ثنائيات الحب والموت.. الألم والحلم في حكي غارسيا ماركيز وطارق إمام

طارق إمام وماركيز
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد القادر كعبان*

الحكي العجائبي ظاهرة أدبية تجريبية لا تزال تشغل الكتاب والنقاد والقراء جميعا لأنها ظاهرة جمالية كسرت النمطية في العديد من الأجناس كالقصة، فخلقت لها عالما آخر لا يخلو من التشويق والغموض والدهشة، وهذا ما نلمسه مثلا في العديد من قصص الكولومبي غارسيا ماركيز والمصري طارق إمام.

تربط شخصيات ماركيز وإمام وجودها بموضوع القصة حتى نجدها مرتبطة بتلك التفاصيل الصغيرة، كما أنها تسهم في إثارة الحركة في مسار الأحداث، وقد تعرف تغيرات سلبية وأخرى إيجابية فتنعكس على ملامحها وكذا مواقفها الفكرية والنفسية.

تتنوع تيمات قصص غارسيا ماركيز وطارق إمام كالحب والموت والألم والحلم وغيرها، أين يصبح البطل المثقف-الشخصية المحورية- الحكواتي الذي يتولى وظيفة السرد، وهو في الغالب شخصية مستسلمة لرؤية الأديب الفكرية، فيرسم الأحداث رفقة شخصيات أخرى ثانوية، ومن بين النماذج التي تستوقفنا “الموت أقوى من الحب”، “في يوم من الأيام” قصتان لابن أراكاتاكا و”حكاية الشبح الذي يبحث عن جسد حبيبته”، “حكاية الرجل الذي لم يحلم أبدا” قصتان لابن الإسكندرية.

ثنائية الحب والموت

اتخذ كل من ماركيز وإمام ثنائية الحب والموت في قصتي “الموت أقوى من الحب” و”حكاية الشبح الذي يبحث عن جسد حبيبته” أداة أساسية للتعبير عن واقع اجتماعي تتعدد شخصياته وثقافتها تختلف من بلد لآخر، وقد جاءت موجزة ومشوقة، ففي القصة الأولى نكتشف شخصية السيناتور أونيسمو سانشيز الذي يجد المرأة –لورا فارينا- التي حلم بها ولكن ذلك بعدما عرف أن الموت بات يهدد حياته، فقد أخبروه أنه أمامه ستة أشهر وأحد عشر يوما فقط وبعدها سيرحل عن الدنيا: (أحس أنه يمتلك زمام أموره عندما خرج للقاء الجمهور للمرة الثانية في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، مرتاحا ونظيفا، وهو يرتدي بنطالا من الكتان الخشن، وقميصا مزهرا، وكانت الحبوب المضادة للألم قد ساعدته في إضفاء شيء من السكينة على روحه. غير أن التآكل الذي كان الموت يحدثه فيه أكثر خبثا مما كان يظن، لأنه ما أن صعد إلى المنصة، حتى اعتراه شعور غريب بالازدراء للذين كانوا يسعون جاهدين لأن يحظوا بشرف مصافحته…) ص 22.

منذ الوهلة الأولى، استطاعت ابنة نيلسون فارينا الجميلة أن تسحر بجمالها السيناتور الذي ظل رافضا ومنذ سنوات أن يساعد والدها في الحصول على بطاقة هوية مزورة  تجعله في منأى عن قضبة القانون: (كانت ترتدي فستانا هنديا رخيصا من نوع غواجيرو، وكانت تزين رأسها أقواس ملونة، وكانت قد دهنت وجهها بأصباغ لتقيه من أشعة الشمس. إلا أنه، حتى في وضعها السيئ ذاك، يستطيع المرء أن يتصور أنه لا توجد امرأة أخرى في جمالها على وجه البسيطة كلها. وقف السيناتور منقطع الأنفاس وقال بدهشة: “اللعنة. يفعل الله أكثر الأشياء جنونا.”) ص 25.

