رسائل سيلفيا بلاث.. سيرة الألم الفادح

رسائل سيلفيا بلاث
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

ممدوح فرّاج النّابي

تمثّل كتابة الذّات (بصفة عامة) وتحديدًا الرّسائل الشخصية (بصفة خاصة) أهمية كُبرى لمؤرخي الأدب ودارسيه على حدٍّ سواء؛ فالرّسائل الشخصية – ببوحها وفضفضتها اللامحدوديْن – تكشف الأبعاد المُضمرة للشخصيات، وكذلك السياقات الثقافيّة والسياسيّة والاجتماعية التي ارتبطت بالزمن المستعاد أو الزمن المفقود. كما أنها تُقدّم المراحل الهامة التي ساهمت في نحت مسار التكوين النفسيّ للشخصيّة، وفي سبيل ذلك تسعى – دون قصد بالطبع – لأن تُقدّم صورة لتطورات الشخصيّة، وتحولاتها من الحبّ إلى الكراهية، والقوة إلى الضعف، والإقبال على الحياة إلى الانسحاب منها، والمرح إلى الاكتئاب. فإذا كانت كتابة الذّات – بصفة عامة –  بمثابة الإطلاع على التاريخ من أسفل – بمصطلح جيم شارب – فإنّ الرّسائل – بصفة خاصّة –  بمثابة الإطلاع على التاريخ المخفي، أو المسكوت عنه، للصفوة وليس للمهمّشِين، على نحو نقيض لما كرّسته مقولة جيم شارب، بردّ الاعتبار للمهمّشين.

الأنا هو الآخر

علاوة على أنها تكشف الصُّورة الخفيّة للحياة الشخصيّة عبر رسائل خاصّة تأخذ طابع الخصوصيّة بين المُرسِل والمُرسَل إليه، فالأساس الأوّل لكتابتها هو الكتمان بعدم إذاعتها على الناس، ومن ثمّ تكتسي طابع الصّدق في البوح والجرأة في المصارحة والمكاشفة، أكثر من الكتابات التي تنتمي إلى السيرة الذاتيّة الخالصة، فالأخيرة تكتنفها إكراهات كثيرة تحول دون قول الصدق الخالص، فبقدر ما هي كتابة عن الذات باستعادتها تارة ومواجهتها تارة ثانية، فأيضًا هي كتابة عن الآخرين، حيث تتكسر الحدود بين الذّات والآخر، ويصبح التمييز بينهما عسيرًا، فكما يقول أرثر رامبو “أنا آخر“، فيحضر هذا الآخر الذي شاركه مسيرته أو تقاطع مع تجربته الحياتيّة أو العلميّة، ومن ثمّ تخضع – في كثير منها – لمبدأ الانتخاب، الذي يقوم بفرز أو تنحيّة ما قد يُظن أنه يسبب ضررًا لمن ترد أسماؤهم في السيرة، إضافة إلى ذلك يمكن الأخذ في الاعتبار عامل هشاشة الذاكرة (أي ضعفها بسبب طبيعة المرحلة العمريّة التي يدوّن فيها صاحب السيرة حياته، وهي عادة تكون متأخّرة جدًّا، فثمة مسافة زمانية بين زمن الوقائع وزمن استعادتها / سردها)  كعامل مهم وجوهري في غياب الكثير من الحقائق، بعكس الرّسائل التي تُسجَّل آنيّا، ولا يعتريها الحذف أو التعديل، ومن ثمّ فنبرة أصدق أعلى، والبوح أَجْلى.

ثمة فارق جوهري بين الرسائل وأشكال كتابة الذات الأخرى كالسيرة والمذكرات، أن الذات – في السيرة الذاتية، أو المذكرات –  وهي تستحضر الماضي الخاص بها تكون في الغالب فريسة الحنين لما انتهى وانقضى، لذا نراها تعيد تشكيل هذا الماضي في صورة جديدة، لا وفقًا لما ترسّخ في الوعي  (كما كان) وإنما حسب ما تريده أن يكون في اللاوعي. في حين الرسائل – شأنها شأن اليوميات –  لا تستدعى الماضي، بل تسجّل الحاضر في لحظة تجلّيه، دون أن يخضع  الخطاب للمراجعة أو التغيير بالحذف والاستبدال أو حتى العدول عما احتواه من آراء وتصريحات، بل هي دفقة شعورية واحدة في لحظة خاصّة جدًّا، وهو الأمر الذي يَدفع – في كثير من الأحيان –  الورثة  لرفض نشر الرسائل الخاصة، واعتبار نشرها نوعًا من الفضائح، وهتك الأسرار؛ فيضطرون  إلى إعدامها تمامًا.

