عودة طروادة ووعود الريح

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 50
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فرحات

من منا لم يحلم في أيام طموحه بمعجزة ظهور النثر الشعري؟

شارل بودلير

“فقط…

حين تكون نائما

ينتظم تنفسك

وتهدأ قسماتك

يرتاح صدري من دخان سجائرك

ويرتخي جسدي تماما

فقط…لأننا لا نتنازع على شيء ما..”

 سلمى أنور

 

من هنا تلوح البدايات متحسسة الطريق، لعلها تصل إلى نهاية ما من تلك النهايات السعيدة، ها قد هدأت الأنفاس، لتخلد كل نفس لفضفضتها، ليصبح الأرق هو المتوج على عروش ليالي آتية أبدا.

“أجلس في نومك على حافة النافذة

أتأكد من أن الكوكب يغفو على وقع أنفاسك.”

“سأعيد طروادة إلى أهلها  ثم أحبك”، ديوان جديد للأديبة الروائية والشاعرة سلمى أنور،  صدر عن هيئة الكتاب. عنوان طويل حقا، ولكنه أيضا يصلح ليكون قصة قصيرة جدا، عنوان لديوان من قصائد النثر، وكأن مصير كلاهما ملتحم منذ البداية، أي الجنسين خرج من رحم الآخر،  أم ترى أن المحدد لكلا الجنسين درجة السردية في الأولى وإطار الزمنية. والشعرية، وانعدام الإطار الزمني في الثانية؟!، ولكن وحين تطالع ديوان سلمى، تقع في حيرة شديدة فالسردي شعري، والشعري سردي  بذات الوقت، والإطار الزمني يظهر ظهورا جليا، متفقا مع السردي، مخالفا الشعري..

البداية تقريرية شعرية، تنسل منها سلمى لقصتها السردية عن كيس الحلوى تحت وسادتها، من أين أتى؟، ومن جاء به؟، وما دلالاته الرمزية..؟

” كيس حلوى

ابتاعه لي سرا صديق قديم.

صديقي

امتنع عن التدخين

ثلاث ليال كاملة،

كي يدخر ثمن كيس حلوى

طلبا لابتسامتي

أحنى قامته الطويلة،

حتى يقبل الغمازة الغائرة في  خدي الأيسر”

يوصيها الصديق بأن تدسه تحت وسادتها، بعيدا عن أعين الغرباء، ثم يذكرها..

“فاذكري احتمالي صداع الامتناع  عن التدخين ثلاثا ثمنا لابتسامتك..”

هاهي الأحداث متتالية بسرد مكثف، وكأنها ذكرى  ليلة مؤرقة، يثيرها “كيس حلوى” ، حسنا هي البداية، فثمن كيس الحلوى كان أرقا  يستمر لثلاثة أيام، حرمانا من وجبة النيكوتين اليومية، ليوفر ثمن كيس الحلوى، ثمنا ليس بالبخس مطلقا، لقاء ابتسامة سعادة من غمازتي حبيبته..

” أقلب

خطابات العشق الذي كان

عل البكاء يستطيع أن يجود

بالقصائد المعاندة

لعله يحنن القوافي الجامدة التي

لا تستجيب..”

ينساب هذا المنسحق بين مطرقة الفقر و سندان العشق ذكريات كسحابات الدخان الشهي، يؤرق الليالي بحنين العهد، و العهد كان،

” عهودنا ثلاثة  كسجائره و ابتساماتي،

وسرنا الوحيد

كيس حلوى خبأته تحت الوسادة..”

هو إذن دفع للجنون بلا شفقة، باسم الحنين و الشوق و الأمل اليائس، ولم كانت القسوة دائما نصيبا للمحب الذي لم يبق منه سوى  الذكرى؟، لم كان الجنون مصيرا لكل محب صادق؟، لتعلمه كيف يتوه مجذوبا في دروب الشوق…

” بصعوبة..

أعلمه الصيام عن التغزل في تفاصيلي

، لكنه..في إصرار تائب مهووس بالخطيئة

يظل يرتكب العشق سرا..”

تعلمه الدوران حولها كضريح ولي ذي سر غامض، مبارك..

” مجذوبي..

يدور حول وقوفي القلق طويلا

يتمتم كالهذيان كلاما

لا أعرف عنه سوى أنه شعر

علقه درويش قديم

حجابا في رقبته

عله يحفظ له جنون وجده

وبعض قداستي..”

