“هدوء القتلة” لطارق إمام: متلازمة الموت والشعر

هدوء القتلة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

هبة قطيش*

تخترقك رواية “هدوء القتلة” للروائي المصري طارق إمام (دار الشروق). تخترقك بضجيجها، فتصم أذنيك عن سيمفونية التنفس، لتطلق شهيقك عند كل ضحية جديدة، وتفجر عينيك مذهولا أمام شبح عازف المنايا، يقف خلف الآلة الصاخبة، مرتديا بذلة الضابط ذي الساق الواحدة، مقوسا حاجبيه، مرتلًا أوركسترا السكون العميق بيده اليمنى المختبئة في قفازها القطيفي الداكن، تتلصص يسراه المزدانة بالجواهر، المدللة، الابنة الأصلية لذراعه على فمه مدندنا لحن الخلود المهيب.

وُلد الشعر كي يُبقي الموتى خالدين، بعد دفن رفاتهم في المقابر المنسية.

والـ”ليل” وُجد لنضيع بين دهاليزه، أحيانا نغرق في مستنقعاته، فلا نستيقظ على شمس الغد.

أما عزرائيل الذي سكن روح “سالم”، بيمينه مطواة ورثها عن الإله، لديها عداد للجثث المغادرة، وتلك التي تنتظر مصيرها ذات ليل كاحل، وبيسراه قلم ذو دم سائل ينحت القصائد فوق الأجساد الشاحبة.

لا يكتمل المشهد الدادائي للقتل، إلا بتغلغل الحب بين لقطاته المثيرة، ما بين سلمى وسوسن مرورًا بهناء، أجيال تنتظر انتهاء الحرب وعودة الرجال لإنجاب الاطفال من تحت جلباب الطفلة الموئودة بحليب الشهوة، وما بين سماء القاهرة وأرضها تحوم الطائرات الورقية لمراقبة الناسك المتجول، كي توقظ الموتى، تنذرهم للتأهب، للسجود عند نعليه، حين وصوله إلى المدينة المظلمة.

القصائد كثيرة، تحتاج أرواحًا خالدة ليدونها الزمن، ليصنعها عزرائيل وشمًا على جسده الخالي من الاحشاء، ليمارس بها سطوته على أقبية البيوت الفقيرة والدروب المهملة.

تهيم الروح القاتلة، بين الضواحي، تنقذ الاحياء من عبثية الحياة، تكافئ شفاههم المزرقة بقبلة دموية، تحولهم إلى خيالات، ليموتوا أكثر من مرة، تلذذا بصرير النصل، انتشاء بالتحام الحديد بنافورة الدماء، احتفاءً بالملايين المنسيين في الزوايا المدلهمة.

جوقة موسيقية، تحمل الأجساد إلى مقابرهم، بحشد وقور، ترميهم من دون شواهد، وتطمرهم بالتراب من دون دموع.

من خلفها يهرول جيش من الفئران ذي الفرو الرمادي، وصف النمل على جانبي الطريق ينقب الاسمنت، والسحالي تمتطي الظهور، تفرد ذيولها فوق الأرصفة، والسماء تمطر الورود اليابسة، والهواء أصفر مليء بخمرة العفن.

جدلية الذبول، تقتحم منزل الجارة، لتقذف بجسدها محتشدا ببرودة أعضائه فوق الوسائد، من دون أثر للدماء، قبل سوسن هناك سلمى، تعشق الموت بنصل المطواة، مرتين ربما ثلاث، في كل مرة تسكب الدماء الزهرية على الأرائك، تعود لترقد فوق السرير كي تُقتل بذات الطريقة، وهناء وظيفتها التقبيل داخل المصعد، كي تخجل أمام ذاتها في كل مرة يفتح الباب عند طابق معين. تعشق تأنيب نفسها أمام المرايا بيدين مرتبكتين، ووجه يقتني الخدر قناعا.

ليس للموت نهاية، لكن لكل حياة ألف نهاية.

والمطواة شاهدة على خيط الدماء المنساب من وجه “سالم”، يمحو بزنخ أنسجته الأوشام، والقصائد تختنق في غمرة الانسكاب.

المدونة لم تكذب يومًا: “لعزرائيل وحده ترف الخلود. لذة الرقص فوق جثثنا حين يجتاحنا الجفاف فتيبس أرواحنا”.

…………………………

* روائية وناقدة لبنانية

 

 

اقرأ أيضاً: عن طارق إمام

مقالات من نفس القسم