ثمّة فارق آخر، يتمثّل في أن الذات وهي تجتر حكايتها، قد يتنوّع غرضها بين استعادة الذات، ومراجعة مسيرتها، وأيضًا السعي لاكتشافها وإثبات خصوصية هويتها ومن ثمّ يكون التساؤل أمام نُقاد السيرة: هل تكتب الذات لتتحرر أم لتحرَّر؟ في حين أن الذات (وتحديدًا المثخنة بالطعنات) وهي تكتب الرسائل أشبه بالطائر الذبيح، وهو يتعلق برمق الحياة الوحيد؛ تريد أن تتواصل مع الآخر(المرسل له) فالتواصل بالنسبة لها طوق النجاة أو الحياة، فنرى وصفًا للذات في كافة تجلياتها؛ الفرح والحزن، الانطلاق الاكتئاب، الحبّ الكراهية. على عكس السيرة التي يكون كاتبها حذرًا جدًّا وهو يفصح عن ذاته، حتى في لحظات ضعفها وانكسارها وهزائمها، فما يسرده لنا منتقيًّا، وخاضعًا لمبدأ الانتخاب والانتقاء، الذي يعمل على غربلة ما يود نشره.

في ظني تقترب الرّسائل من اليوميات في طبيعة تسجيلها للواقع والأحداث بتواريخ محدّدة، حتى ولو لم تكن متوالية كاليوميات، وأيضًا تقترب – بدرجة أو بأكثر – من الاعترافات، بحكم انطوائها على عقد [ميثاق] غير مُصرَّح به بين المرسِل والمرسَل له، بالتصريح بالمواقف العاطفيّة والنفسيّة، وبتسجيل دقيق – وإن كان على فترات – للحياة اليومية وما تواجهه الذات من مسرات وأحزان، ونجاحات وإخفاقات. ميثاق العقد غير المصرَّح به هو التكتُّم والسّريّة؛ لأنّها موجَّهة لأشخاص محدودين ومحكومين بدرجة قُرْب (كأحد أفراد الأسرة أو الحبيب/ أو حتى الطبيب الشخصي) تسمح –  في المقام الأوّل – بالبوح، وما يترتب على هذا البوح من حفظ الأسرار. على عكس الاعترافات التي يكون نشرها بمثابة إعلان لها، فالفارق أن نشر الاعترافات يكون بمثابة عملية تطهير وعلاج للنفس المـُثخَنة بالجراح، أما الرسائل فلا تبغى التطهير بقدر ما تبحث عن أجوبة لحَيْرتها وتساؤلاتها، ولكن مِن أشخاص موثوق بهم. وأحيانًا لا تبغي شيئًا سوى البوح وفقط.

لذلك كله تلقى الرّسائل الشّخصيّة صدىً أوسع لدى المتلقي عن مثيلاتها من أشكال كتابة الذّات كالسير الذاتيّة، والمذكرات والاعترافات وغيرهم، وعندما يتمُّ اكتشافها تكون بمثابة الحدث المهمّ الذي ينتظره الجميع، وتتكالب عليه دور النشر؛ لأنّ – حتمًا – ثمّة جديدًا سيُكتشف من بين سطورها، وما تتضمنه من أسرار وعلاقات لم تكن معلومة من قبل.

الشاعرة المغدورة

ولدت الشاعرة سيلفيا بلاث في بوسطن في عام 1932، لأب بولندي كان بروفيسورًا في علم الأحياء، وأم من أصل نمساوي، كتبت الشعر في سن مبكّر جدًّا، فازت عام 1952 بجائزة مجلة “مدام مدموزيل للكتابة السردية”. في الرسائل التي حملت عنوان (رسائل سيلفيا بلاث (1840- 1963))، والتي صدرت ترجمتها مؤخرًا عن منشورات تكوين أيلول 2019 بتقديم وتحرير فاطمة نعيمي، نحن أمام تفاصيل دقيقة للحياة المأساوية التي عاشتها الشاعرة المغدورة بعد زواجها من الشّاعر البريطاني تيد هيوز (1930 – 1998)، الذي كتبتْ عنه في رسالة لأمها بعد لقائهما الأوّل في حفل هكذا: “كتبتُ عنه قصيدتي الأجمل”، وتارة ثانية تصفه بأنه “الرجل الوحيد في العالم”، ثمّ وصفته – بعد ذلك في إحدى رسائلها إلى طبيبتها الخاصّة بيوشر – بأنه “رجل ميت“، وما بين رسالتها الأولى لأمها، ورسائلها الأخيرة لطبيبتها، عالم من الغرائبية عن حياة المثقف بعيدًا عن الصُّورة المثاليّة التي يتخيُّلها (أو يصنعها) القراء عنه.