هل تستجيب ؟!  نعم، ولكن لوهلة لا تحسب من عمر الزمان، وهلة هي كل أعمار العاشقين!.

” وكلما…

استحكمت الدهشة في عيني

و استسلم قلبي لدوران الدف الملتهب

تحت نظرات أنامله،

أتذكر أنني الوقور

أني المرام و المريد

والدليل و المقام و الضريح..

وهكذا..أقرر استوائي فوق عرش حضرتي

كاملة..

وأستريح..”

تغزوها مشاعر الشفقة حيال هذا المجذوب الوله، الفاني في ذاتها السرمدية، تجود عليه بوعد كورد شيخ لمريده ، حتى لا يذوب قلبه أسى، تراه وعد صادق ؟! أم هو مجرد  تعزية لانكساره..؟!

” سأحبك..

لكن ليس اليوم..

في غرفتي تل صغير

من صحف لم أقرأها بعد،

وأنا -كما تعلم- توقفت عن

متابعة أخبار هذا العالم

منذ حرب طروداة..

حبيبي..

مهلا فقط..

لليلة أو ليلتين

فهذا كل مايلزمني..

ليلة أو ليلتان..

لأعيد طروادة إلى أهلها..

ثم أحبك..”

ثم تنساه لتحاول إعادة طروادة لأهلها، على وعد بمحبته، ولكنه مجرد وعد،ربما تنساه في وسط كل تأملاتها لعصور الهزائم، الجاثية بانكسار،كانكساره في محرابها..

” أنا..يا حبيبي

لم يعد بي صبر على

مطالعة أخبار الدماء

والحصون التي تستر الجنود عن أعين المساء..

والمدن التي سقطت بالخيانة..

طروادة..عكا..قرطبة

كلها..كلها..المدينة ذاتها والرائحة نفسها “

وفي النهاية تعتذر..

” والآن..

في أذني انتحاب أناس

مكدسين في الظلام

يغشاهم موج عظيم..

على جباههم وشم كبير داكن

“مهاجرين” “

ثم تعتذر ثانية، فهي مشغولة بأسئلة وجودية خطيرة تذهلها عن كل شئ..

” أسئلة لا تنتهى

أدور خلفه..أدور

تدور في سرية ضفائري السرية

ينهمر السؤال :-

عن كافكا..عن الرجال..والعباد

واليقين..والتسليم..والصحف المعارضة..

عن الكتاتيب الصغيرة التي

تزين القرى بالأغنيات

وكيف يقرأ العساكر الخرائط التي مملوءة ألوان..

وكيف تشعر السجون بالصحراء و الحنين

وكيف للفردوس أن يكون ضحكة لبائس تعيس..”

تشعر بالفقد،  فتطلب منه ما لا يستطعيه، كيف وهو المجذوب الذي لا يملك سوى أن يتمتم باسمها..

” علمني ما لم أكن أعلم

حدثني عن أشياء

لم توجد قبلك

ولم تكن لتوجد إلا بك..

حتى نخترع معا لغة جديدة لم يسمع بها الآخرون..

هكذا أحب أن تحبني على طريقتي المثلى..”

هكذا،لاتقنع بلغتها العاجزة،لتبحث في الحروف الثمانية و العشرين فلا تجد ما يعبر عن إجابات لأسئلتها المزمنة، تبحث جاهدة عن حرف جديد يناسبها،حرف لم يوجد بعد..

“علمني

حروف العربية الثمانية و العشرين

وحينما أخترع،لأدهشك، حرفي

التاسع والعشرين..

اندهش

وصفق لي

ثم عانقني طويلا..

واجلس إلى جواري..”

لا تندهش أيها المجذوب الراحل في عينيها، فهي وإن بدت ناضجة، فهي ماتزال طفلة صغيرة،بضفيرتين سريتين، بعد تكتشف العالم..

” كبرت..؟!

ما كبرت..

لم أفقد ضفيرتي

قصصت شعري مرة

على الطريقة الغلامية التي تكرهها أمي

لكنني..لم أفقد ضفيرتي..”

وبعدما يدنس الجميع بخطايا العالم البريئة، تجد مرفأ آمنا، بينا يتوه العالم في تعداد ضحاياه..

في بعض الليالي

يصاب العالم بالجنون..

يرفع المهووسون أسلحتهم

ويهز المخابيل راياتهم

حمراء..خضراء..سوداء

ليس من فرق

فكل الرايات في الهوس سواء..

