وحيد الطويلة في “أحمر خفيف”: اللعب على مجاز الأثر وظل الحكاية

جمال القصاص: السبعينيات آخر جيل شعري
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جمال القصاص

يطل"محروس" بطل وحيد الطويلة في روايته"أحمر خفيف" من ثقوب السيرة الشعبية، وكأنه أحد أبطالها وفرسانها الذين تتخطف أخبارهم الألسنة والأفئدة على مدار الأزمنة والأجيال.

لكن محروس في إغفاءته الأخيرة، على سريره الأعزل بالمستشفى ينفض عنه غبار الحكايات والأسرار، تاركا لمحبيه وأعدائه مجاز الأثر ، وظل الحكاية، ربما يكتشفون في إهابهما حقيقة ذواتهم، أو يتمردون عليها، وعلى واقعهم في الوقت نفسه.

ولأن مجاز الأثر لا يدوم  أو يبقى إلا بعد أن يبلى، أو يرحل صانع الأثر نفسه، تتكئ الرواية  على ما يمكن أن أسميه مصادفة الحكي ، فمن جعبة هذه المصادفة  يولد السرد، متوزعا بطاقته الاسترجاعية، بين حاضر مشتت، وماض لم يزل شاخصا في العناصر والأشياء .

 تلعب الرواية على وتر هذين الزمنين ، وتخلق من طرائق تشكلهما ونثارهما، مسارب ومداخل لتدوير الحكاية، وتنويع حركة الشخوص، وتعرية  رموزها ومصائرها تحت مظلة الأثر نفسه. يعزز ذلك لغة حية، نابعة من طينة المكان ، مسكونة بإيقاع لاهث ، متوتر ، يحتفي بالموروث الشعبي للقرية المصرية ، ويوغل في المسكوت عنه والمهمش في طوايا هذا الموروث .

فبحس الصوفي الذي أدمن الوقوف على الحافة يحرك الطويلة شخوصه بخفة  ومهارة فائقة، ويعجنها في رحم فضاء شفاهي مفتوح الدلالة ، يمنح الشخوص القدرة على أن تتحرك بحرية وعفوية ،  بعيدا عن قيود التصور المسبق لفضاء يناوش بنية محددة. ناهيك عما يتسم به الفضاء الشفاهي – في الغالب- من وقع سحري، بخاصة في مزج الواقعي بالغرائبي، والفانتازيا بروح الأسطورة والخرافة الشعبية.

إن أحابيل التربص وروح الانتقام والإنكسار، والحروب والمكائد الصغيرة ، ومنطق الإزاحة، ومقاومة القهر  والتسلط  تشكل مدار الرؤية في الرواية ، وهو مدار يسيطر على فضاء غالبية الشخوص، ويفضح  صراعاتها مع ذواتها ، ومع واقعها المعيش. فمحروس بطل الرواية كبير الوادي، الشهم الشجاع ، صاحب الحكمة والبصيرة ،المستبد العادل، لا ينفك أثره  من وعي الشخوص، بل يمتد هذا الأثر إلى طبقة اللاوعي نفسها.

ومن مشهد اللحظات الأخيرة لمحروس، وهو يصارع الحياة ، معلَّقا على سريره بالمستشفى، مابين وعي الجسد ووعي الروح على إثر طعنة غادرة من قاطع طريق مأجور لقتله، تنفتح الرواية على تخوم البدايات والنهايات معا. وكأنهما خطوة واحدة في مشهد واحد،  تتنوع تجلياته وزوايا  تأمله والتقاطه في فضاء النص. لكن مع ذلك يظل مشهد محروس عصيا عن الاستيلاد، لا يُوَرَّث ولا يُنسخ، وفي النهاية يبقي أثرا شاهدا على حقيقة العجز والموت ، موت البطل ، وعجز  الحكاية عن أن تعيد له  ولو قطرة من قطرات الحياة. وفي ظل الموتين معا يتحول الواقع إلى أمشاج ذكرى وحنين مالح لحلم ، كل يوم  تتعدد صوره وأشكاله ومحاولات تأويله، لكنه مع ذلك  يظل غريبا عن نفسه، وعن ما  يجري حوله من وقائع وأحداث .

 لا ينهض محروس من غيبوبته، أو غفوته الأخيرة ، ولا ينبس بحرف على مدار الرواية، لكنه يستنشق فضاءاتها، ويشد كل خيوطها، وكأنها مربوطة بسريره، موصولة بإيماءات روحه، ونهنهات فقده وغيابه.