أما قصة طارق إمام الموسومة “حكاية الشبح الذي يبحث عن جسد حبيبته” فتلتقط صورا خيالية من أدب الواقعية السحرية، أين نجد العاشق شبحا يلازمه هاجس البحث عن حبيبته التي افترق عنها بموته ليمنحها وردة فتمنحه حرية يده المتيبسة: (يستيقظ مع أول خيوط الفجر، بجسده شاحب الزرقة الذي لا يراه البشر، في كفه وردة ذابلة، احتفظ بها من حبيبته القديمة وكانت كفه قابضة عليها لحظة موته ورفضت التخلي عنها. فشل من حاولوا في تخليصها من راحته، حيث تيبست أصابعه عليها كأنها كانت تتشبث بأمنيتها الأخيرة في البقاء.) ص 135.

ظل بطل إمام يبحث عن حبيبته كل يوم متسللا إلى بيوت جديدة ولكن دون جدوى، حيث كانت وردته تتفتح يوما بعد يوم وكان عبيرها يضاعف شوقه لحبيبته: (ظلت تكتسي بالرائحة حتى لم يعد يطيق عبيرها القاتل الذي غمر مقبرته، ليميته مرتين.) ص 136.

لربما هذه القصة لطارق إمام من مجموعته الموسومة “مدينة الحوائط اللانهائية” تعيد إلى أذهاننا رائعة ماركيز “مائة عام من العزلة” التي عكست شخصيات ماورائية تتمثل في أشباح الموتى، والتي تتسم بالغواية التي تعكس الدهشة والغموض والحيرة، فكما يقول النقاد الشبح في الأعمال الأدبية هو عبارة عن تيمة عالمية وجذوره العميقة تمتد إلى الأدب الإغريقي.

الحب جزء لا يتجزأ من هذه الحياة ويرى ماركيز وإمام أن بطليهما حاولا مقاومة الموت بسلاح الحب، غير النهايات قد تكون تراجيدية في كثير من الأحيان فبطل غارسيا يفضل أن يتمتع بلحظات حميمية مع حبيبته لورا فارينا الفاتنة كونها فتاة مراهقة لا تتعدى التاسعة عشرة من عمرها: (طوق السيناتور خصرها بذراعيه، ودفن وجهه في إبطها الذي تفوح منه رائحة حيوان الغابة، واستسلم للرعب. وبعد ستة أشهر وأحد عشر يوما مات وهو في تلك الوضعية ذاتها، محتقرا ومهانا بسبب الفضيحة التي شاعت بأنه كان مع لورا فارينا وكان يبكي بحرقة لأنه مات من دونها.) ص 29.

بطل إمام وجد حبيبته التائهة بعد عناء من البحث، وجدها رفقة حبيب آخر يمشيان كعشيقين مع طفلهما، فسالت دموعه حزنا وأسرع لمصافحتها دون سابق إنذار: (انفرجت كفه المتيبسة أخيرا، لتلتقط هي الوردة النضرة قبل أن تنزلق في التراب مودعة اليد التي لا تملك الإرادة. التفتت بسرعة قبل أن يلحظ الرجل المنتظر جنونها، وبينما يستدير الشبح، التفت ليراها لآخر مرة.) ص 137.

استطاع الموت أن يسكن هواجس الشخصيات الرئيسة في “الموت أقوى من الحب” و”حكاية الشبح الذي يبحث عن جسد حبيبته”، أين نجده تارة يمثل الحاضر والماضي والذي يمتد أيضا إلى المستقبل المجهول، فيصبح لحظة نشوة تذهب عبثا مع محاولة فاشلة يلفها الشوق والحنين.

ثنائية الألم والحلم

الحلم أمل يبحث عنه الإنسان في واقعه الذي لا يخلو من الألم، خصوصا المبدع الذي يجعل منه أفقا لشخوصه التي تأبى أن تعيشه في وجدانها وشعورها اللاواعي رغم ألمها الذي لا ينتهي كما يحدث ذلك في قصة “في يوم من الأيام” لغارسيا ماركيز وقصة “حكاية الرجل الذي لم يحلم أبدا” لطارق إمام.

