القصة القصيرة جدا في القرآن.. فحص إجرائي لقصة “أصحاب الكهف”

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

داود سلمان الشويلي(*)

 

“إن المقصد العام أو الوظيفة الاجتماعية من القصة الادبية يكون عادة الإفاضة أو التنفيس والإيحاء وهي الامور التي توجد في القصة القرآنية أيضاً.”.(الفن القصصي في القران- مع شرح وتعليق خليل عبد الكريم- محمد احمد خلف الله- سينا للنشر- ص229)

القصة القصيرة جدا هي تعبير عن إيقاع الحياة اليومية. وقد أصابها التطور التقني كما الحياة في مسيرتها الإبداعية.

وقد ازدانت الليالي الطوال للعرب في البادية، أو في المدن، بالسمر وقص الحكايات، أو ما تسمى، السوالف، أو الحدوتات، وقد وصلتنا أخبارها من المصادر القديمة.

وحفل القرآن بالقصص، والقصص القصيرة جداً، وقد ذكرت فيه لما تحمله من موعظة وعبرة وأسوة حسنة للمؤمنين والكفار، حسب المفهوم الإسلامي لهذين المصطلحين، وكما قال القرآن: “لقد كان في قصصهم عبرة لاولي الالباب”.

وقد تكلم الشيخ محمد عبده فيما نقل عنه صاحب المنار ج1 ص399 عن القصص في القرآن، فقال: ”قال الاستاذ الامام ما مثاله: بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الاخبار عند الغابرين”.(ص28 المصدر السابق).

وكذلك قول الأستاذ خلف الله: ”كان تخفيف هذا الضغط أو كانت الإفاضة عما في نفس النبي عليه السلام ونفوس الانصار والاتباع مقصداً من مقاصد القصص القرآني حتى لا تزلزل النفوس وتترك الدعوة الاسلامية ولو حدث هذا لما قامت لها قائمة”. (المصدر السابق- ص230).(وراجع كتاب “القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني”لمحمد أرغون إذ أنه يعد القصص في القران وهذه القصة بالذات هي مأخوذة من البيئة الثقافة العربية القصص).

ومثل الجرجاني الذي درس القرآن دراسة أدبية اعتمادا على الشعر، فقد اتبعه خلف الله ودرس القصص القرآني أدبياً، حتى أن الدكتور طه حسين “في الشعر الجاهلي” استنكر وجود الشعر الجاهلي واعتبره منحولاً وموضوعاً.

ومن هذه القصص القصيرة قصة “أصحاب الفيل” وقصة “صاحب الجنتين” وقصة “أصحاب الكهف” التي وردت في سورة (الكهف)، وغير ذلك من القصص القصيرة جداً.

وقصة “أصحاب الكهب” قد ذكرت قبل القرآن في المصادر الدينية المسيحية تحت اسم “النيام السبعة في افسس”.

ونحن في هذه الدراسة سنعمل مثل عمل هؤلاء الدارسين في أن ندرس قصة “أصحاب الكهف” دراسة أدبية وعدها قصة قصيرة جداً مطلقين عليها تسمية “قصة إسلامية”.

***

النص المدروس:

ملخص النص المسيحي:

“جاء الإمبراطور ديكيوس إلى إفسوس وهي مدينة عريقة في آسيا الصغرى، ووصلته أخبار انتشار المسيحية فيها. فحاول التضييق على المسيحيين وأمرهم جميعاً بتقديم القرابين إلى الآلهة الرومانية، وهناك سبعة فتية يؤمنون بالمسيحية(وبعض الروايات تقول ثمانية)، فأعطاهم مهلة للعدول عن موقفهم. فترك الفتية المدينة ولجؤوا إلى جبل أنخليوس خارج إفسوس حيث اختبئوا في كهف. وعندما نفذت مؤونتهم أرسلوا واحداً منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، وهناك علم أنّ الإمبراطور قد عاد إلى إفسوس وهو يطلبهم. اضطرب الفتية لسماع هذه الأنباء، وبعد تناولهم طعامهم ألقى عليهم الربّ سباتاً عميقاً، وأغلق عليهم مدخل الكهف بصخرة عظيمة. فتّش جنود الإمبراطور عن الفتية وعندما وصلوا إلى الكهف وجدوه مغلقاً بتلك الصخرة العظيمة، وتأكّد لهم أن الفتية قد لقوا حتفهم في داخل الكهف.

