أسامة عبد العزيز
يعد ديوان “عيال المهاجرين” للشاعر عبده العباسي الفائز بالنشر الإقليمي للهيئة العامة لقصور الثقافة عام 2021/2022، هو الإصدار الخامس للشاعر
حيث صدر له “النزع الأخير من السفر” و”ناعسة والريح الجاية”، و”بعض الدموع قد تجلى العيون” و”آخر مسافات الرحيل”، وأخيرًا “عيال المهاجرين”، الذي نحن بصدد الحديث عنه .
في كثير من الأعمال الأدبية يمتهن الأديب مهنة المؤرخ الشاهد على العصر كما كانت بعض الكتب مرجعّا لزمن غيّرته السنوات وطمست هويته، ولنا مثال على ذلك في بعض روايات الكاتب نجيب محفوظ التي وصفت أماكن كخان الخليلي وأماكن أخرى لم يبق منها غير اسمها بعد تبدل الأماكن بفعل السنين.
وهذا ما فعله الشاعر في ديوان “عيال المهاجرين” الذي جاء في ما يقرب من مائة وعشرين صفحة وثّق فيها حقبة زمنية وتاريخا نضاليا لمدينة تقع في ناصية العالم بين قارتين يصف فيهم الزمان والمكان والناس.
ما بين تسريد الشعر وتشعير السرد يتأرجح الديوان بين الموزون وغير الموزون، شغله التوثيق والحكي في بعض القصائد عن الشاعرية، وشغله الشعر عن الموضوع في قصائد أخرى، وكأن ما يهمه هو توثيق مرحلة الهجرة وأسماء الجيران والشوارع والميادين والأحداث وبعض الأكلات البورسعيدية، وحتى الألعاب والمدن.
استخدم الشاعر مفردات أضافت واقعية سحرية للنصوص قد تدعو للاستغراب لفظًا ولكنها أضافت قوة للمعنى مثل “بلبوص، الجحش، النملية، أيّالة، أوتومبيل، خلول، سمنية، كسكسية” وغيرها الكثير من المفردات التي ربما لم تعد تذكر مما قد يدعو الأجيال التي لم تعاصرها للدهشة والسؤال عنها، وأثمن ذلك للشاعر حيث قد يساعد في الحفاظ على الهوية وإحياء بعض العادات التى انقرضت منذ زمن,
يظهر التناص والموروث والتضمين والنوستالجيا في مواضع كثيرة، فهي من أدوات الشاعر التى ارتكن عليها في الكثير من القصائد، وقد أجاد في استخدام ذاكرته للحكي بإسهاب بدقة متناهية كما أستخدم عينه للوصف فكانت بمثابة كاميرا تصور الأحداث بحرفية عالية.
مابين حبه لبورسعيد ومصر وفلسطين جاءت بعض القصائد التي يراها القارئ للوهلة الأولى وكأنها خارجة عن سياق الديوان ووحدة الموضوع ولكن بالتروي نجد خيطًا رابطًا بينهم وبالقراءة المتأنية، يتضح جليًا للقارئ أن الشاعر ناصري الفكر يكره وجود العدو الصهيوني في الوطن العربي مثلما كرهه جمال عبد الناصر، ولو أمعنا النظر نجده منشغلا به أينما وجد في مصر أو فلسطين أو غيرهما من البلدان العربية.
ولو بدأنا بعتبة النص، العنوان “عيال المهاجرين” والإهداء أيضا، فقد يحيلانا لرؤية الشاعر أن الهدف هو إلقاء الضوء على الأبناء وليس الآباء، وما ترتب عليه في نفوسهم وتكوينهم النفسي والثقافي جرّاء تلك التجربة القاسية فقد كانت الهجرة بمثابة “العبور الأول” حيث كانت عن طريق بحيرة المنزلة تحت القصف الغاشم مما تسبب في اغراق بعض “اللنشات”، وقتل العديد من المهاجرين.
استخدم الشاعر مفردات ودلالات خاصة جدا ببيئة وزمن النص، حيث نجده ينتقل من حدث لآخر بلغة رشيقة يطغى عليها البساطة بمنتهي العمق، فيقول:
“اتولدت على رمل شط
فارد ملامحه للسما
من غير جراح ولّا دما
شُفت الحياة معلّمة
علمتني حرفين كتابة
حرف لبداية حياة
وحرف تاني للحرية
علّمتني أكتب ألف أغنية”
هذا هو العمق بمنتهى البساطة، كما استخدم الشاعر اسلوب الراوي والمروي عنه في بعض القصائد وهي تقنية وأسلوب أنا وانا الآخر.
لم ينس ذكر “نعسه” والدته وبعض عاداتها وعلاقتها ببعض جيرانها، ولا أرى أن ذكر “نعسة” كان للاحتفاء بوالدته بقدر ما يعبر عن رمزية عما كنا عليه في السابق كجيران، وآلت بنا الظروف إليه الآن
كما تضمّن الديوان العديد من الصور الشعرية المدهشة مثل “وخرجنا من جسم المدينة الحزينة”.
بصرف النظر عن الأنسنة فهي تقنية متبعة ولكني أزعم أن الشاعر في هذه الصورة أراد بقصد أو بدون أن يؤكد أهمية المهاجرين لحياة المدينة وأهمية المدينة لحياة المهاجرين وكأنهما جسدًا واحدًا وبانفصالهم عن بعضهما فقد كلًا منهما الحياة.
ثم يدهشنا بقوله
“سكّة النّصر اللي كان معقود على لسان ربّنا”
ويعاود الدهشة
“الشمس لمّت شعرها في الليل “
والكثير من الصور البلاغية والتراكيب التي لا يسعني الوقت لذكرها
كما استخدم المشهدية في مواضع كثيرة
في المجمل ديوان “عيال المهاجرين” تجربة تستحق الدراسة باستفاضة كي يتسنى لنا فك رموزه ودلالاته والغوص أكثر في المعنى المختبئ في النصوص، حيث أنه في بعض الأحيان يكون النص أذكى من الكاتب فيحيلنا لرؤى لم يقصدها ويفتح آفاق لها ربما لم تخطر على بال الكاتب.
رحمة الله على الشاعر عبده العباسي.