وراء الفردوس والسعي نحو فض التباسات الوعي بالعالم

عن القبيح والجميل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

لو أن قارئ رواية "وراء الفردوس" للروائية المصرية منصورة عز الدين "الصادرة حديثا عن دار العين بالقاهرة" تأملها جيدا سوف يرفض  مثلي تلك القراءات التي  اختزلت هذه الرواية الجميلة في أنها رواية عن الريف  المصري ,تؤرخ لتحولاته في العقود الثلاثة الأخيرة وانتقاله من الزراعة إلى التصنيع ,  ليس لأن  داخل الرواية شخصيات يحيا  بعضها في المدينة , بل لأن ثمة أشياء أخرى تلفت النظر من وجهة نظري, إذ يقتصر وجود الريف في الرواية على كونه أرضية أو مسرحا  للأحداث الرئيسية فيها .

الرواية-  فيما أظن –  تنشغل بطرح التباسات الوعي بالعالم التي تعيشها شخصية سلمى  “البطلة” التي يتمحور حولها السرد, ذلك الالتباس الذي يبدأ من علاقه سلمى بنفسها ثم يمتد ليشمل علاقاتها بأفرادعائلتها  الذين تحولوا  في مخيلتها  إلى ما يشبه الأساطير, وإلى كابوس لا نهاية له,مليء بالتناقضات, فتصبح  سلمى  تدريجيا كائنا مشوشا ,  يرى العالم بنصف وعي, يخلط  الأمور ببعضها البعض ,و الواقع بالأحلام ,غير قادر على الإمساك  بحقيقة واحدة ,متشككا في كل شيء حتى في وجوده ذاته , لذا تحاول سلمى بناء  على نصيحة  طبيبتها النفسية أن تكتب كوسيلة للعلاج ثم يتطور الأمر فتكتب سلمى رواية . لعلها تتمكن من  فك تلك الالتباسات عن طريق فعل الكتابة,الكتابة هنا بمثابة إعادة قراءة للذات,وطرح لأسئلة الوعي المؤرقة.

ترجع سلمى “البطلة”  لقريتها بعد فشلها في زواجها من الباكستاني”ظيا”  مدفوعة بأن سرا ما يكمن في الماضي جعل حياتها جحيما,  ومن هنا كان استحضار  الماضي  في الرواية أو نبشه- إن صح التعبير- كما تشير الراوية على لسان “سلمى”- ليس بدافع “النوستالوجيا” خاصة إذا كان هذا الماضي مؤلما ومصدر عذاب دائم لصاحبه  ,و يجعله دائم الشك والتوجس من العالم.

 الرواية هنا أشبه برحلة بحث عن يقين , أو خلاص من واقع بائس مليء بالصراعات,  و رغبة في استبداله بعالم آخر أفضل ,وأظن أن المقصود بالفردوس في هذا العمل  هو الوصول إلى حالة من الطمأنينة والسلام الداخلي  الذي ربما عاشت سلمى زمنا قصيرا منه في الطفولة  مع أبيها  في البيت الكبير قبل أن يفقد الوعي براءته الاولى,  وهو ما تقوله الراوية على لسان سلمي:

لا أعرف لماذا أستحضر ذلك العالم وتلك الشخصيات الآن؟ الحنين ليس دافعي على أية حال,ولم يكن أبدا كذلك, إنما هو محاولة استكناه وجودي ذاته, لمسه والتحقق منه,تحسس حوافه المدببة الخشنة, محاولة التأكد من  أن الطفلة الصغيرة ذات الشعر البني المجعد والعينين البراقتين هي نفسها المرأة التي تخطو فوق الثلاثين بوجل , وهي تراكم الأيام فوق بعضها البعض دون أن تعيشها فعلا”.

تبدأ الرواية بمشهد سلمى بعد عودتها إلى بيت أبيها في القرية و بعد  انهيار حياتها و وقوعها أسيرة لكابوس قتل جميلة,صديقتها المقربة,و ابنة عمها من الخادمة بشرى ،  ترتبط سلمى  معها بعلاقة مركبة من نوع خاص ,تتأرجح ما بين الحب والكراهية , فـ”جميلة” و”سلمى” وجهان لعملة واحدة, هي أشبه ما تكون بعلاقة الإنسان بظله أو بـ”قرينه” ,ترى سلمى أنها سرقت اسمها التي كانت سُتسمى به ,وتظل تتعذب بوجودها في حياتها ,خاصة أن جميلة تتحقق في حياتها بينما هي تعيش سلسلة من الانهيارات, لذلك يقوم لاوعي سلمى بتصفية حساباته مع جميلة عن طريق تكرارعملية القتل لها في الحلم , وهو قتل رمزي على أية حال, ويبدو أن منصورة لديها ولع خاص بفكرة قتل القرين خاصة أن روايتهاالأولى”متاهة مريم” تبدأ بالحديث عن قرينة لمريم” البطلة”,  تقتلها في الحلم, ثم تموت القرينة, لدى دخولهما معا مكانا غامضاً ترى فيه مريم أطيافاً غريبة لكل من رأتهم في حياتها.