دام سبات الفتية ثلاثمئة وسبع سنين. وكانت الدولة قد تحوّلت إلى الدين المسيحيّ، وآلت السلطة إلى الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني. وفي عصر هذا الإمبراطور دار جدال في الأوساط المسيحية حول مسألة بعث الأموات، الأمر الذي أرَّق الإمبراطور. في هذه الأثناء أراد مالك الحقل الذي يقع فيه الكهف بناء حظيرة لغنمه، فراح يقتلع من صخرة المدخل حجارة لاستخدامها في رفع الجدران، وذلك حتى انكشف مدخل الكهف. ثم إن الله أيقظ الفتية من سباتهم، وظن كل واحد منهم أنه لم ينم إلا ليلة واحدة، وراحوا يشجّعون بعضهم على النزول إلى المدينة لاستقصاء الأخبار وشراء الطعام. وأخيراً وقع الاختيار على المدعو ديوميديوس الذي نزل في المرّة الأولى، فحمل فضته ومضى. دخل ديوميدبوس وتجول ووقف أخيراً عند أحد الباعة ليشتري طعاماً، وعندما أخرج نقوده المعدنية رأى البائع عليها صورة الإمبراطور ديكيوس، الذي اختفى الفتية في عهده، فظنّ أنّ الفتى قد عثر على كنز قديم، فشاع الخبر بسرعة ووصل إلى أسقف المدينة وإلى الحاكم، فجيء بالفتى إليهما وقصّ عليهما القصّة كاملة، وطلب منهما مصاحبته إلى الكهف للتأكّد من صحّة كلامه. وخلال تفحّصهما لمدخل الكهف عثرا على رقيمين معدنيين نُقشت عليهما كتابة تحكي قصة الفتية زمن احتباسهم، ووُضع الرقيمان تحت صخرة المدخل. وبذلك تمّ التأكد من صحّة روايتهم. ثم إنّ الإمبراطور نفسه جاء إلى المكان واستمع إليهم، فقال له واحد منهم إنّ الله قد أنامهم هذه المدة الطويلة ثم أيقظهم، لكي يثبت للمتشكّكين حقيقة البعث في يوم الحساب.عند ذلك أمر الامبراطور ببناء مقام دينيّ في موضع الكهف تذكاراً للفتية.”.(أهل الكهف بين الأدب السرياني والقرآن- فراس الســواح – موقع الف)

النص الاسلامي:

 “نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى. فأووا إلى الكهف.وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه. وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا. وكذلك بعثناهم ليتسائلوا بينهم قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه. وكذلك أعثرنا عليهم إذ يتنازعون بينهم أمرهم فقالوا ابنوا عليهم بنيانا،سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم. ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا.”.(بتصرف من النص القرآني)

سنخضع النص القرآني والذي أطلقنا عليه اسم النص الإسلامي إلى آليات الفحص الخاصة بالقصة القصيرة جداً، إذ جردناه من كونه نصاً دينياً ورد في القرآن فأصبح نصاً أسطورياً سبق ذكره في المصادر المسيحية على أنه وضع لموعظة المؤمنين والكفرة.

***

آليات الفحص:

النقد لما كان من معانيه: تسليط الضوء على النص الابداعي وليس محاكمته، فإننا في هذه الدراسة نقوم بتحليل واستكشاف واستبطان النص الإبداعي المدروس.

وآليات الفحص للقصة القصيرة جدا كثيرة ومتنوعة، وفيها آليات رئيسية لا يمكن للنص أن يكون من هذا النوع لو افتقد إلى واحد منها، ومنها آليات ثانوية يمكن تجاوزها عند الفحص والدراسة.

ومن الآليات الرئيسية.

– حجم النص و الإيجاز والحذف.

– الزمان والمكان، و الحركات السردية.

– مجالات اللغة.

– الشخوص.

– المفارقة، والإدهاش.

– الروح السردي، أوالقصصي.