الكتاب جاء في خمسة أقسام، شغل كل قسم جانبًا من حياتها، منذ طفولتها إلى أزمتها مع زوجها التي انتهت بانتحارها، وفي نهاية الكتاب ملحق بالصور، القسم الأخير يُظهر معاناة سيلفيا من زوجها، وهو واضح في جملة الرسائل التي تبادلتها مع طبيبتها، وكانت تطلب منها المشورة والعلاج بعد تفاقم الصّدام بينهما، وبدءها في إجراءات الطلاق.

 المجلدات ظهرت مؤخّرًا تباعًا، فظهر المجلد الأول في عام 2017، وكشفتْ فيه عن الحياة المضطربة التي كانت تعيشها، الغريب أن الرسائل بدأت في سن مبكّر جدًّا، كانت فيها في بيت جدها. أخذت الرسائل في مرحلة الدراسة شكل اليوميات، حيث كانت تُرسل رسائل إلى أمها وأخيها وباقي أفراد الأسرة بصفة شبه يوميّة، تُطلعنا عبرها عن قائمة بالأنشطة اليومية الأساسيّة من تفاصيل الوجبات والسباحة والتنزُّه إلى ممارستها للفنون والحرف اليدوية. وكأنها تسجّل عبر الرسائل لحياتها بعيدة عن المنزل. وفي مرحلة لاحقة تقدّم تفاصيل الحياة الزوجيّة،  وعلاقاتها المتعدّدة بروبرت جورج ريدمان،  وديك ربورت همفري. بالطبع قبل زواجها من تيد.

الرّسائل في قسمها الأخير كأنها تفكيك لأسطورة الشّاعر المُثقف. فسيلفيا تُقدّم هيوز على أنه رجل أناني، خالي من المسؤولية، حتى أنها تشبه علاقتهما وكأنه أرادها “بستاني لحديقته” لا يهتم بشيء، سوى كتاباته، ونزواته الشخصية، التي كانت سببًا لألم داخلى آل بها إلى النهاية الفاجعة، وهو ما ترتب عليه أن يكون كاذبًا لوقت طويل. كما تستعرض لوحشيته أو عنفه؛ معنويًّا بتحقيره لفظيًّا من شأنها فصارت “النحس والسلسلة التي تخنقه”، وجسديًّا بالاعتداء عليها بالضرب، وهو ما سبّب لها الإجهاض كما حكت لطبيبتها بيوشر في إحدى رسائلها.

تبدأ المعاناة الحقيقية لسيلفيا مع اكتشاف خيانته لها مع “آسيا وايفل” التي كانت متزوجة في ذلك الوقت زيجتها الثالثة. ما زاد من معاناة سيلفيا وقادها لأن تضع رأسها في فرن الغاز، هو ليس فشلها في استرداده، وإنما في أنانية الشاعر ونذالته. الغريب أن دور الشاعر السلبي في حياتها لم يتوقف وهما معًا، بل مارسه بعد انتحارها، باتلاف الكثير من رسائلها ويومياتها، وأيضًا بحظره نشر أي جزء من كتاباتها، مبررًا تصرفه هكذا: «لقد مزقته، أو مزقت أجزاء منه لأنني لم أرد لأولادي أن يقرأوه».