القارئ يجد نفسه أمام سرد موضوعي لا يخلو من الخيال حيث يرغب البطلين –في قصة ماركيز وإمام- التحليق وتجاوز الواقع وذلك بالتمسك بالحلم غير أن الألم كان أكبر من ذلك، وهذا يظهر جليا في نص”في يوم من الأيام” أين يحلينا العنوان إلى شيء ماضوي التصق بفكر الشخصية المحورية أوريليو أسكوفار الذي قرر أن يصبح فجأة طبيب أسنان، رغم أنه فشل في الحصول على شهادة جامعية وفتح عيادة يستقبل فيها المرضى: (عندما انتهى من ترتيب العدة على الطاولة، سحب المثقاب ناحية كرسي المعالجة وجلس ليباشر في صقل الأسنان الاصطناعية. وكان يبدو شارد الذهن، لا يفكر في تفاصيل العمل الذي يؤديه بدقة وثبات متواصلين، وكانت قدمه تظل تضغط على عتلة المثقاب حتى عندما تنتفي حاجته إلى الآلة.) ص 36.

الألم قد دفع العمدة لزيارة أوريليو إلى عيادته غير أن هذا الأخير طلب من ابنه أن ينفي وجوده هناك، ولكن في نهاية الأمر رضخ لطلب أول زائر يتألم رأى في عينيه ليالي من التوجع والأرق، ولكن رأي الطبيب كان مفاجأ فقد قرر خلع الضرس من دون مخدر: (وبينما انشغل الطبيب بتسخين أدواته، أسند العمدة رأسه على مسند الكرسي الخلفي فشعر بشيء من الارتياح. كانت أنفاسه تطلق بخارا في الهواء. كانت عيادة بائسة: كرسي خشبي قديم، مثقاب يعمل بدواسة، وعلبة زجاجية تحوي قناني السيراميك.) ص 137.

جاءت قصة “حكاية الرجل الذي لم يحلم أبدا” لطارق إمام رمزية ترتكز على بعد فنتازي مخالف لقصة ماركيز الواقعية إلى حد كبير، حيث يستيقظ سكان مدينة الحوائط اللانهائية على وفاة ذلك الرجل الوحيد الذي عاش بدون أحلام، وكان الأطفال هم فقط من اكتشفوا رحيله المفاجئ: (عندما انتهى المنام، خافوا أن يحكوا ما رأوا، ليس فقط لأن أحدا من أهاليهم لم يكن ليصدق، لكن لأنهم شعروا –بالغريزة فقط- وباتفاق مبهم تواطأت عليه قوة الطفولة التي لا تبارى، أن هذا المنام المشترك علامة لا يجب أن تحكى.) ص 107.

شعر الرجل بألم داخلي وبرعب أيضا لأنه فقد فجأة القدرة على الحلم وهذا يرجع لتفسيراته المرتجلة لأحلام غيره، والتي كانت تتحول إلى واقع ما يلبث أن يعيشه أصحابه: (قرر الرجل أن يختفي تماما من حياة المدينة المتخمة بالأحلام، غير أنه لم يكن يعرف –عندما لاذ بحوائطه- أن الأمور انفلتت من بين يديه للأبد. انهالت طرقات الناس على فمه، جميعهم يطلبون تفسيرات لأحلامهم من الرجل الذي لا يخيب القدر كلماته.) ص 108.

النقطة المركزية التي جمعت قصة “في يوم من الأيام” لماركيز وقصة “حكاية الرجل الذي لم يحلم أبدا” لإمام هي السعي وراء الحلم الذي قد يكون مفتاحا للخلاص من الألم، والذي أصبح في أيامنا يقيد الإنسان فتضيع حريته وإنسانيته بشكل عام.

وفي الأخير ما يمكن قوله حول هذه النماذج القصصية للكولومبي غارسيا ماركيز والمصري طارق إمام هو استخدام ثنائيات ذات طابع واقعي في الحكي والسرد، وقد نجده عند ابن الإسكندرية لا يخلو من تقنيات الواقعية السحرية، حيث انعكست دلالات عميقة ومعاني مؤثرة زادت من دهشة المتلقي وجذبته لمعايشة الشخصيات والأحداث.

………………………

المصدر

(1) جابريل غارسيا ماركيز: رحلة موفقة سيدي الرئيس وقصص أخرى، دار روايات 2 للنشر الالكتروني.

(2) طارق إمام: قصص مدينة الحوائط اللانهائية ، الدار المصرية اللبنانية،2018.

* كاتب وناقد جزائري

 

مقالات من نفس القسم