نجع بريطانيا العظمى.. رواية الأمثولة والمفارقات المدهشة

نجع بريطانيا العظمى
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 محمد الكفراوي  

في روايته “نجع بريطانيا العظمى” الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، يقدم الكاتب الروائي حسام العادلي شخصيات ثرية تقترب من فكرة الأمثولات أو النماذج الأسطورية المدهشة، هذا ما سعي لتحقيقه من خلال شخصية العمدة السيد الذي كان بطلا مرعبا وقاسيا وحكيما ومهادنا للسلطة في الوقت نفسه.

تلك الشخصية الأسطورية التي ترتكب كل الجرائم ولا تتورع عن فعل أي شيء في سبيل الحفاظ على السلطة والجاه، وحفظ الهيبة والمكانة والمركز الاجتماعي، تقف في عمق الرواية كخلفية تأسيسية لشخصية العمدة المهزوز المرتبك الخائف على منصبه الذي لم يعد يحظى بأي اهتمام او احترام من رعيته، بل ولا من السلطة التي قررت أن تهمشه أو تلغي دوره بوضع نقطة شرطة على رأس نجع السعداوية.

هذا النجع الثري الذي ينطلق منه الكاتب ليقدم روايته من عمق صعيد مصر، حيث قرر الإنجليز التمركز أمنيا في جوار هذا النجع، لتكون هذه القوة بمثابة حائط صد وامتداد لهم في الجنوب.

شخصية العمدة السيد الذي كان والده شيخ الخفر ثم استطاع أن ينتزع العمودية بعد أن قضى على المطاريد وساعد الحكومة على تطهير المنطقة منهم، ثم علم الملك بهذا الأمر وإسباغه نعمة العمودية لفظا على من قام بهذا العمل البطولي، ليقرر المسؤولون في المديرية أن يعطوه المنصب فعلا، فحكم النجع بالحديد والنار، وكانت له هيبة كبيرة، تذكرنا بالشخصيات الأسطورية ولكن بطابع صعيدي، حتى أنه كان يعلق الفلكة في الدوار ويعاقب بها كل من يخطئ.

موت السيد وذهاب العمودية إلى ابنه حسن بعد هروب أخيه “حسانين” الذي كان يشبه أباه جدا في السطوة والهيبة والقوة، جعل أمر العمودية يهون، فحسن شخصية هشة، ضعيفة، تجرأ عليه الكبير والصغير، ثم جاءت ثورة الضباط وزادت الطين بلة، فأصبح العمدة الذي كان هو وأبوه محسوبين على الملك والإنجليز وفي خدمتهما دائما، متهما بشكل غير مباشر بانه من فلول العهد البائد، مازاد من ضعفه وهوانه.

البعد الآخر للحكاية يتمثل في شخصية “هاريس”  قائد الكامب الإنجليزي في نجع السعداوية وابنته كارمن وزوجته عشيقة الدبلوماسي الفرنسي “لابان” يبدا الكاتب في رسم شخصية هاريس من البداية بطريقة تدعو للازدراء المشفوع ربما بالشفقة، فهو ابن الخادمة في قصر أسرة “أودينيزي” ذات الأصول العريقة والدماء النبيلة الزرقاء، والذي كان يعيش لصا متشردا في لندن، إلى أن تقرر أسرة أودينيزي أن تزوجه ابنتهم ماري للتغطية على فضيحة عشقها للدبلوماسي الفرنسي “لابان” قريب الرئيس الفرنسي، ثم يدبر والد ماري سفرهما لمصر ليبتعدا عن بؤر الشائعات التي تنال من شرف العائلة، وفي مصر يجتهد هاريس ويتبوأ مناصب كبيرة حتى يصل لمنصب السكرتير الشخصي للسفير البريطاني، ويضع السفير ثقته فيه ويعينه قائدا للقوة البريطانية التي ستتمركز في صعيد مصر، خلال الحرب العالمية الثانية. وتتواصل لقاءات ماري ولابان الذي يقرر المجيء لمصر لملاقاة عشيقته، ولا يستطيع هاريس أن يواجه زوجته بما يعرفه من خيانتها، ولكن في النهاية يضبطها متلبسة مع عشيقها في غرفتها بالكامب ويصل السيد سعد الله فيجد الذل والمهانة والانسكار على وجه هاريس، ويقرر أن يخلصه من عشيق زوجته فيذبحه ويقطع جثته أمام عشيقته، كل هذا والطفلة كارمن ابنة ماري ووالمفترض انها ابنة هاريس، لكنه يشك أنها ابنة لابان الفرنسي، كانت لا تزال في المهد، كما يقرر هاريس التخلص من زوجته بواسطة سيدة يستخدمها العمدة السيد سعد الله فتربطها فوق سطح إحدى البنايات عارية تماما، حتى تموت من البرد والحمى.

