رواية “سُلَّم يعقوب”.. سردية الخروج من مصر

سلم يعقوب
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 فكرى عمر

أحلام يعقوب:

رأى “يعقوب” ذات حُلم أنه يصعد نحو طاقة نور تشبه الشمس، وكلما ارتقى تباعدت المسافات بين دَرَج السُلم المُعلَّق بالسماء، وازداد ثقل الحقيبة السوداء التي يحملها، حتى سقطت منه، فتوقف مكانه متُحسَّرًا على كنزه الضائع، وحين التفت وراءه باحثًا عنها سقط في فراغٍ مُظلمٍ، لكنه استيقظ فجأة قبل الارتطام بالمجهول بلحظة واحدة.

يَرسُم الحُلم التأسيسي بهذا المعنى في الصفحة (15) من رواية “سُلم يعقوب” لـ”ريهام عياد” مجازها، ورابط عنوانها المُوحي. إنه يعطينا إشارة إلى طموح بطلها “يعقوب إسحاق”، وتكوينه النفسي والاجتماعي، فهو يعيش بقرية فقيرة في محافظة سوهاج، ويخطط لامتلاك ثروة مالية بأي طريقة. يعطينا كذلك إشارة إلى إيمانه بقدرة الأحلام على تحذير الإنسان من الخطر، أو التنبؤ بالمستقبل، وهو بذلك ينتمي إلى تصورات طبقته الشعبية في الاعتقاد بوجود اتصال رسائلي بين الأرض والسماء. ثمة حالمٌ آخر من نفس الطبقة يؤكد هذا المعنى هو “فايز” صهره، إذ يرى أخته هنية راقدة إلى جوار شجرة في الجنة، وثعبان يزحف نحوها، ليلدغها، لكنه ينهض من مكانه لإنقاذها.

هناك حُلمان آخران لـ”يعقوب” يسبقان أفعاله، أو يبشران بها: أحدهما حين قرر سرقة الشقة المُغلقة لليهودي الراحل عن مصر “إسكندر وليم”، والآخر في صفحة 137، وهذا نصه: “راح يعقوب في غفوة، فرأى نفسه واقفًا في القرية أمام الدار، وعددًا من الصبيان ربما كانوا إخوته، وأمه وزوج أمه، وهنية وفايز وجميع أهل القرية وراءهم – يقفون مصفوفين خاضعين له”.

ليس ذلك فقطـ، هو بارعٌ أيضًا في استنباط معاني من الطبيعة تُلائم أطماعه، ففي صفحة 115: “رفع عينيه نحو السقف، رأى بيتًا من الخيوط وداخله عنكبوت يعيش مكانه راضيًا، إما أن تأتي له الفريسة، وإما أن يظل مكانه حتى يجف ويموت، رأى فيه هنية وإبراهيم وفايز”. يُعلن لنفسه بعدها مباشرة: “أنا لست كذلك، أنا أحلُم وأتحرك نحو الهدف، أنا حيٌّ”.

رغم هذا الاتصال الذي يوحي بروحانية الشخصية إلا أن طبيعته عكس ذلك تمامًا، نَفْسهُ مزيج من الانتهازي والمحتال، يضع طموحه المادي غايته، وكل ما عداه من بشرٍ وظروفٍ يصبح مجرد درجات سُلَّمٍ يدوسها بقدميه كلما انتهى دورها، وهو يصعد لأعلى. حدث ذلك في كل مواقفه: تزوج “هنية”، ولم يكن يحبها؛ للحصول على وظيفة بمصر – القاهرة. سرق “إبراهيم” بعدما آثره الآخر على نفسه، ودَبَّرَ له قضية زنا بزوجته؛ ليطلقها، ويتزوج بـ”ياسمين”، الفتاة التي تخيل أنها تناسب وضعه الجديد. حاول كسر عيون الكاهن، والرجال، والنساء بالأموال التي يمنحها لهم في صورة تبرعات، أو منح متوالية.

أحلام يعقوب تعطي ثلاث دلالات: الأولى تتمثل في ارتباط البناء الفني للرواية بالسرد الشعبي التراثي والديني الذي يَعُدُّ الأحلام، ونبوءات العرَّافات وسيلة تحذير رمزية، أو بشارة. كان هناك عرَّافة بالرواية أيضًا لجأ إليها “يعقوب”، لتفسير حلمه. الدلالة الثانية لها ارتباط بالأولي، لكنها تفارقها في البُعد السردي التهكمي لمُسْتقْبِل الإشارات نفسه، حيث لم يكن يتحلَّى بدرجة من النبل أو البطولة كالحالمين القُدامى، بل كان شرًا بشريًا يرتدى جلبابًا صعيديًا بسيطًا، كذئب متنكر بين الناس. والوظيفة الثالثة سأتحدث عنها لاحقًا.

