لماذا أنت لست معي الآن يا سارة؟

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

(قراءة في رسائل حب بطعم الملح)

أحمد شاكر

الشكل:

يكتب كريم بركات، روايته الأولى: رسائل حب بطعم الملح، على شكل رسائل: 50 رسالة، تبدأ بالرسالة صفر، وتنتهي بالرسالة رقم 49، متجنبا شكل الرواية التقليدي..

 

 

 

 

الكلمات:

أتذكرين حين لمتك لأنك تستهلين خطاباتك لي بـ عزيزي. تلك هي أول جملة في الرسالة (صفر)، بعد استهلال الرسالة بالتحية. بها يقطع كريم علينا السؤال: هل سارة ترسل ليحيى رسائل هي الأخرى؟ فمع توالي الرسائل، سيكون أول ما يفكر به القارئ: ألا توجد رسالة لسارة؟ لماذا تبدو الرسائل وكأنها من طرف واحد؟ بالنسبة للسؤال الأول ألا توجد ولو رسالة لسارة فالإجابة: نعم توجد. حتى وإن لم يطلعنا عليها الراوي. لقد نبهنا منذ البدء: (أتذكرين حين لمتك لأنك تستهلين خطاباتك). حتى لو حصل بعد ذلك وسألها يحيى عن رسائلها، كما في الرسالة رقم 4، والرسالة 39، أما لماذا تبدو الرسائل وكأنها من طرف واحد، فالإجابة سنجدها قبل النهاية بقليل، في الرسالة السادسة والأربعين، صراحة يقول: (أنهكني اللهاث خلف حب لا وجود له سوى في رسائل بلا صدى)، إذا هي علاقة من طرف واحد. تحتم على بناء العمل أن يكتب من طرف واحد. رسائل طرف دون الآخر.

يهمني طبعا، بجانب الاهتمام ببناء العمل، أن أتوقف عندما توقف عنده يحيى: انتقاء الكلمات. يقول، أيضا في الرسالة (صفر): اكتشفت أن معك حق، ربما تكون حبيبي أنسب للمحادثة لكن عزيزي أو عزيزتي لها وقع ألطف في الكتابة. البطل/ الراوي، خاضع قبل كل شيء لسلطان الكلمات. اللسان فاشي (على حد تعبير بارت)، ذلك لأن الفاشية ليست هي الحيلولة دون الكلام، وإنما هي الإرغام عليه. هو مرغم على أن يقول عزيزتي. ومع ذلك نحن نقرأها بمعنى حبيبتي، لأنه على طول الرسائل سيكرر عشرات المرات تنويعات لجملته: آه لو تعلمين كم أحبك!، وتلك هي قدرة الأدب على أن يقيم في اللغة المستعبدة ذاتها تعددا حقيقيا لأسماء الأشياء (بارت).

ومنذ تلك اللحظة، سيصبح يحيى موسوسا، خاضعا لهسهسة اللغة، يقول في موضع آخر من نفس الرسالة: سيكون مبتذلا إلى حد كبير نطق بيتهوفن. لكن نطق (شوبا) بالفرنسية سيجعلك أكثر أناقة وأنت تحكين لأشبيناتك عن اللقاء. وفي وصفه للقاء يقول: لن نتحدث. لقد أدرك منذ البداية السلطة/ القيد، الذي تفرضه اللغة، أو يفرضه اللسان. فلا مكان للحرية إلا خارج حدود اللغة. وهل هذا ممكن أو متاح؟ طبعا لا. إذا هو الفعل الصوفي: الاحتراق في عينيها كفراشة. وهذه لا يريدها. وبالتالي لا بد من فعل آخر، يقول: فقط سندور ونرقص.. ونرقص.. ونرقص. لكن بطلنا لن ينجو من الوقوع في القيد: يقول وفي الفجر، حين أكون وحيدا في غرفتي المظلمة إلا من نورك في أحلامي، سادون في دفتري ست كلمات أخيرة: يمكنني الآن أن أموت في سلام.

طبعا، سيذكر يحيى موضوع اللغة صراحة في أكثر من موضع، كما في الرسالة رقم 18، يقول: يقتلني عجز اللغة يا سارة، وفي الرسالة رقم 23، يقول: مشكلتي أن البشر اخترعوا اللغة لوصف الأشياء التي كانت موجودة حولهم، وأنت لم تكوني موجودة وقتها. وسيقول أيضا في نفس الرسالة: الكلمات أصلا وسيلة عقيمة للتعبير عن المشاعر. ويقترح أن تستبدل بعض الكلمات في القواميس والمعاجم بصورتها، دون شرح أو تفسير. أو اشارته لمعنى الفتنة بعينيها. والشهية بشفتيها. والبهجة ببسمتها. والشعور الذي نشأ بينه وبينها يسميه (حبا)، مجازا. كان الرافعي قد سبق يحيى لهذا حين قال: تالله لو جددوا للبدر تسمية.. لأعطى اسمك يا من تعشق المقل/ كلاكما الحسن فتانا بصورته.. وزدت أنك أنت الحب والغزل/ وزدت أنك انت..