في هذه الليالي

وحينما يتمكن السعار من المشهد كله

لا يتسع لي

إلا حضن زينبي الصغيرة

وحنان الابتسام في عينيها البريئتين..”

تنسى وعدها،  وتتلاشى حروفه في  سحابات النسيان،  وتتلاشى ذكرى  وجود مجذوبها من مخيلتها، فالعالم زينب، والحب زينب..

تقف بين الأم و الابنة لتقول سلمى في مقدمة ديوانها..

” وتتنتصب قامتي بينكما، فلا أنا إلى طفولتي بكاملي و لا إلى أمومتي  بكلي، فتكتمل في المسافة بينكما المعاني الناقصة للأنوثة، وتدفع الحياة عنها بعض قبحها، ويرد الوجود عن ذاته بعض الغموض..”

ويتوه المجذوب في دورانه السرمدي،مذكرا نفسه من حين لحين بوعد لن يوفى.

يحدث نفسه الغائب المكلوم في حبه، المطعون في ثمرة فؤاده، الدامي الدامع لتحقير معبودته لعبادته، منذ وعدها الكذوب المتخيل الأول كان الوجود غير الوجود، كان ثمة مايربطني بهذا العالم المتجهم، واليوم وفي ذات المكان، أبحث،بلاجدوى، وبيني وبيني بحار وأسوار، فقد أخفقت في تذكيرها بعالمنا الذي كان  بسحيق الزمن،حينما كنا محض أنوار، ربما كان هذا هو خطأي الغير وحيد. وبعد دهور،ربما، نتقابل ولكن سيبقى خطأي هو عين خطأي، أنني دائما أغفل كوننا بقلاع من طين…

ليردد كما ردد كمال أحمد عبدالجواد في قصر الشوق بعدما كسر معبوده قلبه..”

ليس أقوى من الموت إلا الهوى،  كنت تراها على بعد أشبار منك ولكنها في الحق كالأفق تخاله منطبقا على الأرض، وهو في ذروة السماء يحلق…، ولكن يبدو أنك سترحل عن هذه الدنيا قبل أن تعرف مسه، كنت دائما أراود نفسي، لم لاتكون شجاعا فتهوي إلى انطباعة قدمها فتلثمها؟… أو تأخذ منها حفنة فتجعلها ححابا يقي من آلام الحب في ليالي الفكر؟ وا أسفاه !! كل الدلائل تشير إلى أنه لا اتصال بالمعبود إلا بالتراتيل أو الجنون، فرتل أو جن…

………

والحق أن تاريخ حبه الطويل لم يعدم لحظات أمل خلت كان يضيء ظلمات قلبه بسعادة وهمية على إثر ابتسامة حلوة يجود بها المحبوب المعبود أو كلمة عابرة قابلة للتأويل أو حلم سعيد عقب ليلة فكر وسهاد ولواذا بقول سائر له احترامه في نفسه مثل” من القلب للقلب رسول” فكان يتعلق بالأمل الخلب في إصرار اليائس حتى تعيده الحقيقة إلى وعيه، وفي تلك الساعة يتلقى ما تلقاه كالدواء المر ليتداوى بها مستقبلا من كواذب الآمال، وليعرف على وجه اليقين موضعه أين يكون…

…..

وحينما تكتمل تجربة الألم، يتفاخر على العالمين بألمه يستجدي معبودته حجرية القلب بلاجدوى، هو قد اتقن الماشوسية بكل اقتدار، كما اتقن المثل الأعلى  المعبود الساديةوالدوران حول، الذات،وضريح المحبة المتهالك على وقع الطبقية، والتطلع الاجتماعي والاقتصادي المهيمن على المحبوب المعبود، وبين نسيان الذات ومعايير العالم الحديث المستغرق في ماديته، والاستغراق بكليته في روحانية مثالية تثير الشفقة حينا السخرية أحيانا كثيرة جدا، فبين دموعه وشهقاته وهو ينتظرها بالساعات وحينما تلوح له، تهرب من أمامه وما حمل لها إلا الورود والتراتيل  والتسبيح، يعدو خلفها بقلب منكسر غير مصدق تنكرها له لهذه الدرجة، وحينما يقترب منها يحتار بأي أسماء التبجيل يناديها، لتغيب في الزخام، يقول لنفسه كما قال السيد الأعظم على لسان كمال في السكرية…