سُلم السماء:

الوظيفة الأساسية للسلم هي تهيئة الصعود والهبوط، أي أنه رابطٌ بين موضعين في بناء واحد، وهو يتحقق في الرواية بمعناه الأول لدي الشخصيات الثلاث: “يعقوب”، و”هنية”، و”إبراهيم” الذي يعملون خدمًا في بيت “إسكندر وليم”.

ويقوم السلم ثانيًا بأداء مغزًى دلالي بصعود بعض أبناء الطبقة شبه المُعدمة إلى قمة الثراء، وهبوط طبقة الأثرياء وأصحاب المال والأعمال القدامى إلى الفقر والانحطاط، أو طردهم من مصر كلها ومصادرة أموالهم وأملاكهم.

إنه يختزل قصة وطن في تاريخ يمتد لقرن من الزمان تقريبًا، حيث تصعد طبقة هامشية ماليًا وعلميًا، ويتشرد كثير من أبناء طبقة ثرية راسخة إثر تحول سياسي ضخم من الملكية إلى الجمهورية تلا حركة الضباط الأحرار في يوليو 1952م، وتُركِّز بؤرة الحكي على طرد اليهود من مصر إثر العدوان الثلاثي من خلال شخصية “إسكندر وليم”، وما تتابع في الرواية من سرقة خادمه “يعقوب” لثروته، وتأميم شقته الأخيرة التي لم يبعها ببيته، لكن الروائية لا تؤرخ للأحداث، ولا تُحلِّل ملابساتها السياسية، ولا تُسجِّلها لمتعة التسجيل، بل تبني ذلك من خلال تتابع السرد، وما انعكس من الأحداث على حياة شخصياتها الروائية التي تخضع لقوة سلطوية قاهرة، فلا يكون لإرادتهم الفردية دورًا كبيرًا في بناء حياتهم ومستقبلهم، بل تتغير مواقعهم بين يوم وليلة بسبب قرارٍ، أو حيلةٍ من الحيل، فيما يُزاح المُخلصون لقيم العمل عن أماكنهم، أو يظلون في طبقاتهم المسحوقة. هنا تظهر وظيفة ثالثة للأحلام تَخُصُّ المجتمع الذي استُلهمت منه الرواية؛ إذ تعكس هذه الأحلام فنيًا طبيعة الواقع نفسه بتداعي صُورها غير المنطقي، وتَقلُّب أحوالها بين لحظة وأخرى مما يمنحها قدرة الترميز إلى وجود قوة عليا تسيطر على الحياة، وفوق قدرة الشخصيات على الخروج من أسرها، فلا يمكنهم إزاء تحريكها لهم سوى الاستسلام لها، أو فقط محاولة تفسير رسائلها.

يسرد الراوي كُلي المعرفة، باستثناء فصل “السقوط”، حكايته بأسلوب البناء الموازي بين صعود أحدهم وهبوط الآخر خلال عشرة فصول: ما قبل الصعود – سبع درجات – بين الثبات أو الانزلاق – والسقوط. ويُشكِّل السرد المشهدي قوام الرواية من خلال الوصف البصري، والحوار، وعرض الأحداث. كما يحضر المجاز أيضًا بشكل عابر، لأداء وظيفة الاختزال السردي، ففي صفحة 17 تخبرنا الراوية عن زواج يعقوب وهنية الفقيرين: “دخلا دنيا جديدة بكل قديم: فستان ملبوس عشرات المرات، وسرير، وأغطية قديمة، وثياب بالية”.

وتُقدِّم بعض الفصول صورة كاملة لشخصية ما بكل أزماتها وتطلعاتها مثل الفصل ( 2 ) من “درجة أولى” الذي نعرف فيه حياة “عطا الله” العبيط، وعلاقته بقططه، وتهتهته في الكلام، ووفاة زوجته، وحديثه إلى حيواناته لأن الناس لا تسمع له. وفي الفصل ( 3 ) ندرك ارتباط “فايز بن عطا الله” بأرضه، وخوفه على أبيه إن تركه وسافر للعمل بالقاهرة.

يقوم السارد أيضًا بعرض فلسفة الأبطال في مواقف حوارية، فحين وضعت “هنية” أمام “ليلى” فنجال القهوة التركي، وأنصتت إلى الموسيقى التي تعزفها، وللوحة المعلقة على الحائط خاطبتها ليلى قائلة: “حياة الإنسان فُرشاة بألوان مختلفة، العِبرة في اختيار الألوان. لوحة بلون واحد، صعب تُبهرنا، ومقطوعة من نغمة واحدة لن تلامس أرواحنا”.

