قراءة في “يجري في ملابسه كالضليل” للروائي حسين عبد الرحيم

يجري في ملابسه كالضليل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رضا على غريب

يصعد كل يوم للسماء

المبدع هودم الحياة الثمين كما يقول سى لى لويس، ومبدعنا هنا قد تميز بخلق أحداث حياتية

سواء عاشها كواقع أوجملها بآلامه وأنات جروحه من مخزونه وزخم مرادفاته وابداعاته. يصعد كل يوم الى السماء هل هو هروب من قيد الواقع الى براح السماء لتحرير الروح من أغلال قد طغت وأحكمت مخالبها على مخارج هواء من أرادوا استنشاق عبير الحرية بكل معانيها المعنوية والمادية وهل غربة النفس وهواجسها تجعل الحواس والادراك تثق فى أو تتصور ان الوقوف فوق أطلال منزل مهدم فى آخر درجات وهنة يكون سلما تمتطيه النفس التواقة فى الانطلاق الى السماء؟! الغرقان يتعلق بقشاية تعبير ذوبعد تكوينى راق..

** عودة من رحلة زمانية مكانية عميقة وأليمة الذكريات يتبعها ويتتبعها استفهام ذاتى يناوش الروح والعقل ويجتر ماض قد ولى وبقيت آثاره محفورة فى معنويات الروح ومادة الجسد وستظل أبد الدهر تلك حالة كل غريب أخذته حادثات الحياة من نفسه وعن غيره، تلك الحالة التى تفنن فى إظهارها: مبدعنا بدلالات ايحائية ومباشرة لاكمال الصورة ووصف الحالة الرمادية التى كان عليها مطعمة ومدعومة بمشاهد واقعية ورمزية وفق الحدث أنها للبحث عن النفس عن الدفء حتى ولوكانت معنوية مطروحة بواقع وجودى حسى وحدسى…

وروابط من حالات مشابهة فى قصص وأفلام مثل السمان والخريف والشحاذ والطريق للأديب العالمى نجيب محفوظ واخراج حسام الدين مصطفى حيث تم ذلك بحرفية عالية وخط تراجيدى هرمونى متصاعهد الحدث ونتائجه سواء فى الامور ذات الواقع البسيط اوذات القضايا والمتاهات الفلسفية الكبرى مثل الوجودية ومعنى الله سبحانه وتعالى ومغزى الحياة والحرب والصراع النفسى المتوتر بين ما تحتاجه الروح وتتمناه من سموورقى صاف وبين ما يحتاجه الجسد من متع وتجاوزات… تم مزج كل ذلك فى بوتقة واحدة شيقة ورغم تواترها الزاعق ناتج الصراع النفسى كثيرا الا أنها طبيعية الحدث ومتوقعة ومرضية النتيجة..

… راق لى: مشهد عم حسن كبريت نعم مشهد لأننى وأنا أقرأه رأيته رؤى العين بكل حركاته وتوتره من سرعة الحركة وضجيج الصوت ورؤية أحداث التلفاز واستنشاق دخان السيجارة والاحساس بلسعتها الحارقة، تم كل ذلك بحركات تبدوارتجالية متواترة سريعة ولكنها محكومة متنقلة المفارقة والاسقاط والهذيان مع اسقاط العام على الخاصة: بين ما شاهده من توتر فى العالم على شاشة التلفاز وبيت توتر خبط باب المكوجى وازعاج الاطفال حاملى الفوانيس وحديث للغائب بضمير المتكلم خلاف مخاطبة النفس وبعبارات متقطعة العبارات متصلة المعنى والمضمون مشهد سيطر على الحواس الخمس بمنتهى الحرفية وكأننا أمام مشهد من مشاهد أفلام المخرج يوسف شاهين.. لترسخ بداخلنا فكرة ان ذكريات الفرد هى قيد قد تنعم حدته ولكنها تظل كخيط الحرير الذى يذبح وقتما يشاء رغم نعومته..

تميز العمل بمنتهى الدقة وصفا وسردا ومعايشة… ففى النار التى أشعلت الحواس:

نجد الاستفهام الذاتى الذى يثير دهشة المتلقى:

حيث قال: هلى ترى أباك المعلق بين السماء والارض؟

وأسأله أخرى يجتر بها الماضى… ماض قد ترك آثاره فى مكنون الروح والجسد مدعما بصور مناسبة للحدث:

جسر طويل           الجسر المفروض طوق نجاة.. تجده طويل

 طريق متعرج طريق المفروض يصل بنا.. تجده متعرجا

                

فأصبحت سبل الراحة نفسها عامل مساعد ومحفز على زيادة العناء – صمت به أقصى درجات الضجيج فما أصعبه ان لم ينطلق من الأعماق للحنجرة الى الخلاء معبرا عن متاعب عمر ومصاعب رحلة قد ألمت صاحبها مشاركة مع ما تراه عين المتألم فيرى لون الحياة بل والجماد وقد اصطبغ بلون حالته ونظرته لأن الحياة ننظر لها حسب ما نحس نحن للدرجة التى استشعر بها بطلنا صوت كاوتش السيارة كالأنين المكتوم.