“وفي تلك الساعة حظى بمعرفة ألم جديد، ألم الرضى بحكم قاس قضى عليه بعدم الأهلية، كما عرف من قبل -عن طريق الحب أيضا- ألم الفراق وألم الإغضاء، وألم الوداع، وألم الشك، وألم اليأس، وكما عرف أيضا ألما يحتمل، وألما يستلذ، وألما لايسكن مهما قدم له من قرابين التأوهات والدموع، كأنه أحب ليتفقه في معجم الألم، ولكنه على التماع الشرر المتطاير من ارتطام ألالمه يرى نفسه ويعرف أشياء، ليس الله والروح والمادة -فحسب- ما يجب

أن تعرفه، ما الحب؟… ما البغض؟…ما الجمال؟…ما القبح؟… ما المرأة؟…ما الرجل؟…كل أولئك أيضا يجب أن تعرف، أقصى درجات الهلاك تماس أولى درجات النجاة،  اذكر ضاحكا أو اضحك ذاكرا أنك هممت بالإفضاء إليها بمكنون سرك! اذكر باكيا أن أحدب نوتردام ملأ حبيبته رعبا وهو يحنو عليها مواسيا، وأنه- أحدب نوتردام- لم يستثر عطفها البرئ إلا وهو يلفظ آخر أنفاسة…”….

يقع ديوان ” سأعيد طروادة إلى أهلها..ثم أحبك ” في ثلاثين قصيدة نثر، هي رتوش تكون في النهاية لوحة خلابة المناظر، شجية الألوان، تأخذك لعالمها الخاص و المتفرد، ومع نهاية آخر شطرة من آخر قصيدة،تشعر بفقد ما، فقد يشبه حيرة الغريب الواطأة قدماه أرضا غريبة.

قصيدة النثر والرجوع للأصل الأول، عَود على بدء

من قال إن معيار جودة الشعر يعتمد فقط على حسن اختيار البحر والقافية، أو رتابة التفعيلة، أوتنويعها، فأرى الأصل الأول يتمثل في جودة الخيال وملائمته للحالة الشعورية، وما يتلاءم معها من لفظ ومايصرفه إلى دلالات بعيدة وقريبة، وفي عصر صدر شعر الإسلام الأول، الذي يمثل ذروة ماوصل إليه الشعر الجاهلي من أسس لتصنيف النص الشعري، يقرر حسان بن ثابت هذا الأصل الأصيل المتجاهل من متعصبي عمود الشعر الكلاسيكي..

فيروي عبدالقاهر الجرجاني في أسرار البلاغة :”أن عبدالرحمن بن حسان بن ثابت رجع إلى أبيه، يبكي ويقول :لسعني طائر، فسأله حسان أن يصفه، فقال عبد الرحمن :كأنه ملتف في بردي حبره، وكأنه لسعة زنبور، فصاح حسان:قال ابني الشعر ورب الكعبة”

وقد علق الجرجاني على هذا الموقف بأن التشبيه يدل على مقدار قوة الطبع، وهو يفرق بين الذهن المستعد للشعر وغير المستعد له. ويعلق مصطفى الجوزو :” هذه الرواية توقفنا عند أمرين، الأول :أن حَسَّانًا عد ماقاله ابنه شِعْرًا، ولم يكن موزنًا أو مقفى،ولم يتميز إلا بالتشبيه. والثاني :تبنى الجرجاني هذا الموقف، جَاعِلًا التشبيه وحده دَلِيلًا على الاستعداد الشعري ” ويتساءل الجوزو “هل ذلك يعني أن الوزن و القافية ،لم يعدا عنصرين أساسيين للشعر إلا بعد القرن الأول الهجري”

لقد عالج النقاد العرب ماهية الشعر في عصور سابقة،و تطرقوا إلى عدة عناصر تحدد طبيعة الشعر أهمها :الاستعارة،المفارقة،الغموض،الإدهاش،الإيحاء،

الانسجام،التخييل،التشبيه،العاطفة،الانحراف،

المبالغة،وغيرها،وناقش النقاد العرب القدامى مسألة الفوارق بين الشعر والنثر،ومسألة السرد الشعري والشعر السردي.”

عز الدين المناصرة. المملكة الأردنية الهاشمية.

إشكالات التجنيس الشعري(شعرية التهجين)

فصول شتاء 2017 .

 

 

مقالات من نفس القسم