وسيبقى يحيى واقعا، منذ الرسالة صفر، في أسر الكتابة، وحتى بعد يأسه من حب سارة وشعوره بالخذلان، لن يكف عن الكتابة (على الأقل لا توجد اشارة لأن ثمة نية للكف عن كتابة الرسائل). ولن يكف يحيى عن السؤال:  لماذا أنت لست معي الآن يا سارة؟ فالكتابة هنا مرهونة ببعد سارة. ولن تكون ذات معنى بوجودها. فلو حضرت سارة لانتهت الكتابة. قال لها في لقائهما المتخيل: لن نتحدث. لأنها حاضرة. وهو لا يكتب إلا لغيابها. الكتابة بنت الغياب: دائما هناك غائب نذكره، أو حدث نتذكره. والمحبوبة المحلوم بها، دائما، في قصائد الشعراء وروايات المحبين، بعيدة، تقيم في مكان عصي على السفر. وحتى لو كان هذا المكان الشباك المطل على الشباك، أو الباب المفتوح على الباب. فلو اقتربت سارة لبطل سبب الكتابة. القرب لا يسمح للكلمات أن تنهض أو تتشكل. قال لها: لن نتحدث.

وسنلاحظ أيضا، مع قرب انتهاء الرسائل، بروز نفس السؤال وتكراره: لماذا أنت لست معي الآن يا سارة؟ ويقول: أريد اجابة قبل رسالتي القادمة. كأنه يقول أريد اللقاء، أريد أن أتخفف من ثقل الكتابة بخفة حضورك. لأن حضورها نفي للكتابة، وانتهاء للرسائل. ولما يفقد أمله في اجابة منها عن سؤاله يقول: إلى اللقاء في الرسالة القادمة. يعني: سأستمر في الكتابة إليك. كان هذا في الرسالة رقم 42.

بعد ذلك سيشكو من قدرته على الاستمرار في الكتابة. ومن قبل باختلاسه وقتا ليكاتبها. كأنه يقول لها بأن صبري أو كلماتي ستنفد. فعجلي بي. عجلي بلقائي، لقد أوشك اليأس أن يتملكني.

 

ثمن السؤال:

في الرسائل، لا تخلو رسالة تقريبا من حكاية أو قصة، لماذا؟ مع أنه كان من الممكن أن يفيض عليها بكلمات الحب المعتادة وغير المعتادة، ثم يقول لها: لماذا أنت لست معي الآن يا سارة؟ الحكاية هنا قربان يقدم على مذبح الحب. كأنه يحكي لها من فيض حكاياته، ليقول لها في آخر الحكاية: لماذا أنت لست معي الآن يا سارة؟ فسؤال كهذا، ونظرا لأهميته يحتاج لقربان، ثمن، يدفع قبل أن ينطق به..

سأنتقل لنقطة أخرى: لماذا يتوقع يحيى أن سارة تقرأ رسائله ليلا؟ بصورة أشمل، كما ذكرت فيرجينيا وولف من قبل بأن القراءة ليلا تكون بفكر خال من الهموم. هنا يحيى يظهر في ذروة ضعفه: إذا لم يكن من وصل فأضعف الإيمان أن تقرأي رسائلي، في وقت لا تنشغلي فيه بشيء سواها/ سواي. عل لقاء في الحلم يتحقق. والسبب الثاني لأن رسائله في الغالب محملة بالحكايات، والذي نعرفه تماما من الليالي أن الحكايات تكون ليلا: قبل النوم. وهذا قد يدفعنا للقول بأن العلاقة مقلوبة، عكس الليالي: فيحيى يقوم بدور شهرزاد، وسارة تقوم بدور شهريار. يحيى يدفع ثمن حبه، وسارة تقبض الثمن: تسلية حتى تنام. ينتفع بها الضابط هو الآخر.

 

الرقيب:

وهل يمكنني أن أغفل دور الضابط، الذي صار مع الوقت يشغل جزء لا يستهان به من تفكير يحيى عند الكتابة؟ طبعا لا: الضابط أو الرقيب هنا إما أنه هو القائم بدور الرقيب التقليدي لأي قصة حب: يترصد الهمسات والكلمات والإشارات، لا يأخذ موقفا من طرفي العلاقة، فقط يراقب لينقل خبرا أو يحتفظ بسر. نجد شبيها له في بيت الشريف الرضي: عندي رسائل شوق لست أذكرها.. لولا الرقيب لقد بلغتها فاكي. أو هو رقيب كالذي عرفناه في رواية جورج أورويل 1984 حيث ما يعرف بشاشة الرصد التي تتابع من خلالها شرطة الأفكار مواطني الدولة. تترصد سكناتهم وحركاتهم، ما يفكرون فيه وما يحلمون به. أو هذا الضابط/ الرقيب، هو أجهزتنا المحمولة والحواسيب التي نملكها، حيث ترصد كل شاردة وواردة تصدر عنا. وتأويلي الأخير جاء في سياق استنتاجي بأن الرسائل المتبادلة إلكترونية، لا ورقية.

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

شاعر وناقد مصري ـ والرواية صادرة مؤخرًا عن دار روافد ـ القاهرة 

مقالات من نفس القسم