“انحراف حاد”.. البحث عن الخلود فى أرض الموت

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

نستطيع القول إننا أمام تجربة شديدة الأهمية والجرأة تقدم مزيجا فريدا بين المعقول واللامعقول، والعجائبى والممكن، لاتقدم إجابات بقدر ما تحرّك الراكد بطرح أسئلة صعبة معقدة، رواية أفكار بامتياز، ولكنها أيضا عمل قصصى مشوّق ومتقن لا يتنازل عن اللعب والتلاعب بالخيال والحقيقة. عن رواية "انحراف حاد" للروائى أشرف الخمايسى أتحدث، صدر هذا العمل فى نحو 399 صفحة عن الدار المصرية اللبنانية مهموما مثل رواية الخمايسى السابقة "منافى الرب" (القائمة الطويلة للبوكر العربية) بثنائية الفناء والخلود، "انحراف حاد" رواية كثيفة فى جدلها الصاخب، ربما يكون أهم ما فيها أنها تلقى الكرة من جديد فى ملعب الإنسان، أعجب وأعقد المخلوقات، تفتح الحكاية على تناقضات لا نظير لها، وتتأرجح المعالجة المركّبة بين الرثاء والسخرية، وإذا كان حلم الخلود يتجسد أمامنا فى صورة شخصية  غريبة هى محور البناء كله، فإن السؤال الإستنكارى الذى يطاردنا بعد أن رسم الخمايسى معالم شخوصه العجيبة هو: "وهل تستأهل هذه الشخصيات أصلا تبشيرها بالخلود الأرضى وخلافة الله على الأرض؟!"

تبدأ الرحلة/ اللعبة/ الأسئلة من العنوان : “انحراف حاد”، على المستوى المباشر لدينا سيارة ركاب على طريق الصعيد تحمل 15 راكبا، ثم تتعرض فى النهاية لانحراف حاد يدفع بها الى الهاوية، ولكن بعض الشخوص التى تحكى عنها الرواية يتعرض مسارها الى ما ينطبق عليه أيضا مصطلح “الإنحراف الحاد”، هناك مثلا عاهرة وقاتل ونصاب داخل السيارة، وعلى مستوى أشمل، فنحن فى الواقع أمام مجاز هائل يتأمل نتيجة امتحان البشرية التى خُلقت (وفقا للمفهوم الدينى على الأقل) من أجل عمارة الأرض، وخلافة الله، فتعرضت مسيرتها (لأسباب تتعلق بتناقضاتها الداخلية وبذور ضعفها) الى “انحراف حاد”، أورد الكثيرين موارد الهلاك والعار.

من تقنيات اللعبة السردية الممتعة أن نتابع فى الوقت الراهن رحلة السيارة المكدسة بركابها، والتى يقودها سائق صعيدى متبّرم، ويجلس فيها “صنع الله” ذو العمامة الخضراء، والجلباب الأبيض القصير، واللحية الطويلة، ثم نعود فى لقطات سريعة الى حكاية مجموعة من الركاب، ظهر لبعضهم “صنع الله” مبشرا بالخلود، ومعاقبا من يؤمن بالموت، الموقف البسيط وهو الرحلة التى تتشابه مع عشرات الرحلات اليومية، يتحول بالتدريج الى تفكيك  للحكاية وطرح لأسئلة محيرة، يلقيها “صنع الله” على الأبطال، أو يطرحونها هم على أنفسهم، وفى النهاية يتم إعادة التركيب، لنكتشف الوشائج بين أولئك الذين يجلسون فى سيارة واحدة تسير الى قدرها ونهايتها، حتى الركاب لايعلمون ما أخبرنا به “الراوى العليم” من أسرار عن شخصياته، والذى أهدانا فى السطور الأولى مفتاح اللعبة بالجمع بين البساطة الظاهرية، والبحث عما وراء هذه البساطة الخادعة من أسئلة :” البعض يقول إن الدنيا بسيطة، والحياة تمضى بحكاياتها المعروفة، سواء أكانت حكايات مدهشة، أو عادية، الناس يسمعونها، أو يشاهدونها، أو يقرأونها، وفى جميع الأحوال هم أبطالها، فى النهاية .. الدنيا بسيطة، والحياة شغالة، يقولون ذلك بأريحية، على أن الأمر فى حقيقته ليس هكذا، ليس بهذه البساطة”.

