندما ذكر أنه يستخدم في القص، ” بغية تقديم المحتوى النفسى للشخصية والعمليات النفسية لديها – دون التكلم بذلك على نحو كلي، أو جزئي – وذلك في اللحظة التي توجد فيها هذه العمليات في المستويات المختلفة للانضباط الواعـي قبل أن تتشكل للتعبير عنها بالكلام على نحو مقصود..”(26)

يجسد هذا الحوار – بصراحة، وتلقائية معهودة من القاص – وجهة نظر الراوي في هذا المسئول الكبير، فهو رجل لا يستطيع أحد أن ينفذ إليه، أو يمسك به، لأنه مثل كرة الزئبق؛ ومن ثم يعد هذا المشهد حصيلة مكثفة لمواقف سردية سابقة، طرحتها رؤى متعددة للراوى في شأن هذا الشخص من خلال تجربته الخاصة معه، ويتسم هذا المشهد بالقصر، ولذا فسعته محددة، ولم يأخذ مساحة نصية واضحة في النص، تؤثر على تكوينه التقني، لأن هدفه محدد، ورؤيته مكثفة.

* الوقفة الوصفية:

يتشكل الوصف باللغة كأي عنصر آخر من مكونات بنية النص القصصي؛ إذ يتكون من جمل وعبارات، وتراكيب، ودلالات، تنصب جميعها في مقطع واحد، يكتسب أهميته من ترابطه، وعلاقاته بالمقاطع الإنشائية الأخرى؛ ولذا فهو (مقطع كتابي لا سبيل إلي تحديد دلالته إلا بوصفه في علاقة مع المقاطع الكتابية الأخرى الرابضة في حدوده..”(27)

وقد يستغرق الوصف صفحات كبيرة في النص، أو يكتفي بصفحة أو جملة واحدة؛ ومن ثم فهو في النص القصصى؛ إما يقوم على تناول التفاصيل بدقة، أو انتقاء أجودها وتقديمه للمتلقي بشكل جيد وهو إما أن يقدم لشخصية ما، أو يجلي أبعاد الأمكنة في النص؛ ولذا فهو حتمية لا مناص منها في بناء النص القصصى، على القاص أن يوظفها جيدًا؛ لتقديم دلالاته، ورؤيته بشكل فني واضح.

وهو على الجانب الآخر يعوق من حركة السرد ويعمل على إبطائها، فيتوقف التسلسل الطبيعي للزمن لبرهة من الوقت، ومن ثم يكون زمن السرد أكبر من زمن القصة وهكذا: الوقفة الوصفية = زمن السرد > بكثير من زمن الحكاية

الخاتمة
عرض البحث لحركة الزمن في البنية النصية للقصة القصيرة في مبحثين: المبحث الأول: وناقش فيه ما اسماه جيرار جنيت بالمفارقات الزمنية أى التغيرات الزمنية الطارئة على القصة، وينقسم إلى محورين، المحور الاستذكاري، والآخر الاستشرافي، والمبحث الثاني: وناقش، ما يسمى بالتواتر السردى أى التغيرات الزمنية التى تحدث في بنية القصة والخطاب معًا، وتنقسم إلى أربعة أقسام التلخيص، والحذف، والمشهد، والوقفة الوصفية.

& وبعد مناقشة هذه المحاور، وقراءتها بشكل واضح في إطار النصوص الإبداعية اتضحت بعض النقاط المهمة المتصلة بموضوع البحث كالآتى:

– تتفاوت المقاطع الاستذكارية من حيث الطول والقصر، والمؤشرات الدالة عليها، وسعتها الزمنية في النص نفسه.

– طرحت القصة القصيرة الاستذكار بكل أنماطه بشكل واضح، غير أنها لم تلجأ للاستشراف إلا في مواضع قليلة، وبمساحات نصية لا تتعدى دقائق محددة.

– احتل الاستذكار في القصة القصيرة وظيفة مركزية مهمة أثرت في تكوين البنية القصصية في مراحلها المتباينة.

– نجد المحددات والمؤشرات الدالة على الاستشراف والاستذكار واضحة في بعض القصص، وغير واضحة في بعضها الآخر، ومن ثمّ كان تفعيل دور المتلقى في قراءتها:

– تختلف المدة الزمنية التى يحتلها نوعا المفارقة في زمن القصة الاستشراف والاستذكار في المساحة النصية، ومن ثم يختلفان في الطول والقصر

– يرتبط التلخيص في القصة القصيرة بلحظة الماضى والحاضر والمستقبل، ويكون أكثر ارتباطا بلحظة الماضى، لأننا لا نستطيع تلخيص الأحداث إلا بعد حصولها بالفعل.
 – يفعل الحذف دور المتلقى في قراءة الغائب عن الفعل القصصى، وربط دلالات النص بعضها ببعض.

– قدمت القصة القصيرة أنماطًا من المشاهد الدرامية التى أبرزت براعة القاص في تجسيد المشاعر الإنسانية وطرح وجهات النظر بدقة؛ ومن ثم تآزرت مع السرد لتقديم رؤية متكاملة للنص، غير أن ثمة بعضا منها جاء على نحو عشوائى، أفضى إلى نص مترهل انعدم فيه التكامل بين عناصره.

– تبدو الوقفة الوصفية في كثير من المجموعات القصصية التى عرضها البحث للنقد والدراسة عنصرًا أساسيا وليست حلية تزينية، حيث تداخلت مع عناصر القصة بشكل إيجابي، مما ساعدها على التطور والاستمرار في أداء وظيفتها.