الأم الملاذ

الرسائل تتوزّع على شخصيات كثيرة من أفراد عائلتها وأصدقائها كمارغو دريكماير، لكن المحور الأساسي شخصية الأم، فمعظم الرسائل مُرسلة إليها، وتسرد لها كافة التفاصيل التي تعيشها يومًا بيوم. كما لا تنسى في رسائلها أن تتحدث لكل معارفها، عن حياتها، بعد الزواج. ترسل سيلفيا حسب قولها لأمها، كل يوم، وفي المقابل تُرسل الأم لها، لكن رسائل الأم غير موجودة، وعندما لم تصلها رسالة منها تَشعر بالقلق على نحو ما عبّرت في رسالة الأحد 19 يوليو 1943″ لم أتلقَ رسالة منك أمس، أتمنى أن تكوني على ما يرام“. تبدأ رسالتها عادة بأمي العزيزة، أو أمي الأعز، وتنهيها بحبي، الكثير من الحب، وقبلاتي وأحبك بشدة في بعض الرسائل. قليل من الرسائل التي ترسلها بصيغة مشتركة لأمها وأخيها، كما في رسالة 5 يوليو 1945.

كانت أوّل رسالة لها بتاريخ 19 فبرلير 1940، أي أنها كانت في سن الثامنة، أرسلتها لأبيها” أوتو بلاث” تخبره فيها بأنها ستعود إلى المنزل قريبًا، وتسأله سؤالاً غريبًا: هل أنت سعيد بقدري؟ مضمون الرسالة الآخر لا يشير إلى معنى هذا التساؤل، وإن كان يُفهم منه بسبب بعدهما عن بعض، حيث كانت تقيم عند بيت جدها. ثم بعد ثلاث سنوات من رسالتها لأبيها – وكان قد مات بسبب مرضه – أرسلت رسالتها الثانية لأمها “أوريليا شوبر بلاث” في يناير 1943. في رسالتها لأبيها تخبره عن رسالة كتبتها لأمها، وتطلب منه أن يقرأها منها. لكن لا أثر لهذه الرسالة وما هو مضمونها، تكشف الرسائل عن العلاقة الوطيدة بينها وبين أمها، بالطبع لو استمرت حياة الأب لكان هناك الكثير من الرسائل بينهما. المثير حقًّا أن غياب الأب في الرسائل قابله حضور طاغٍ في قصائدها الشعرية، وكأنها عملت على إعادة تركيب الأب الذي لم تعرفه،إذْ صار غيابه رمزًا لغياب الحياة نفسها.

علاقتها الوطيدة بالأم تتكشف من الرسالة الثانية، فالابنة تسجل لأمها وقائع حياتها وهي بعيدة عنها بالتفصيل، فتقدم لها كشف حساب بنفقاتها، وتحدد لها الوقت، وماذا تفعل، وكم ساعة اقتطعتها في ممارسة هوايتها في لعب التنس والموسيقى “قضيت ثلاث أرباع الساعة في الموسيقى… “. كما أن توجيهات الأم حاضرة معها وهي بعيدة، فتخبرها بأنها أكلت وجبة الإفطار بالكامل، وذهبت إلى المدرسة، وأثناء ممارستها العزف مع مارشا، أنها استخدمت أصابعها كما علّمتها وظلت تقول: “هذا هو ما تريده أمي مني فعله”.

 في معظم رسائلها لأمها تتكرّر هذه التفاصيل الحياتيّة (الاستيقاط / الفطور / الاستحمام / المذاكرة / ممارسة الهواية / قراءة الكتب / والعزف والاستماع إلى الموسيقى) بالتواريخ والساعات أيضًا. الرسائل المزدوجة تتكرر مرة للأم والأخ معًا، وبالمثل ترسل رسالة مشتركة للجد والجدة. تغيّر اسمها إلى شيري بدءًا من رسالتها إلى أمها 28 يونيو 1947 أثناء تواجدها في معسكر صيفي.