وإذ تسير عربة الميكروباص وقد كتب على واجهتها أسفل الزجاج “وزيناها للناظرين”، وإذ يجسد ما يحكيه الراوى العليم عن الركاب طرفا من المهزلة الأرضية بكل تجلياتها، وإذ يضع الخمايسى شخوصه الواقعية جدا (باستثناء صنع الله)  فى إطار غرائبى أقرب الى الكابوس، فإن الميكروباص يقدم معادلا فنيا قويا لرحلة الحياة المتأرجحة بين الموت والبحث عن الخلود، والتى تمتزج فيها جوانب الإنسان الحيوانية بأفكاره السامية، والتى ينمحى فيها الفاصل بين الوهم والواقع، للسيارة قائد، وفيها رجل غريب بعمامة خضراء، وتجلس على مقاعدها شخصيات منهكة ومثقلة بماضيها وباختبارات قاسية لم تظهر نتيجتها، وفى كل لحظة ما يهدد بسقوط السيارة المنطلقة على الطريق السريع، وكأننا بالضبط أمام دراسة حالة مكثفة تتأمل تعقيد الإنسان والحياة معا فى فترة قصيرة فارقة ومأساوية.

يمكننا أن نقسم شخوص الرواية الى ثلاث فئات، فى الفئة الأولى شخصيات الرواية المحورية الذين قدمت صفحات العودة للماضى حكايتهم : (1) درديرى أو أبو أميرة، سائق الميكروباص الصعيدى، مشكلته فى عدم الإنجاب، يكتشف فيما بعد أن العيب من زوجته، يحلم بأن يكون أبا لطفلة اسمها أميرة، يحمل اسمها حتى قبل إنجابها، ستجعل له المقادير طفلا ولكن فى ظروف غريبة (2) سوسن العاهرة ، كانت طفلة اسمها زينب، ضاعت من والدها فى المولد، عرفت الشارع والعهر، أصبح اسمها سوسن، أنجبت فى الشارع، وضاع الطفل     (3) القس المسيحى .. ترك زوجته ليلتحق بالدير، ظهر له “صنع الله” فى الصحراء، أبلغه رسالته بالخلود الأرضى ورفض الموت، ظنه القس شيطانا     (4) الشيخ غريب قرون الخطبى .. خايله السؤال عن تفسير إغواء امرأة العزيز ليوسف فى القرآن الكريم، خطفه “صنع الله”، طلب إيمانه بالخلود، اضطرب الشيخ من التجربة (5) العريف ياسر مبروك خليل، عامل التحويلة فى الجيش، يقيم علاقة مع فتاة تعيش فى الصعيد، يعتز بكرامته، ولكنه لايعبأ بكرامة المسيحيين، لا يتركه “صنع الله” إلا بعد أن يبلغه رسالة طلب الخلود وقهر الموت    (6)  رشيد أحمد الطماوى .. والد الطفلة زينب، لم يفقد الأمل فى العثور عليها، دون أن يعرف أنها أصبحت سوسن، خصومة قلبه أصبحت مع خالقه بعد أن ضاعت ابنته     (7) حميد المجرى .. نصاب يعيش فى اسطبل عنتر، مرت به سوسن مثل كثيرين، ومر به أيضا “صنع الله”، نبىّ الخلود يحاول هداية نصّاب محترف   (8) طالب الجامعة زياد، فقير الى درجة أنه لا يستطيع شراء قميص، يكتب قصصا، ويهوى فتاة لا تشعر به، أمهق ووحيد، لا يتردد فى التصريح داخل الأوتوبيس الذى ركبه ذات يوم بأن “الله سبب المشاكل”، يظهر لها “صنع الله” حاملا عرض الخلود، ونافيا بأن يكون الله سبب المشاكل   (9) خميس الصعيدى المكلوم .. خانته زوجته الجميلة المتعلمة فى القاهرة فقتلها، لن يعرف أبدا أن عشيقها بجواره فى الميكروباص المتجه الى أسيوط، والمتجه الى الهاوية.

شخصيات الفئة الأولى هم أبطال الرواية، موضع التجربة والإبتلاء، وعنوان تناقضات البشر، تماما مثل شخصيات الفئة الثانية، أتحدث تحديدا عن شخصية مثل نوال التى تخون خميس فتعذب وتقتل، وجرجس الذى يتسبب فى مذبحة طائفية فى الصعيد، والضابط هانى علىّ الدين الذى يهين العريف ياسر، أشرف ابن الشارع الذى يكون أول عشيق للطفلة زينب/ سوسن، وبائعة المناديل الغريبة ذات الشعر الأبيض صديقة “صنع الله”، كلها نماذج اختيرت لكى تبرز ضعف الإنسان وتناقضاته التى تجعله معلّقا بين السماء والأرض، بين الحلم والوحل، ولكنها شخصيات مساعدة وليست محورية.

