كل ما فعله دوستويفسكي.. الكتابة في حرم الكتابة

كل ما فعله دوستوفيسكي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد الكفراوي

في ديوانه الأخير”كل ما فعله دوستويفسكي” الصادر عن الدار الأهلية للنشر بالأردن، يقدم الشاعر طارق هاشم نموذجا لقصيدة النثر بالفصحي ينطلق من ديناميكية الإبداع نفسه، قصائد تحتفي بالكتابة كفعل إنساني غاية في التفرد، تحتفي بالشعر وتجعله موضوعا للقصائد، تحتفي بالكتب بوصفها عوالم موازية أو حالة خاصة أو مجالا آخر للحياة في مقابل الحياة المادية الواقعية، وإن كان الديوان يتضمن قصائد أخرى ترتبط بفكرة العائلة، الأب، الأم، الابنة، وكذلك قصائد تنطلق من مفردات ومشاهدات الشارع، إلا أن القصائد التي موضوعها الكتابة والكتب هي الأكثر حضورا.

يبدأ الديوان بقصيدة ترمز إلى العائلة أو الأسرة، يستخدمها الشاعر بشكل رمزي لتحقيق مقولة قتل الأب بما تحمله من شحنات نفسية وفلسفية ترتبط بالتخلي عن القديم وبناء الذات من جديد باستقلالية تامة، لكن الحالة هنا تختلف، فرغم العنف الرمزي الموجود في المفردات (منذ ثلاثين عاما/ ألقيت أبي من النافذة/ خرج مع الرياح/ والهواء والرمل/ خرج هكذا بخفة ملاك) إلا أن القيمة الروحية لفكرة الأب تظل حاضرة بل ومشحونة بطاقة أسطورية سواء عن طريق التشبيه بالملاك أو عن طريق تحويل دمعة الأب إلى أساس لمنزل العائلة (البيت الذي قام/ على دمعة من دموع أبي/ لم يعد يسكنه سوى الأشباح)

وفي قصيدة (الطريق إلى وكالة البلح) يقدم الشاعر حالة موازية تنطلق من اغتراب الابنة عن المكان، وترمز إلى الدور البطولي للأم في تدبير حياة الأسرة البسيطة (سلمى لا تعرف الطريق/ إلى وكالة البلح/ أخبرتها أن طرق الفقراء واحدة) هنا يستخدم المكان كدلالة على بساطة الحال أو الفقر باعتبارها مرتبطا بالمكان، وتتداعى الصور حتى يصل الشاعر إلى (في الشتاء/ كانت أمي ترهن ما تبقى من زينتها/ كي تشتري لنا البطاطين العادية/ لتجنبنا ضراوته.)

ويتفنن الشاعر في اختيار الصور المدهشة المرتبطة بقصائد الحياة اليومية مثل في المقهى ( في المقهى/ يختر الغائبون محبتهم / بذكر من تركونا ها هنا/ بلا ساحل أو مدى/ كانت شجرة تبني بيتها / من دموعهم ) وكأنه يصنع من المقهى مكانا فضفاضا يتسع بلا نهاية. مكان مفتوح على كل التصورات والحيوات والأفكار، وتأتي صورة الشجرة التي تبني بيتها من دموع الغائبين لتدلل على قوة التصوير والتشبيه وتفرده.

 ومن مفردات الشارع تأتي قصيدة (جوع) التي يقدم فيها رؤية شاعرية لقصة بسيطة يمكن أن تصادف أي شخص في الشارع، امرأة تمسح زجاج السيارات في إشارة مرور، أملا في جنيهات تسد بها جوعها وجوع طفلتها، وتذهب لإرضاع طفلتها الصغيرة على الرصيف، تصف القصيدة المشهد بشكل سينمائي وكأنه سيناريو لفيلم قصير يطرح حالة عادية بطرقة فنية، (المرأة التي هربت من الشرطي/ في إشارة عبد الخالق ثروت/ حاملة طفلتها / وشارة كحلية/ اعتادت أن تجلو بها أكوام الحزن/ من فوق جبين العربات اللاهثة.) تقديم المشهد بهذه الصورة المكثفة يوحي بحالة مأساوية تتصاعد وتيرتها في إطار لغة خاطبية استجدائية ودعاء مباشر في محاولة لإنقاذ الطفلة الرضيعة من المصير المأساوي الذي تعيشه.

أما فيما يتعلق بالقصائد التي تنطلق من الكتابة نفسها وتتخذها كموضوع تأتي قصيدة “ماريا” لتشير إلى حالة تماهي بين الشاعر والنص الأدبي او رواية النفق لأرنستو ساباتو (منذ ساعة واحدة فقط/ هربت ماريا من رواية النفق/ أخبرها أرنستو ساباتو/ ان الراوي سيقتها في الفقرة السابعة والثلاثين/ كانت تحدثني وهي مرتابة/ مازالت رعشتها / تهدد سكينة العالم.)

يتماهى الشاعر هنا مع الرواية بأبطاليها وأحداثها ومؤلفها ويتعاطف مع إحدى الشخصيات ليغير مصيرها، وكأنها يخرجها من عالم الرواية الخيالي إلى عالم الواقع، أو ربما الشخصية نفسها اكتسبت حضورا واقعيا في مخيلة الشاعر نتيجة الإستغراق في هذا العمل الإبداعي الفريد.

وفي حرم الكتابة أيضا تأتي قصيدة بعنوان “هذه القصيدة” التي يقول فيها (أعرف هذه القصيدة جيدا/ شاهدتها وهي تخرج من رأسي/ في اتجاه الباب/ إلا أنني تظاهرت بالنوم / خشية أن تطلق الرصاص علي.)

يتعامل الشاعر هنا مع القصيدة ككائن حي، يؤنسنها، بل ويعتبرها مصدر تهديد، ويعترف بعد ذلك بخيانته لها، وتصبح القصيدة نفسها بطلا للقصيدة، في مشهد يؤكد استغراق الشاعر في الحالة الوجدانية، وتماهيه مع فعل الكتابة لدرجة التجسيد الحي للقصيدة.

وفي آخر قصائد الديوان “في حياة سابقة” اعتبرها القصيدة العمدة، لأنها القصيدة التي اختار منها الشاعر اسم الديوان، ولأنها تتضمن حالة ترمز إلى الهوس بالكتب والتعامل معها باعتبارها كائنات حية واستدعائها بطريقة أو بأخرى لحل مشاكل واقعية( في حياة سابقة / كنت أعمل بائعا للكتب/ كل صباح/ تصافح يدي / يد دوستويفسكي/ تعصرها/ كما يعصر البحر/ أرواح السفن)

تأتي بداية القصيدة لتعبر عن حالة التوحد والاستغراق التام في الكتب باعتبارها عالما موازيا يوفر حالة حميمية بين المبدع والقارئ، تختصر المسافات والأزمنة، كما تعبر الصورة البلاغية للمصافحة عن محاولة التناص بين عالم دوستويفسكي النفسي المغرق في الواقعية، وبين الخيال الجامح للشاعر. تتعدد العوالم والأسماء التي يستدعيها الشاعر في القصيدة مثل ألبير كامو وكونفشيوس وفرجينيا وولف وبلزاك وروسو وطه حسين وكافكا، ويقول أيضا (هكذا ببساطة/ حين مرضت أمي/ بعت الأعمال الكاملة لدوستويفسكي/ كي أشترى لها تذكرة الطبيب/ كل ما فعله دوستويفسكي في حياته / لم يضمن لأمي / أكثر من مقعد صغير/ في عيادة بائسة.)

مقالات من نفس القسم