سليفيا ضدّ الحرب

القسم الأول من رسائلها لم يتجاوز نطاق أسرتها وأصدقائها، فمجمل الرسائل عن يومياتها، خاصّة في الفترة التي قضتها في المخيم، وهواياتها في جمع الطوابع، وهناك رسالة لعمتيها كشكر على هدايا. في القسم الثاني من الرسائل، والتي تشغل الفترة من 1946 – 1950، تبدأ في كتابة القصص، والرسم. ومن الملامح المميزة للقسم الثاني هو ظهور الصديق الألماني هانز يواكيم نيوبرت، حيث يتبادلان الرسائل، خاصّة بعد إبداء رغبتها في التواصل مع شاب أمريكي، تختار هي رسالته وتتواصل معه، قدمت له أولاً نفسها ودراستها، إلا أنها كشفت عن إيديولوجيتها في رفض الحرب، ونبذ العنف، وأيضًا كشفت عن عنصريتها ليس بالمعنى السلبي وإنما سعت إلى تصحيح الصُّور المغلوطة عن الشباب الأمريكي من خلال ما قدمته عن نفسها.  تتواصل معه بالرسائل، فتحكي له عن عادات الطعام والشراب، وتصف له عطلة الصيف ونظام الدراسة عندها، وبالمثل يجاوبها هو في رسالة غير معلومة بالنسبة لنا عن الحياة بعد الحرب، وعادات الطعام وغيرها. ويتبادلان الآراء في القراءات والهوايات والموسيقى المُفضلة ومواقفهما من الحرب، وتنقل له صورة مصغرة عن الحياة التي يحياها الشباب في أمريكا، ووسائل الترفيه وما يشغلهم، وفي بعضها تشير إلى التحولات التي حدثت مع دخول الميديا، كالراديو والتليفزيون، وتأثيراتهما السلبية بالطبع.

تؤكّد له في أكثر من مرّة عن رفضها لفكرة الحرب، وترى أن الحروب كارثية وغير ضرورية، وغير عقلانية وتعلن عن دعوتها لأن ينبذ الجنس البشري الكراهية والحقد بسبب الثروة والأرض والسلطة، ويكرِّس طاقته لتعزيز الأخوة في جميع أنحاء العالم. فالحياة بالنسبة لها مقدّسة فكما تقول: “أنا إنسان ولدي تقديس كبير للحياة وسلامة الفرد“، ومن ثم يأتي التساؤل لماذا أقدمت على الانتحار، وما هو الضعط الذي كان صعبًا عليها تحمله؟ تكشف رسائل الفترة عن شخصيتها في مخالفتها لسائر الفتيات اللاتي لا يفكرنّ إلا في فساتين الحفلات، والأولاد الذين يهتمون بالمال فقط والوجوه الجميلة، هي على العكس تمامًا، تفكّر في الرفقة الروحيّة وتراها ضرورية للغاية في عالم تسيطر عليه السطحيّة.

مع منتصف القسم الثالث من الرسائل التي تشغل الفترة  (1951- 1956)، وهي الفترة التي كانت فيها روث في الجامعة بدأت تظهر عليها أعراض الاكتئاب، ففي رسالتها إلى أمها بتاريخ السبت 14 يونيه 1952، بدأت تترجى الأم أن تكتب لها، لأنها كما تقول: “في حالة خطيرة من الشعور بالأسى على نفسي” . ثمّ تزداد حدة الشعور بالحزن مع الرسائل اللاحقة، ومن ثمّ تفقد قدرتها على الذهاب للسباحة. كما يتضمن هذا الجزء من الرسائل نصائحها لأخيها بعد حصوله على منحة جامعة هارفارد.

الشعر الاعترافي

في رسالتها المؤرخة في يوم الخميس 29  أبريل 1956 يظهر الشاعر تيد هيوز، وتوضح لأمها مدى انبهارها به هكذا “لم ألتقِ برجل مثله يومًا”، وفي رسالة لأخيها (وران) وجاءت بعد شهرين من رسالتها لأمها في الإثنين 18 يونيو 1956، تحكي له عن زواجها السّري به، وانبهارها الفائق لدرجة أنها تقول في تبرير زواجها السري: “لقد وجدت أخيرًا الرجل الوحيد المناسب لي في العالم“. تتجاوز الرسالة إعجابها إلى إظهار جماليات شعره، بل تضعه في مقارنة مع شعراء آخرين، فتذكر أنها قابلت الكثير من الكتَّاب إلا أنهم أشبه بالأقزام أمام هذا الرجل. كما تسرد عن حياته الشخصية وهواياته ..إلخ. كما سردت في جزء كبير من الرسائل الحياة مع تيد، وتعلُّمه للإسبانية على يد عجوز. وتنقلاتهما في الأسواق، وغيرها.