أما الفئة الثالثة فيمكن أن تضع فيها “صنع الله ” بمفرده، هو عمود البناء كله، من حيث الشكل، لايختلف “صنع الله” عن مظهر الدراويش الهائمين فى الموالد أو فى الشوارع المصرية، ولكن من حيث مضمون الرسالة يقول “صنع الله ” عن نفسه حرفيا :” أنا مُعظّم الله الذى منحنا الحياة، ومُذلّ الداعين الى استعذاب الموت، منحنى الله نبع الخلود، وأذن لى فى شقيا المتنورين بالعقل، ووهبنى قلبا من حديد، أقسو به على كل من لايؤمن بقدرته على الخلود”، يمكن أن تطلق عليه “نبى الخلود” الذى ينحاز الى قدرة الإنسان على أن يصنع خلودا على الأرض، والذى يلقى على البشر بمسؤولية أفعالهم بدلا من تعليقها على الشياطين، هو لايتصور خلافة حقيقة لله  على الأرض دون أن يقهر الإنسان الموت، “صنع الله” ليس فقط المعادل الذى يطرح من خلاله الخمايسى أسئلته الدينية والوجودية، ولكنه من الناحية الفنية، الجسر الذى يربط بين الراهن والماضى، هو أيضا سيكون ضمن ركاب السيارة المنطلقة، وهو الذى سينقذ ركابها من الإصطدام ب”تريللا ” عملاقة، بل ويعتبره أبو أميرة وليا من أولياء الله الصالحين.

هناك إذن نبى يعادل حلم البشرية فى الخلود، فى مقابل شخوص تجسد الفوضى والضعف والمهزلة الأرضية، عقل يريد مولد إنسان جديد متطور أعظم وأفضل، وغرائز منطلقة معربدة تكشف عن اختلاط كامل للحابل بالنابل، وتشكك فى أن تكون هذه الشخوص جديرة بالإستخلاف وحمل الأمانة، هذا هو جدل الرواية الكبير الذى يحسمه مشهد النهاية العجيب: وكأن ركاب الميكروباص قد شاهدوا مصيرهم فى مرآة، هناك عند الشجرة العظيمة التى يسكنها ثعبان عملاق ( بكل ما يستدعيه ذلك من صورة الماضى السحيق حيث التكليف والوسوسة والنزول من شجرة الخلد الى أرض الموت)، هناك يحدث الإنحراف الحاد الأخير حيث الهاوية، فى السيارة الرجل بشير الخلود، وفيها أولئك الذين لايعرفون حتى أسرارا تربطهم ببعضهم البعض، وكأنه عبث أفضى الى عبث، وفوضى واقعية انتهت الى فوضى خيالية، هل أخطأ “صنع الله” اختيار أتباعه؟ هل أخطأ فى افتراض كون المشكلة فى الموت وليست فى البشر؟ وهل تستحق البشرية خلودا أرضيا وهى تكتظ بنماذج مثل هؤلاءالذاهبين الى أسيوط لأسباب لانعرفها؟!

“”انحراف حاد” أمثولة مذهلة كتبها روائى بارع قلق يحلم بإنسان أفضل، ويحسن الظن بخالقه، يرى الخمايسى أن الإيمان بالإنسان وبالعقل هو إيمان بالضرورة بخالق الإنسان والعقل: “الزم عقلك كى يعلّمك، واقرأ بقلبك كى تقف، واشرب صمتا طويلا من كأس الحكمة كى يقول لسانك قولا ثقيلا، ثم صوّب إرادتك  نحو الغاية الجليلة .. خلافة الله على الأرض”، و “بقدر عقلك يكون نصيبك”،  يمد الخمايسى الخط الى آخره حالما بخلود شرطه إنسان جديد غير ما نراه، ولكن لا يتحقق الخلود فى النهاية، ذلك أن هناك الكثير من البذور الفاسدة داخل البشر، يبدو أنه لا مفر من الموت ليُعجن الإنسان من جديد، المعضلة هى أن الإنسان الجديد يبدأ المشوار من نقطة الصفر، يعيد البحث فيتعثر، ينطلق وراء نصفه الحيوانى، ينسى تكليف الإستخلاف، ويحلم رغم ذلك بالخلود، من الواضح أننا فى حاجة الى معجزة تخلق إنسانا غير ما نعرفه، وغير ركاب السيارة المنطلقة. يكفى الخمايسى أنه أزعج قارئا مطمئنا، يكفيه أنه يحلم للبشرية بما هو أفضل وأرفع، يالها من رواية مؤرقة وممتعة لروائى  لايستسهل موضوعه ولا فنه ، ويرى أن الرواية هى فن السؤال وليست فن الأجوبة، تنتهى الرواية الى أن الدنيا ليست مفهومة، ولا بسيطة، ولا الإنسان أيضا، أو كما يقول السارد العليم: “الأفضل ألا يفهم الإنسان الدنيا تماما، وإلا فقدت زهوتها، المتعة تبقى دائما فى محاولة الفهم، ولكن الفهم نفسه عذاب”، وما رواية “انحراف حاد” إلا محاولة ممتعة للفهم.

مقالات من نفس القسم