محروس الذي أدمن اللعب مع الموت، لا يقطع غيبوبته، أو” تغريبته” على مدار النص، سوى صدى صوت ابنته الوحيدة ” إنصاف”، تربض تحت قدميه، تستنهض نداءات الحياة في شرايينه..” قوم يا محروس ، قوم، خلي عَد النجوم لغيرك” ..” الموت بيجري ورا البني آدمين.. وانت بتجري وراه“.

في مجاز الأثر، تعلو لغة  الحلم والذاكرة ، ويشكل كلاهما الآخر ، يتوحَّد به ، ويلبسه كقناع ، يفتش  تحته عن  درجة من الاتزان بين الذات والموضوع . ومن ثم ترتدى كل شخوص الرواية قناع محروس ، أو تتوهم ذلك .  فتحت هذا القناع ، وفي ظلاله تمارس حيواتها، وتقيم تصالحات زائفة بين تناقضاتها الذاتية ومفارقات حياتها وواقعها. وحين تخلع الشخوص قناع محروس، أو تكف حتى عن الوهم به، تصبح مشوشة الدلالة والمعنى، فاقدة القدرة على المغامرة، والوصول إلى نقطة ما، فلا هي مع ولا هي ضد.

وبمنطق الواقع تعايش الرواية شخوصها كرموز ، وتحيلهم إلى واقع بمنطق الرمز نفسه، و كأنه لا مسافة بين الاثنين، وهو ما يمنح فضاء السرد حيوية الذهاب والإياب، من وإلى نقطتي البداية والنهاية، والتقاطع معهما، وكأنهما عجينة رخوة قابلة للتشكل، والتأقلم  دوما مع تنوع  الحكي والسرد أفقيا ورأسيا ، ومع طبيعة الصراع، وما تكشف عنه من تحولات مباغتة .

تتحرك شخوص الرواية تحت هذه المظلة، و في دوائر وأنساق متواترة، فيما تستحوذ المشهدية الريفية القحة المشرَّبة بحس ساخر على إيقاع السرد والحكي، وتنعكس هذه المشهدية على فضاء اللغة في النص، حيث تتلّون بتراكيب وصيغ لافتة ومدهشة، يتضافر فيها مجاز العامية والفصحى، ليشفَّا  معا عن  لغة حميمة لا تخفي حسيتها وشبقيتها، مفتوحة على الداخل والخارج معا ، ممسوسة أحيانا بلطشة صوفية، وأحيانا أخرى بلطشة حوشية حادة ..”اضرب، اضرب يا مره، يا ابن الكلب. العيار الطائش الذي دوى في الجو، يدوي الآن في قلب الغرفة. محروس نط من على ظهر الحمارة، والحمارة انطلقت، تنهب الأرض كأن أفعى تنهش بطنها، تدب وترفع قدميها لأعلى كأنها تطير، تعوي بصوت أنثى قتلوا وليفها”.. وترق هذه اللغة على هذا النحو في مشهد حواري بين الثنائي عزت والفناجيلي :” – وسع للدكتور عزت يا وله .ربّت عليه وهو الغلبان، خفف عنه تناهيد عشقه، وهو المحروم ، حرثا الأرض معا، مشى معه على الحلوة والمرة، رقص على كل مزاميره، وبكى بدلا منه على المؤخرات الضائعة“.

ومن ملامح تميز ، بل خصوصية هذه اللغة أنها في لهجها الشفاهي والفصيح تلامس عوالم الشخوص، ونثريات الحياة في القرية المصرية، من حيوانات وطيور ونباتات، وغيرها من أعراف وتقاليد ، حتى تكاد تكون مفصَّلة  على مقاساتها، لا زيادة ولا نقصان. كما تتمتع اللغة بحيوية المناورة ، والتوزع بين شظايا أزمنة شتى، وفي كل هذا هي لغة مترعة بغرامها الخاص، منفلتة  في الوقت نفسه، من تراتبات الزمان والمكان، وهو ما  يتيح للراوي  حرية  أن يراقب  مجريات الأحداث بمزيج من الدهشة والتساؤل، بل في أحيان كثيرة  يبدو وكأنه يلملم عُرَى صداقة مهشَّمة بين الشخوص، واللافت أن الشخوص أيضا تتراءى  كما لو أنها ظل لبعضها الآخر: فالفناجيلي المتربص بالحياة والموت بين أحضان المقابر ، يبدو في أحيان كثيرة ظلا لعزت، ملك الشهوات، المعجون بكل ما هو غرائبي وشاذ، وأبو الليل الملتحف بجذامه، كاره النهار، يتراءى –أحيانا- وكأنه ظل للعناني الباحث عن سلطة، تتمسح في عباءة الدين، وأصحاب الكرامات، ومشايخ الصوفية. الأمر نفسه مع ناصر ، الصاعد بنزقه الرأسمالي فوق أحلام الفقراء والضعفاء.فهو يبدو بمثابة ظل لعبد المقصود غريم محروس، والذي خطط لقتله كي يستولي على الوادي.