رسائل سيلفيا بلاث التي هي أشبه باعترافات عمّا عانته في حياتها المضطربة مع زوجها، وهو ما آل بانهيارها العصبي، تعد جزءًا من إبداعها الشعري، ولا تنفصل عنه، ففي شعرها كانت تميل إلى الشعر الاعترافي، خاصّة بعد اكتشافها لقصدية روبرت لويل “دراسات حياتية” 1959، فالشعر عندها مرآة حقيقية للحياة الفردية منظورًا إليها بعين الشعر الرومانسي، فكان شعر لويل “نافذة حقيقية ساعدت بلاث على النفاذ إلى سيرتها الخاصة، إلى الألم الفادح.” ستكشف بطريق غير مباشر عن معاناتها في النشر، وتدبُّر النفقات، خاصّة بعد تركها التدريس لاكتشافها أن المهن التعليميّة – كما صرّحت لأمها – بمثابة “الموت للكتابة”، كما تكشف عن أجواء الحياة الثقافية وتكلُّس النقد الجامعي، ونراها تنتقد الكثير من المقالات الصادرة عن أساتذة الجامعات، كاشفة عن عوار رؤيتها وعدم مرونتهم في تقبُّل أشياء غير مألوفة.

هناك جوانب خفيّة في حياتها تتناثر – هنا وهناك –  في رسائلها، خاصّة في رسائلها للصديقين الألمانيين هانز وإدوارد كوهين، فتحكي لهما عن عملها كجليسة أطفال، أو  في مزرعة في العطلة لتدبُّر النفقات بقطف الفاصولياء وحمل صناديق الفجل وإزالة الحشائش والذرة لمدة ستة أيام في الأسبوع. وفي فترة لاحقة عملت كنادلة، وعن محاولاتها النشر في مجلة، وهي في عمر السابعة عشر وتلقيها أكثر من خمسين رسالة رفض من مجلات سابقة. وبالمثل علاقتها بالدين، فهي لا تذهب إلى الكنيسة كثيرَا، كما أنها مؤمنة بأن الفرد لا بدّ أن يعرف هدفه الخاص ومصيره، ولذا ترفض فكرة الخلاص. وعن رؤيتها السياسية في هذا السن الصغير، ورفضها لمحاولات حكومات الدول لتدجين الشباب وإرسالهم للحرب، ونقمتها على السياسة الأمريكية، فكما تقول: “لا يمكن لأي شخص أن يعتقد أن القنبلة ستشفينا من الشرور”، ومن جملة آرائها في السياسة قولها إن “الديموقراطية والحرية لن تعنيا شيئا في عالم من الركام والمواد المشعة.”

كتاباتها لأمها وأصدقائها على اختلاف جنسياتهم، تكشف – بصورة لا تقبل الشك – مدى حاجتها إلى الونس بشخص مُقرب، فهي تشعر بالضياع دون صديقتها “ديفي” لدرجة أنها تتخيّل “المكان يبدو فارغًا دون شخص مقرّب” وهذا واضح في استمالتها لطبيبتها بيوشر، لأن تكتب لها  كنوع من استنهاض الشجاعة والمقاومة، فهي دومًا تشعر عندما ترسا لها – كما تخبرها في رسالتها – “بالراحة“، وبالمثل تشعر “بالتطهر والتجدد” بعد محادثاتهما في الماضي.

ففي بعض رسائلها لطبيبتها ثمة صرخات واحتجاجات وإن كان صامتة عمّا تعانيه من أفعاله، فتقول: “ما الذي يمكنني فعله ليتوقف عن النظر إليّ كحارس تطهير؟ ويستبد بها الغضب والاحتجاج على معاملة تيد لها، وكذلك بسبب نزواته الجنسية، ورغبتها في أن تكون صوتها الخاص، لا مجرد التابع أو مكسورة الجناح: فتقول: “أنا لست بنيلوبي (في إشارة لزوجة أوديسيوس في الأوديسة، والتي بقيت مخلصة لزوجها في غيابه الطويل) ، … لكنني سأكون ملعونة إذا كنتُ أرغب في الجلوس هنا مثل بقرة ترضع الأطفال، أنا أحب أطفالي. لكن أريد حياتي الخاصة أيضًا. أريد أن أكتب، ألتقي بالناس وأسافر….”

يبدو أن التحولات في علاقتها بزوجها انعكست على كتاباتها، ففي رواية “الناقوس الزجاجي” كانت بطلتها فتاة أمريكية تدعى “إيستر غرينوود” في ريعان شبابها على شفا انهيار عصبي، حياة البطل لم تكن تنبئ بهذا المصير، وهو نفس ما كانت تشعر به سيلفيا عندما التقت بالشاعر الذي سيكون زوجها، فوصفها له في رسالتها لأمها، يؤكد المفارقة التي صارت عليها حياتها فيما بعد.

مقالات من نفس القسم