 وفى أقل مساحة كتابية حصلنا على أعلى مدارك حسية حين قال: تودعنا مطارح الخوص ودكك الشاى المغلى وبخار ينفث غضب الصائمين… مع إظهار وتجسيد كل ما هومعنوى إمعانا فى توضيح وعورة وصعوبة ما تم الشعور به، فمن حلم الأخ لألم الظهر والأجناب والكلى لبحر أبوجريشة لرائحة قمائن الطوب لروائح الشواء وعرق البنات برائحة الفانيليا تجد: مزيج وتداخل بعيد عن الروتينية والقوالب سابقة التجهيز تجبرك على الانصياع والانسياق فى دربها.. تم كل ذلك مع عدم اغفال الروابط والمفارقات التى وحدت الحدث جوار الحدث فى بوتقة واحدة زمانا، ومكانا، وحدثا (هادىء ومتصل)

فى أرجوحة فى صعودها بنا نرى عكس

ما رأيناه عند هبوطنا بتنوع شيق

أرجوحة تحكم هوفى سرعتها وبوصلة اتجاهاتها

ورؤية ادق المنمنمات من خلالها فأصبحت هى ونحن فى حركة: جلبات الأب المتسخ القرفصاء يعد النقدية فوق كوبرى طلخا، بريق التفاح وتراص البطيخ فى مثلثات هرمية تحت كوبرى المنصورة ونداء السائقين وغناء حليم.. تلك الكبارى وهذه المحطات ورمزية الحقائب الفارغة جميعها اتحدت لاخطار مدى الغربة والشوق أحيانا وتذكر الجراح أحيانا أخرى وأصبح الطريق كشريط الذكريات الذى يعرض اللمحات العمرية اللحظية الوقت العميق الجرح… فاستحوذت تلك الاحداث على مشاعرنا ونجحت فى كسر حدة الملل التى كانت تنتابنا فى أعمال أخرى.. ناهيك عن عدم اغفال الاساليب والصور والمحسنات البديعية والتى قد يغفل عنها شعراء القصيدة والأغنية أنفسهم.

* أبى جعلنى أمضى عمرى كله وحدى أجرى فى ملابسى (إجمال) أى جمال هذا؟!

مرة فى بنطلونى، مرة فى جلبابى (تفصيل)

 تفصيل بعد إجمال

* الاب الغاشم والاخ الطائش موسيقى، (الصبر، الشجر)

* خلف النوافذ الحبلى بالاسرار

– تصوير ذات مغزى أنه إذا كانت الحبلى مصيرها النهاية ستضع وليدها… فتلك الاسرار فى النهاية مصيرها العلن.

* السير على ضوء حريق مشتعل (مفارقة)

* الحلم بإناة بلاد الهجرة بعمود واحد والمذاكرة على لمبة جاز – كلمات ذات معانى وايحاءات توضح مدى المعاناة.

* براعة استخدام الالوان والاضاءة وبوفرة كبيرة لم يترك لون إلا وذكره وذلك دعما للحالات المزاجية والنفسية والحقيقة والخيالية.

* الغروب والدخان وطريق الغمام والاستفهام فى: هل رأيت الفجر؟ – نرى هنا مدى الرجاء والتمنى للخلاص من آلام قد عقدت مع الروح والجسد عقد تؤمه أبدية.

* رسم المراكب على رمال الصحراء وكبينة القيادة التى من العدم والقمرة التى من القش.

انها هشاشة الواقع الذى نحياه مجبورون.. حتى وان بدى جميل تشككنا فى جماله من كثرة ما اعتادنا القبح ولى فى ذلك مثال: حين قال حسين لصاصا: حبيت الكون مقابل اللى كان بيطارد المجرم فى شوارع نظيفة أد إيه كان فى احساس بالقيمة.

– قيمة الناس أم قيمة المخرج؟ !

وهل نتمنى أن نراها كما أظهرها صاصا أم السبكى ورفاقه؟ !.

– مبدعنا طوال العمل ينقلنا يدا بيد تارة اويتركنا ندور فى فلك هويعلم أبعاده تارة أخرى أويعطينا مساحة فكرية هويعلم آخر مداها فمن نافذة حبلى * مختلفة * الى أخرى * مفتوحة * على سماء رمادية ومن ملابس مقيدة على أحبال الغسيل ولكنها هواء النسيم يطوحها كأجساد مقيدة وأرواحها حرة أوتحلم بتنفس الحرية، الى ملابس مبتلة ترتجف على الأحبال – حال كثير من البشر.