في منطقة الظل أيضا، ظل الأثر، وظل الحكاية ، وتحت وطأة ثنائية الخير والشر ، تراوح الشخوص فضاءاتها، وكأنها تعيش موت الآخر فيها ، موت الحلم والحنين والشرف والكرامة . لذلك يظل هاجس الخوف من الموت، والفرار منه، المحرك الأول لدوائر الصراع في الرواية.. على هذا النحو يصف الراوي ماهية شخصية  الضدين، الفناجيلي وناصر ، فيروي عنهما : ” حينما كان صغيرين يلعبان معا.. الفناجيلي يبني برج حمام وحمامة ، وناصر يشحذ السكين لحمام الناس ، وحين كبرا ، قدم له ناصر نبوتا ليضمه إلى جوقته، لكن الفناجيلي رد التحية بأحسن منها ، قدم له شاهد قبر كبيرا، صنعه بنفسه، ونقش اسمه عليه“.

تؤسس الرواية منطقها الجمالي على فضاء الهامش، وتوغل فيما وراءه باسم تداعيات المتن نفسه( محروس).. فما بين مشهد “النعش على باب المستشفي” في بداية النص، وبين مشهد اختفائه في نهايته، تتسع وتنكمش فواصل الغياب والحضور، حتى الراوي نفسه يتحول – في أحيان كثيرة – إلى مروي له وعنه، والعكس صحيح..” فيلم والله فيلم . يسرح ، يكاد يضرب الأيام لتعود للوراء .. الأيام الحقيقية هي أيام الشباب يا عزت، طول عمرك كنت تجلس وسط هؤلاء كملك قابض على مملكته، جنب نفس الحائط“.

لا يخفي الطويلة ولعه بشفاهية القص، وما يضمره من طزاجة لغوية، ومراوحات فنية شيقة، تموِّه حركة الراوي ، وتدعم فعاليته كشاهد عيان متخفٍّ في طوايا السرد. بيد أن هذا الولع انعكس أحيانا بشكل سلبي على بنية اللغة والمشهد في الرواية. ومن ثم ، بدت اللغة في جوهرها وصفية ، لا توثِّق، بل تشهد ، حاضرة بمنطق السماع أولا، مفتونة بجرس الصوت إلى حد النبر والتنغيم والتكرار..(يا نار كوني . يا….، يا… اااااااااااااهـ)  أو(وحِّدووووه..وحِّدووووووه) أو ( أسمر وطويييييييل). كما بدت أحيانا لغة ملتصقة بسقفها المجازي والدلالي، إلى حد يفضح مقاربات وتشبيهات الرموز ، ويضعها في سياقات تبدو مباشرة ومقحمة من مثل ( عزبة بني إسرائيل- صنع في العراق – نبوت الحكومة).

أما بنية المشهد، فأيضا لم تسلم من الوقوع في غواية التداعي اللفظي التقريري، ومفارقات التجنيس والفانتازيا المجانية، وهو ما جرَّ المشهد في بعض اللحظات إلى منطق العادة والمألوف، بعيدا عن حدس الحالة أو الرؤية الأعمق، والذي يتواءم مع الطبيعة الداخلية للشخوص، هذه الطبيعة التي برع الطويلة في نسجها وتدويرها كوحدة وجود بين شخوص الرواية جميعا.

أحمر خفيف” رواية شخوص، وسماع بالدرجة الأولي.. رواية تولد من ظل الأثر على حافة الحكاية. فحبذا لو خاض الطويلة مغامرة تسجيلها بصوته على (d.c) يوزع مع الطبعة الثانية منها.. ولم لا، فالأذن لا تعشق فقط بل تقرأ قبل العين أحيانا

عودة إلى الملف

 

 

 

مقالات من نفس القسم