&الهوامش:
1
– راجع من الدراسات – كذلك – سيد حامد النساج: اتجاهات القصة المصرية القصيرة، رشاد رشدي:فن القصة القصيرة، الأستاذ حسين القباني:فن كتابة القصة، والأستاذ فؤاد دوارة: في القصة القصيرة، يوسف الشاروني: دراسات في الرواية والقصة القصيرة.

2- هذا اقتراح طرحه كثير من النقاد لعدم تقسيم النص الأدبي، وإهدار جزء منه على حساب الآخر، وذلك لإنتاج دلالة كلية تجمع بين شقيه، وقد عبروا عن ذلك بمصطلحات= =جديدة كان بدايتها “شكل المضمون الذي ابتدعه العالم اللغوي الدانماركي ” لوي هييلمسلف ” وذلك في مقابل مادة المضمون “،راجع، عبد الكريم حسن: المنهج الموضوعي، نظرية وتطبيق، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1990 ص 81 وما بعدها.

3-تزفيطان تودوروف:مفهوم الأدب، ت منذر عياشي، النادي الأدبي الثقافي،جدة،ط1، 1990م،صـ129.
-4- توماشفسكي:نظرية الأغراض، مقالة في كتاب نظرية المنهج الشكلي، ت: إبراهيم الخطيب، الشركة المغربية للناشرين المتحدين، المغرب،ط1، 1992م، صـ180..

5-سعيد يقطين: السرد العربي، مفاهيم وتجليات، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2006، ص 195.
– 6- شاكر النابلسي:جماليات المكان في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت،ط1، 1994 م،صـ327 وما بعدها.

7 -تودورف: الشعرية، ت شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، دار توبقال للنشر، المغرب 1987 ص 48

8- حسن بحراوي: بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي بيروت،ط1، 1990م، صـ122.

9- راجع: سعيد يقطين: انفتاح النص الروائي، النص، السياق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب،ط 2، 2001 ص 56.
 10-هاله فهمي:ربع رجل، الهيئة العامة للكتاب،مصر، 2001 ص 36 وما بعدها.
15- نفسه: ص 74.
11-ليلي الرملي: الشرك، المجلس الأعلي للثقافة، الكتاب الأول 2002م، راجع حالات التذكر، وقد أخذت مقاطع نصية كبيرة من القصة من صـ77 وما بعدها، وقد حاول الباحث أن يركز فيما اقتطفه على مواطن التذكر.
12– سمير المرزوقي وجميل شاكر: مدخل إلي نظرية القصة؛ تحليلاً وتطبيقاً،: دار الشؤون الثقافية العامة،بغداد، ب ت صـ79.

-13 مجمع اللغة العربية: المعجم الوسيط، الجزء الثاني، ص1051.

14- حسن بحراوى: بنية الشكل الروائي، السابق، ص146.
=15-السيد نجم: لحظات في زمن التيه، الهيئة العامة لقصور الثقافة 1994 م،صـ15.
16– نفسه: صـ16.
17- والاس مارتن: نظريات السرد الحديثة، ت: حياة جاسم محمد، المجلس الأعلى للثقافة، 1998 م، صـ143.

18==مراد عبد الرحمن مبروك: بناء الزمن، السابق، ص100
=19- السيد نجم: لحظات من زمن التيه، السابق، ص56

-20= محمد عبد الظاهر المطارقي: أسباب للبكاء، السابق، ص59
-21 نفسه: ص60
22- حميد لحمداني: بنية النص السردي، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1991م، ص58.,
23- المنصف عاشور: بنية الجملة العربية بين التحليل والنظرية، منشورات كلية الآداب، تونس مجلد (2)، 1991م، ص292.
24-السيد نجم: عودة العجوز إلي البحر، السابق، صـ25.

25–هذه (القصة القصيرة) تبرز قدرة القاص على الوصول إلي أعماق النفس البشرية، واستبطان عوالمها، ومشاعرها، وأحاسيسها، ببساطة وتلقائية.
26–روبرت همفري: تيار الوعي في الرواية الحديثة، ت: محمود الربيعى، دار المعارف مصر، ط2، 1975م،صـ46.
27- عبد اللطيف محفوظ:وظيفة الوصف في الرواية،دار اليسر، المغرب، ط1 1989م، صـ20.

ثبت بالمصادر والمراجع:
أولا – المصادر:
– السيد نجم: لحظات في زمن التيه، الهيئة العامة لقصور الثقافة 1994م.
: عودة العجوز إلى البحر، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، 2000م

ثانيا: المراجع العربية:
1- سعيد يقطين: انفتاح النص الروائي، النص والسياق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط2، 2001م.: السرد العربي، مفاهيم وتجليات، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، 2006م، الدار البيضاء، المغرب،ط2،2001م.
2- سمير المرزوقي وجميل شاكر: مدخل إلي نظرية القصة، تحليلاً وتطبيقًا، دار الشؤون الثقافية العامة /بغداد.
3- شاكر النابلسى: جماليات المكان في الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت،ط1،1994م
11) عبد الكريم حسن: المنهج الموضوعي،نظرية وتطبيق، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 1990م
4-عبد اللطيف محفوظ: وظيفة الوصف في الرواية، دار اليسر، المغرب، ط 1، 1989م
13) غاستون باشلار: جدلية الزمن، ت/ خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع،ط2، 1982م.

مقالات من نفس القسم