 تبدأ الرواية برحلة زين ابن العمدة حسن الذي يسافر إلى القاهرة لمقابلة عمه حسانين وإتمام صفقة بيع المصنع الذي يمتلكه الخواجة هاريس وقرر بيعه بربع الثمن خوفا من تأميمه بعد الثورة، وبعد أن تم تاميم ممتلكات الأجانب في مصر، وكان هاريس قد انزوى في قصره بجاردن سيتي بعد أن حقق ثروة كبيرة من عمله في الكامب ومن التجارة في الآثار بمساعدة العمدة السيد، لكنه أصبح قعيدا في النهاية يواجه تقلبات الدنيا وازدراء ابنته كارمن التي لم تنس له أنه أنكرها وصارحها بشكوكه حول انها يمكن أن تكون ابنة “لابان” عشيق زوجته.

تتناول الرواية فترة زمنية في غاية الثراء من الثلاثينيات تقريبا إلى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، والصراع السياسي في هذا الوقت، كما ترصد الأجواء الريفية الصعيدية بطريقة مدهشة، ولا تخلو من مشاهد إيروتيكية وقصص الحب التي تدور سواء بين ماري ولابان أو بين كارمن وحسانين أو بين كارمن وأحد الضباط. كما ترصد عالم الليل وبيوت البغاء في الثلاثينيات، وتقدم شخصيات لا تخلو من المفارقات مثل أحد المطاريد الذي يتحول بوعد ودعم من العمدة السيد إلى الشيخ الطشطوشي المبروك صاحب البركات والكرامات، مكافأة له على مساعدة السيد في التخلص من المطاريد. وصراعه مع الشيخ أبو الجود الذي كان عالما أزهريا ويواجه بحدة ديكتاتورية وصلف العمدة السيد، وحين يقرر العمدة السيد أن ينهي حياة الشيخ الطشطوشي يفعل ذلك للتغطية على قتله للدبلوماسي الفرنسي لابان عشيق زوجة هاريس، ويدفن جثة لابان في مقام بجوار الكامب الانجليزي، ليتحول هذا المقام إلى مزار للناس بعد ذلك، في حين يختفي الطشطوشي وهو المطرود “عبد النبي” عن الأنظار.

تكمن المفارقة في الرواية في كونها ترصد مجتمعين مختلفين تماما يتقاطعان في نقاط بعينها، مجتمع النخبة الانجليزية والجالية الانجليزية في مصر وكذلك الأوساط الأرستقراطية في لندن، وبين نجع بائس فقير في صعيد مصر، وهذه المفارقة كفيلة بان تولد الكثير من الأحداث الشيقة التي صاغها الكاتب ببراعة، محاولا رصد الاختلافات بين الطباع والقيم والعادات والتقاليد والأجواء النفسية العامة للشخصيات في كلا المجتمعين.

من هنا جاءت مفارقة العنوان “نجع بريطانيا العظمى” ليعقد الصلة بين هذين المجتمعين المتباعدين حد التنافر، ويخلق حالة من الترقب لدى القارئ بحثا عن الصلة بين هذين المجتمعين.

ترصد الرواية الكثير من القضايا المهمة سواء المتعلقة بالوعي الديني او الخطاب الديني في النجوع، أو المتعلقة بتجارة الآثار، أو القضايا السياسية التي بدأت تظهر بشائرها بعد الثورة مثل التأميم والتعامل مع فلول النظام السابق ـ الملكي، وكذلك طريقة التعامل مع حلفاء الإنجليز، وتبقى المفارقة الحقيقية والكبرى في تصوير المفردات البسيطة والصغيرة سواء في مجتمع النجع الفقير البائس أو المجتمعات المخملية سواء في لندن أو القاهرة.

 

 

مقالات من نفس القسم