***

– حجم النص و الايجاز والحذف الابداعي:

لو تخلصنا من الزوائد الإنشائية في النص لبقي ما يساوي حجم قصة قصيرة جداً، وهو بين ستة أسطر إلى صفحة واحدة كما نصت على ذلك الدراسات الخاصة بهذا النوع، ونصنا لم يتجاوز الصفحة الواحدة.

وفي نصنا الإسلامي، يمكن أن نشير إلى أماكن الإيجاز والحذف الإبداعي، لأن ما حذف أو أوجز هو الكثير من الأحداث التي تجعل الزمن في القصة مقطوعاً فيكون عند ذاك ما يسمى عند “جينيت”الاضمار.

 ويضم النص كذلك مجملاً لما حدث وحذف، وهو:”سرد أيام عديدة أو شهور أو سنوات من حياة شخصية بدون تفصيل للأفعال او الاقوال وذلك في بضعة اسطر او فقرات قليلة”.( مدخل الى نظرية القصة-سمير المرزوقي وجميل شاكر- دار الشؤون الثقافية العامة- بغداد – 1986)

يقع حجم هذا النص في صفحة واحدة او اقل من الصفحة.إذن هذا النص يقع ضمن اشتراطات القصة القصيرة جداً.

– الزمان والمكان،والحركات السردية:

(نقص،آمنوا، زدناهم، فآووا، ترى، تزاور، تقرضهم، تحسبهم، نقلبهم، باسط، اطلعت، وليت، ملئت، بعثناهم، ليتسائلوا، قال، لبثتم، ابعثوا، فلينظر، يأتكم، يظهروا، يرجموكم، يعيدوكم، تفلحوا، اعثرنا، يتنازعون، ابنوا،لبثوا، ازدادوا).

إذ يحفل النص بالافعال الصانعة للحركات السردية، وهي أفعال تقسم على ثلاثة فاعلين،هم المخاطب(بفتح الطاء)،والمخاطب(بكسر الطاء)،والذي تشمله رسالة المخاطب.

وتضم هذه الافعال في ثنايا حروفها الزمان والمكان. فمثلا الفعل(آووا) يضم المكان، والفعل(لبثوا)يضم الزمان.

– مجالات اللغة:

مجالات اللغة في القصة القصيرة جداً عديدة ومتنوعة، كالاقتصاد فيها، وهذا يتأتى من خلال إيجازها، وتكثيفها، وتركيزها.

ويمكن أن نتناول صورها من خلال إيحائها، ورمزيتها.

وفي نصنا المدروس يمكن أن نقع على كل ذلك عن اللغة المستعملة في توصيل المعنى وكذلك الدلالات.

– الشخوص:

في نصنا المدروس يمكن أن نقع على شخصيات كثيرة، إلا أن الشخصيات المركزية ثلاثة هي: الرواي وهو الله في النص الاسلامي، والفتية، وهم المروي عنهم، والناس(كفرة ومؤمنون)،وهم المروي لهم.

القصة تدور عن الفتية وما آل اليه مصيرهم في النهاية، اما الناس فإننا نسمع بهم من خلال الراوي.

– المفارقة والادهاش:

ما الذي يدهش في هذه القصة؟

الذي يدهش المتلقي فيها هو بقاء الفتية احياء بعد نومهم(موتهم) اكثر من ثلاث مئة سنة،إذ يعتبر خرق العادة ادهاشاً للمتلقين،ومفاقة ايضاً.

والمفارقة في ذلك هو هذا البقاء،حيث ينهض الفتية من نومهم متسائلين (كم بقينا نيام؟) فمنهم من يقول يوم ، ومنهم من يقول بعض يوم،الا انهم في النتيجة يكتشفون انهم ناموا اكثر من ثلاث مئة سنة.

– الروح السردي، أو القصصي:

بعد هذه القراءة لآليات الفحص الرئيسية في نصنا القصصي نتساءل: هل تنشئ مجموع هذه الآليات ما نسميه “الروح السردي،او القصصي” لهذا النص؟

نعم . وهذا ما حصل في نصنا المدروس.

وخلاصة القول إن القرآن يضم بين دفتي غلافه الكثير من القصص القصيرة جداً، والتي يمكن ان نحللها ادبياً حسب مقومات واشتراطات القصة القصيرة جداً في وقتنا الحاضر.

…………….

(*) ناقد عراقي.

مقالات من نفس القسم