الى فلسفة فكرية راقية – فكرة الموت والانتحار مجرد فكرة (فمن عرف جلال الموت، قادر على القبض على الحياة).

وزيادة فى التشويق كثيرا ما يذكر المسبب قبل السبب انه يبدع بانسجام ويمتع غيره بمنتهى الاريحية..

– فيلم جريمة فى الحى الهادى..

وحالة حوارية ذاتية ثم مع الآخر بينهما حوار سياسي فى مزيج شيق لا يخلومن النقيضين (تفاؤل وتشاؤم)، (فجر وغروب)، (نيل محفوظ وبحر حسين)… محسنات بديعية مع فلاش بالك وانعزال تام عن الحياة.

ثم اندماج كامل ووصف أدق تفاصيلها ومنمنماتها… (ترددية برج الجوزاء) مع تفضيل فصل الخريف على باقى فصول العام وما له من خصوصيات لا تتواءم الا مع نوعية خاصة من البشر، مع خلفية غنائية تناسب تلك الحالة الحائرة المتوترة المترددة.

جئت لا أعلم من أين؟

 

شفيع:

ومثلما برع أديبنا فى حواراته معنا بأكثر من صورة آخرها – اسقاط العام على الخاص من حديث مصغر وهوطفل مع والده على شواطىء بورسعيد الى الحديث عن عبد الناصر بعد 1956 م وهل هومخدوع أومخادع..

.. نجده هنا يستخدم صورة جديدة ببراعة بذكر اللاحق قبل السابق لخطه وسرده الدرامى لزيادة الاثارة والتشويق وشحذ الانتباه… شفيع تعب فجأة وأنت نوبتجى الليلة جملة جاءت بعد رنة موبايل كانت مدخل صغير جدا لقصة واقعية ومتفرعة ذات أسلوب خبرى راق يخبرنا على طبيعة عمل بطل العمل كإدارى دفن موتى فى مجتمع يحكمه التفاؤل والتشاؤم وكثير من الخزعبلات حتى بين أفراده المثقفين ولنا فى ذلك مثل فى فيلم البيضة والحجر حيث وصف عمل الادارى بالحركة الزمن والحدث والاشخاص بصورة متميزة الواقعى منها والخيالى.

 

 الارض الواطئة

وتجسيد وتجسيم المرض مع وصفه بالغاشم الجهول صيغة مبالغة توضح ان المرض لا يرحم ولا يمل للدرجة التى أشعرتنى بآلامه وأناته تسرى فى جسدى أنا وأصابنى الاكتئاب اللحظى، مع مقاومة ما لا يقاوم واعتياد احساس ما لا يحتمل من آثار مبرحة جعلته أوجعلتنى كشواهد الأموات والقبور. تطفوالملامح أشبه بشواهد القبور

 

 رجرجة

ورسم لوحة الحارة بعيون ومعطيات مختلفة وكأننا وكأنها فى مجرة أخرى تدور عكس الاتجاه كمن ينظر من ثقب جدار صغير على خضم حياة شاسعة بلا حدود جغرافية اوفكرية مع استخدام أكبر كم من حرف عطف (و) ليفيد الجمع والتوكيد على بانوراما فريدة الرؤية والعرض وبصورة مكثفة وبسرعة كبيرة: (كارنيه طفل، كارنيه عسكرى، بلوك نوت أبى)، (بياض الدبلة وحمار الكعب)

(الكراس والكشكول، الشتاء والدفء، رسم + غناء، قرآن)

(الحركة، العجز)، الأمان، الخوف)… الخ

.. حياة. حياة بذاتها كصندوق الدنيا ومتع وتعايش لا ينضب هديره…

.. وما تم وصفه بإبداع ورقى للشارع والحارة والمرض تم تكراره بنفس الرقى فى وصف ماريا شبيهة الحبيبة اوالحبيبة فى هيكل ماريا…

انها نفس الجينة الفطرية المصقولة بالدراسة وبراعة الوصف والتعبير والتى أخرجت لنا ما فاق تخيلنا..

.. وفى مساحة ليست بالهينة مكانيا وزمنيا وحدثا تم وصف حالة تقطع الانفاس وتشحذ الذهن من هواجس ومتاهات وواقع ورفض واقع وعدم ثقة وعدم احساس بالزمن وانعدام عقارب الساعة وأزمات تطارد البطل كالثيران فى جمل كثيرة متقطعة منفصلة أرى كل منها مدخلا لموضوع جديد كل على حدة ومع ذلك ورغم تباينها اوتعمد إبهامات الربط بينها بأكبر كم من حرف الواو(و) لتصبح مزيج واحد فى بوتقة واحدة تحتوى على علم نفس وأمور سرية وغير سوية وتقديس وبعض الاحيان… واحيانا أخرى تقرب الى الله يتبعها تغلل أعمال الشيطان وترسبها فى بعض الأمور… تم ذلك بأسلوب مجرد السهوعنه ولولحظات يفقدك التعايش والمعنى المراد، كل ما يدور فى خلد البشرية تجده مجتمعا وبطريقة شاهينية:

على اسلوب… يوسف شاهين

فى غموض أفلامه وسرعة التنقل والتقطيع والوصل.