لكن الراوي كان يُعبِّر عن بعض المواقف والانتقالات الهامة بسرد تقريرى، وليس تصويريًا مثل حديثه عن الخلاف العاطفي والروحي بين هنية ويعقوب، منها مثلًا ص33: “فوق سرير واحد، تحت غطاء واحد، النبض واحد والأحلام شديدة الاختلاف”. وفي الفصل 6 ص104 حين يغادر إسكندر وأسرته مصر، إذ يتحكم صوت الراوي بالحدث دون إطلاق مشاعر الألم والذكريات التي ترتبط بكل رحيل.

الأديان كطقس، وكوسيلة للاستبعاد أيضًا:

ما يلفت النظر في الرواية الصادرة عن سلسلة “كتابات جديدة” بالهيئة المصرية العامة للكتاب أن التمايز الديني لم يشغل الأشخاص العاديون في تعاملاتهم اليومية، فـ”إبراهيم” رجلٌ مُسلمٌ يعمل لدى أسرة يهودية في أربعينيات القرن العشرين دون أي اشتباك ديني ولو من خلال حوار، أو مونولج داخلي، بل يجلب للعمل معه أيضًا زوجًا وزوجه مسيحيين من قريته بمحافظة أسيوط هما “يعقوب” و”هنية”، فيصبح البيت مقرًا للأديان الثلاثة.

اللافت أيضًا أن الممارسات الدينية كانت طقوسية، فإسكندر يؤدى طقوسه أمام الحاخام دون أن يمنعه ذلك من ممارسة نزواته في الشرب ومرافقة فتيات الليل، وإبراهيم يصلي ويصوم، لكنه ينطلق في إيثاره للآخرين من طبيعة شخصية تحب العمل والإتقان، ومثله شخصيتان أخريان هما: “هنية” وأخوها “فايز” اللذان تتخبط بهما الأحوال، فقط لسذاجتهما. وعلى طرف ثالث “يعقوب” الذي يفعل ذلك؛ ليحتال على الآخرين، ويوظفهم لتحقيق مراميه.

لكن تَحوُّل الدين إلى وسيلة للعقابِ الجماعي لم يحَدث في الرواية إلا بعد يوليو 1956م، إذ قام جهاز الأمن بتلفيق تُهمة لـ”سارة” ابنة “إسكندر”؛ لإجبار أبيها على توقيع خروج نهائي من مصر دون عودة، ويخبرنا السارد أن ذلك حدث ليهودٍ غيره، وبنفس الطريقة تقريبًا.

هذا العداء ترافق مع حالة أخرى من صعود طبقة فقيرة إلى قمة الثراء حتى بوسائل غير مشروعة، أو خصوصًا بوجودها. ويبدو أن هذا وإن كان له ما يعززه من الوقائع المعيشة قد أسس لفراغٍ سردي داخل الرواية، كان يحتاج إلى مزيدٍ من اللوحات الحكائية، أو التفسير، ومن ذلك: سلبية جميع الشخصيات التي سحقها “يعقوب” في صعوده، وابتعادها عن مطارته أو الانتقام منه كإبراهيم وفايز وهنية، بل إن “هنية” التي نالها القسط الأكبر من العقاب فضَّلت استخدام وسيلة الرسم للتعبير عن مأساتها. إفلاته أيضًا من ألسنة أبناء القرية عن ثرائه غير المبرر، أو من الطبقة الحاكمة، ومراقبتها للجميع رغبة في السيطرة والتخويف.

وعلى مستوى الضمير الشعبى تحضر شخصية وحيدة تقترب في تركيبتها النفسية من المتدينين الأوائل، وإن لم تتجاوز عتبة جامع أو كنيسة، ولم تحضر خطبة أو قداسًا واحدًا. إنه “عطا الله” الذي يُطلق عليه الآخرون “عبيطًا”؛ لأنه بلا أطماع ولا طموحات، يربي قططًا، ويعيش هائمًا ووحيدًا في عالمه الخاص، ثم يترك بلدته؛ كي لا يقف عائقًا أمام أبنائه، ويتحول في نظر أهل القرية التي انتقل للعيش على أطرافها إلى رجل مبارك.

وأخيرًا: تقارب الرواية منطقة مهمة من تاريخ مصر، تُركِّز أحداثها على التحول في مصائر الناس، ويسيطر صوت السارد العليم على الأحداث، ومساراتها مع التركيز في النهاية على صوت آخر يقارب نبرة الاعتراف بالخطايا؛ في محاولة رسم مصائر أبطالٍ هم ضحايا التحولات، والقهر السياسي، وحِيل الدهاة أكثر مما هم ضحايا اختياراتهم الفردية، وأعمالهم الخاصة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي  وناقد مصري، المقال منشور بمجلة ميريت الثقافية،
الرواية صادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، متاحة الكترونيًا هنا

مقالات من نفس القسم