عاطف محمد عبد المجيد
يختلف هدف الشعراء من كتابة الشعر، إذ منهم من يكتبه ليعبر به عما يريد، دون أن يهتم أو ينشغل بكيف ستخرج القصيدة إلى متلقيها، سواء أكانت مهندمة الثياب، أم مهلهلتها، ودون، كذلك، أن ينتظر نتائج ومردودات ما بعد الكتابة، غير طامع سوى في تصوير وتمْثَلة مشاعره وأحاسيسه وعلاجها أحيانًا، محوّلًا إياها من مشاعر تجري داخله مجرى الدم إلى حروف وكلمات تتحرك أمام عينيه، يمكنه أن يلمسها بأنامله ويرى مجسماتها بعينيه. ومنهم من يضع، طوال الوقت، القراء والنقاد نصب عينيه، مهتمًّا بقواعد الشعر، المتعارف عليها أو التي تخص كل شاعر بمفرده، طامحًا إلى تجويد قصيدته، مضحّيًا بأشياء أخرى، إلى الحد الذي يجعل النقاد يكتبون عنها قصائد نقد أخرى توازيها دقة وإبداعًا. ومنهم من يجمع بين الاثنين، مستندًا إلى امتلاكه لموهبة كبيرة تُمكّنه من كتابة كل ما يريد، دون أن يُعجزه قيد، أو تُضعف موهبته قاعدةٌ من قواعد الفن الشعري.
هي أقرب من أي سماء لي
هي بلد يحمل كل الأسماء
وهي الأهل إذا ما الموج تلاطم في البحر
وهي الكأس الملآنة إذ فرغت كل أواني الحلم
وهي الشمس إذا غاب الضوء عن اسمي.
هكذا يرى ويصف الشاعر أحمد الشهاوي محبوبته في ديوانه الأحدث “أتحدث باسمك ككمان” الصادر حديثًا عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، وفيه يرسم، بقصائده، صورة لمحبوبته تجعلنا نراها لا تشبه الأخريات، ناحتًا لها تمثالًا شعريًّا خاصًّا بها، معبرًا من خلاله عن حبه المختلف لها، باعثًا إليها جُلّ مشاعره وقلبه بكل ما فيه من دم ونبض وشعور.
نوال عيسى
في كل كتبه، إن لم أكن مخطئًا وحسب ذاكرتي التي أطمع ألا تكون مثقوبة، يكون إهداء الكتاب مخصصًا وحصريًّا لأمه نوال عيسى رحمها الله، بينما في هذا الكتاب يجعل الإهداء الأول لحبيبته التي يعوذ بشفتيها من دنياه، والإهداء الثاني، كالعادة، لنوال عيسى، وربما يرجع ذلك لطوفان المشاعر التي تربطه بحبيبته حتى استطاعت أن تجعله يشاركها إهداء كتابه مع من لم يشاركها أحد في ذلك / أمه نوال عيسى. ليس هذا وحسب، بل إن الشاعر يعلن هنا أن أمومته كانت ناقصة ولم تكتمل إلا بعد أن ذاق نهديْ حبيبته، وبعدها تشرّد الموت الذي طال أمه في الشوارع، مثلما ألاحظ أن قصائد الديوان، ربما كلها، تبدو كقربان يقدمه الشاعر لمحبوبته كي تمنحه حبها الذي يرى أنه يستطيع تغيير حياته إلى الأفضل، ويُشعره بالاكتمال، مانحًا إياه سعادة خالدة لا حدود لها:
أترك كل مراكب بحري
كي أملأ قلبك بي
أعدو كحصان مر كنور
يصحو في خيط قميصي
ترتاح النار وتبدأ متعتها
وبعيدًا ستموت نجوم
لكن يبقى نجم يتسمى باسمك
لا يظهر إلا لي.
البساطة
يتكئ الشهاوي هنا على البساطة في اختيار مفرداته درجة أنه عاد يستخدم بعض المفردات الفصيحة التي يتم استخدامها في اللهجة العامية، في تشكيله للصور الشعرية، في صياغته للجملة الشعرية، مفضلًا الابتعاد، بمسافة كافية، عن الوقوع في المباشرة الفجة، أو الغموض الذي يُزيد النص انغلاقًا والتباسًا:
حين يكون الصمت سراجًا وهاجًا
تتحدث عيناكِ
ويُضاء الماء بأسماك تفشي الأسرار
ويمر النهر وحيدًا
جنب البيت
ويقول القلب تراتيل الماضي
خارج دمع محشور في زور الأيام.
كما تسيطر على الشاعر في هذه القصائد مشاعر وعاطفة الحب، راسمًا للحب لوحة يمكن تعليقها في أعلى مكان في جدار الحياة:
لكن لو أحببت كما حالي الآن
فلن تعرف درجات السُّلم
ولا عدد حروف اسمك
ولست تبالي من بشر يزدحمون حواليك
وستندم حين تعدد أيامًا فاتت منك
بلا امرأة مثل امرأتي.
غير أن قصائد الديوان لا تقدم شعرًا عن عاطفة الحب فقط، بل هناك مشاعر أخرى تضعها أمام قارئها ليتمكن من معايشة حالة شعرية وشعورية مكتملة، يسهل عليه أن يتبين مفرداتها وتفاصيلها وهو يصعد من سطر شعري إلى الذي يليه:
سأخيب أمل الموت
وأبقى أطول من عمر الحب
وأنقى من جوهر نور
أتلامس مثل كمان لا يعرف للدمع مكانًا
وأجوب الأمكنة لعلي أصل إلى نقطتها.
كل الأشياء
الشاعر الذي يرى هنا أن الحب يأتي إذا أخلصنا النية، أو حين نحتاج إليه، أو حين تطلب أرواحنا أن تُشفى من أمراض الماضي، وممن عكرها بالتزييف وبالقهر، يرى كذلك أن حبيبته هي كل الأشياء، لا يفكر في سواها، ولا يرجو الوصل والتواصل مع أحد غيرها، بعد أن اكتفى بها وعهد إليها أنه أوصد باب قلبه عليها وعلى حبها، مقسمًا أنها لن ينازعها أحد في قلبه الذي نذره وجعله حصريًّا لها، لتقطن فيه ملكة يُتوجها بحبه ويُغدق عليها بمشاعره وعواطفه التي ولدت من أجلها وحدها، متحدثًا باسمها ككمان خرج على المعتاد وهجر الأوتار، لأنها حبه وبها يختم ما يكتبه، ولمَ لا وهي التي لم يكن له أثر قبلها!
ما حاجتي للوقت
وهي الزمان.
ما حاجتي لي
وهي صارتني
وأصبحتُ أمشي إلى حيث تمشي.
ما يعجبني، أولًا وأخيرًا، في تجربة الشاعر أحمد الشهاوي أنه يكتب كما يحلو له الشعر، طالما أدرك أن كتابة الشعر تحقق ما يرجوه من الوجود معالجًا بها “زهقه” من الحياة، دون أن يلقي بالًا بمن يُحدثون جلبة وصياحًا لتشتيت انتباه من لديهم هدف يسعون إلى الوصول إليه.