لماذا تركتم البحر هكذا حتى جف؟

وأين مسئول البناء؟

ولماذا تقف هكذا تحدث نفسك هنسا؟

.. عدة أسئلة ذات مغزى استنكارى أوإرشادى اوتوبيخى داخل العمل وفى حدود القصة ولكنها رسالة تتخطى حدود الحوائط الاربعة وتذهب لأى عمل كان (صغير اوكبير)، (قيادى اوانقيادى)

مفاده أن أى إهمال مصيره الفشل

– تتبعها ما يؤكدها: أريد أن أعرف فى أى بلد أقف؟!

– ما حقيقة هذا الميناء المعلوم المجهول؟!

– سبق كل تلك الاسئلة جرس انذار صوتى

يوحى بضرورة الانتباه – طقطقة مهلكة

– مع تطعيمها بمحسن بديعى يؤكد المعنى (همسا، ضجيجا)

– سلبية من؟ ومن من على من؟ !

 

 الفراعين:

والصراعات والحروب والثورات نتائجها واحدة فى شتى أرجاء المعمورة – مآسى ودموع وقصص وذكريات كثيرا ما تكون مبكية مدمية والقليل منها قد يدعوللسخرية المضحكة شر البلية ما يضحك .

تم تشخيص تلك الأحداث الواقعية على شاشات التلفاز والسينما وعبر الأثير وصفحات الجزائد حسب رؤية صانعيها…

* محطة * ومشهد كتابي مقروء (مسموع ومشاهد) فى قمة (الحب، الحزن، الحسرة)

احتوى على كل ما يجول فى خاطر حبيبين قد التقيا.

مرة فى مرحلة الصبا والجمال والنضارة والأخرى فى مرحلة الوهن ومشارف الرحيل والفراق الأبدى، ويا لروعة وصف الكلمات وكأنها قلوب نابضة تقطر دما تشعرك وكأنك قد ارتديت عباءة بطلها أوبطلتها، سموبالغ فى الوصف والتعبير ودقة اختيار اللفظ الموحى وتبعاته.. يعقبه على مسافة ليست بالبعيدة ما يعبر عن الوحدة منذ الصغر يطير يحلق فى سماء رمادية قاتمة يبحث عن واد غير ذى زرع..

ثم سهولة ويسر التنقل من ذكرى ماض قد ولى وكأنه خيال الى معايشة واقع وحاضر غير مستساغ لعمله بالمستشفى..

.. وتحول آخر من حال الى حال ومن حلم الى واقع مع زينب بنت الشهيد / عبد التواب وكم الخصوصية والغزل فى وصف زينب والتفاعل مع ما تراه عينه وينبض لها كل حواسه المعنوية منها والمادية الى البحث عن الله والشفافية والوجودية فتسموأفكاره وتخف روحه مع تقاذم الارض والبشر مع حلم الاسراء والمعراج: وهوما تم على لسان سيدنا جبريل لسيدنا محمد صلى الله عليه سلم عند سدرة المنتهى مع حرفة دمج الخيال بالواقع…

ومرآة كالبلورة وأزمنة وعمر وتغير ملامح خلال شريط وكلمات كأنها جياد تنطلق وتتناثر ورغم سرعتها تتسم بالدقة والاصالة ومتوالية اللاحق قبل السابق والمسبب قبل السبب وبكثافة من خلال أحلام وكوابيس نجح مبدعنا من خلالها فى القبض على تلابيب مداركنا والسير بنا حيث يشاء بلا عناء منه ومنتهى العناء الممتع من المتلقى اللاهث من أول كلمة لآخر حرف فى العمل الذى يصعب عليك السهوعنه ولولثانية واحدة وأسئلة استفهامية على لسان الغير ولكنها تعبر عنك أنت بلسانه هووصراعات ستجد فى النهاية أنك أنت من يأخذ الشهيق بعمق ودائما ما يستردد سؤالا معه سؤال حائر إجابة له: من اناء ومن اين اتيت؟

يدعم تلك الاستفسارات الحائرة عدة كلمات تكون بكثرة – السماء، السحاب، الغبار، حبلى، ضجيج، دخان، روائح، ألوان، الساعة، الخريف.

مقالات من نفس القسم