و  لعبة القرين هنا أشبه بالمرآة التي تتأمل فيها الذات نفسها  ووعيها, وكأنها ذات منقسمة على نفسها ,الأمر الذي يفضي في النهاية  إلى نوع من المعرفة بكيوننتها وبموقعها في هذا العالم, بدليل أن سلمى بعد عملية القتل التي تقوم بها  تجاه جميلة, تشعر كأنها تخلت عن اسمها أو أنها انفصلت عن أناها الأخرى أو عن جزء من هويتها:

أما جميلة فبدا حضورها سيتضاعف بفعل الغياب, سيسيطر عليها ويقصيها عن نفسها,جميلة صابر اللعنة التي سوف تسكنها من الآن  إلى ما لا نهاية, أناها الأخرى التي انفصلت عنها وقطعت علاقتها بها دون ذرة من تردد”.

  ولعل أكثر مشاهد الرواية دلالة هو المشهد الذي  تبدأ به, حيث  تقوم سلمى بعد عودتها إلى بيت أبيها في القرية بفتح صندوق  قديم اختصها  الأب بمفتاحه, وبعد أن تفتح الصندوق تبدأ  في استعادة كل أزمنة العائلة وأساطيرها وتقرر حرق الصندوق بما فيه من أوراق تخص أبيها والعائلة, وكأنها بحرق  الصندوق سوف تتحرر من الذاكرة التى لا تمتلئ إلا بحكايات مؤلمة, لتبدأ من جديد- كطفل- بصفحة بيضاء, وهو ما يمكن أن نراه تمردا على هويتها, والتمرد على الهوية  أو  الاسم  يعني بدرجة ما تمردا  على الآخرين الذين اختاروه له ,  أو على نحو أكثر تحديدا هو تمرد على   ” اسم الأب”كما في إحدى قراءات “لاكان”  لـ”فرويد”,التمرد هنا قرين الحرية والخلاص  من إرث الماضي.

ولعل هذا المشهد  ذكرني بمشهد  حميدة في رواية” زقاق المدق” لنجيب محفوظ حين  قررت حرق  ملاءتها – بناء على رغبة عشيقها- بعدما هربت من الزقاق-  لتتخلص من  كل ما يربطها بالماضي, وكأن الملاءة هنا اختزال لهوية  تمحوها لأجل أن تبدأ عهدا جديدا, غير أن هناك فارقا  بالطبع في الوعي بهذا الفعل بين  كل من : حميدة وسلمي.

ولعل  هذا التشوش الذي هيمن على وعي  سلمي ربما كان   وراء شعورها الدائم بأنها تقتسم حياتها مع الأشباح ,لا تفهم أحدا وغير قادرة  على رسم صورة كاملة لأحدهم: أبوها “رشيد” الذي يمارس المجون ويرغب في أن يكون أولاده متدينين  كي يعوض فيهم ما لم يتمكن من تحقيقه, والخالة لولا التي حبلت من شخص مجهول وانتحرت بالزرنيخ، و حكمت طليقة زوجة العم جابر الذي تزوج بدلاً منها بشرى زوجة خادمه وأمها التي تغار من عمتها نظلة لاهتمام رشيد بها ثم  تصبح بعد موت رشيد هي ونظلة صديقتين لأسباب غير مفهومة, وخالد شقيق سلمى الذي اتجه للتدين كرد فعل على سلوك والده المنحرف،وغيرهم.

ومن هنا سوف  نجد  أن كل هذه الشخصيات  التي تبدو كأشباح  هي أقرب  إلى الأداء الملتبس المجرد ،و في الوقت نفسه فإنها تقوم بتمثيل الوعي مع إقصائه في آن.

 

عودة إلى الملف

 

  

مقالات من نفس القسم