نصف لسان

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 إيمان عاطف

عندما بدأ الأمر، كان عسيرا على الأذهان استيعابه . ربما مثلما كان عسيرا على زملاء الدراسة استعياب السبب الذي جعل أول كمبيوتر اخترعه الإنسان بحجم غرفة الفصل.. في متحف التاريخ التكنولوجي تسكعنا حول الكمبيوتر البدائي لدقائق نتساءل عن الأسلاك الملونة في الخلف من أين تأتي وأين تؤدي وكيف تترابط الدوائر الكهرومغناطيسية! ظل مزحة بالنسبة إلينا. وعندما عدت إلى المنزل، جريت نحو صوبة الزرع الزجاجية.. تحلقت حول ساقي أمي وهى تضع في إصيص الطين زهرتها الحمراء التي صممتها بنفسها على برنامج الفوتوجاردن وطلبت صناعتها جينيا. خيال أمي عسير على فهمي هو أيضا. لقد كان للوردة ساق طويلة وغليظة إلى حد ما وأوراقها خضراء وعريضة جدا، عند عنقها استطالت ورقة  مالت عليها البتلات المستطيلة لتستند كوجه فتاة استكان على وسادة طرية. لا أفهم لماذا تختار أمي لون موحد لورداتها وهذه الأشكال الضعيفة الساكنة !  لو كنت أنا لصممت وردة على شكل فراشة أو ببغاء أو قرد أمازوني وأضفت إليها جميع الألوان السعيدة الفسفورية التي يمكنها أن تضيء الظلام. كأفتح لون في درجات الأزرق بجانب البرتقالي المشتعل في شمس غروب الصور الأثرية، ثم الفوشيا المضيء الذي تضعه أمي الآن على شفتيها ويجعلهما تبدوان بارزتين بصورة مضحكة تحت أنفها الصغير. الأخضر الزمردي في خاتم زواجها أو البنفسجي في زهر اللافاندر في الإصيص المعلق على الحائط. أصابتنا هزة أرضية جديدة، حملتني أمي دون أن تخلع عن يديها القفازين المتسخين وجلسنا تحت طاولة المطبخ. لم أفهم أيضا لماذا ترتعب أمي من الهزات الأرضية إلى هذه الدرجة. لقد أخبرتنا المعلمة في المدرسة إن الأرض تتنفس قليلا وعلينا أن نتعود على تلك الهزات البسيطة التي ستستمر لعشرات من السنين المقبلة. وقالت إن بلادنا طيبة الحظ وغير معرضة مثل كثير من البلاد للهزات الأرضية الشديدة التي يمكنها أن تقلب كل شيء رأسا على عقب. وأننا تبرعنا لكثير من البلاد الأجنبية بالأموال والمساعدات الطبية حتى نضمن أن تلك البلاد لن تدع الناس ينزحون إلينا. - كل الناس في البلاد الأخرى تريد أن تسافر إلى بلدنا يا مامي لأنها آمنة.-

 

 

-نعم يا صغيرتي، أعرف.

– إذن لماذا أنت خائفة هكذا.

– أنا خائفة على النصف لسان.

– نصف لسان!!

– نعم، أنتي. لأنك تقولين كلاما ناضجا جدا ثم لا تعرفين كيف تتمميه. فأنت نفسك لم تنضجي بعد.

– هل رأيت الكمبيوتر البدائي، إنه عملاق وبحجم غرفة كبيرة.

– رأيته يعمل.. جدك كان مهندس البلدية وكان يعمل عليه. ستتسع عينا جدك كاتساع عينيك اللتين ورثتهما عنه وأنت تقولين ببطء عملاق. لكنه سيقول ضيئييييييييييييييل وبحجم عقلة الإصبع. على الكمبيوتر الذي تحملينه الآن.

– لكنني أحمل فوتونيك باد.

– أنه أيضا كمبيوتر.

قبلتني أمي وتركتني أفكر. أفكار تعاودني الآن مرة أخرى، مرت بضع سنين وأتسائل إذا كان لساني قد اكتمل نصفه الآخر بعد لأخبركم كيف أن العالم لم يستوعب ما حدث.

بدأ الأمر بطفلة، باليرينا صغيرة  عمرها أربعة عشر عاما. موهوبة أو هكذا قال اساتذتها. تقوم بدور البطلة للعرض الكلاسيكي القديم  هاري بوتر. الزمان يمكن تحديده بأخبار الليلة السابقة  لليوم المشهود.. ( غدا.. بدء فاعليات الاحتفال بإفتتاح دار الأوبرا الأثرية بوسط البلد القديمة).

المكان يستطيع أن يكون أكثر ديناميكية إذا حددناه بخشبة المسرح الأثرية حديثة الترميم.

في منتصف العرض تقريبا وعندما بدأت الموسيقى تصرخ قفزت الى كتف الزميل بدور هاري، أعطاها دفعة  لتتسلق الهواء. كانت تطفو، قليلا ما لمست الأرض وتجلت النغمات في جسدها المحلق. حلت في عينيها الغفلة وكأنما مسها السحر. يقولون أن عضلات ذراعيها المشدودتين إلى الخلف جعل الجمهور المتواضع يوقن أنها فراشة تسقط في حلقة النيران.

سقطت بالفعل.. في اللاشيء.. تلاشت.

……………………..

ماذا عن النصف لسان؟

كثيرون ممن أعرفهم سقطوا في هوة اللاشيء وبدأ الأمر يعرف في الصحف باختفاء المبدعين الغامض.. ليلة أمس أنصت جيدا لإعلان الأسماء الفائزة بجائزة الإبداع في القصة القصيرة. لم يكن اسمي بينهم. هذا الصباح عرفت أن اثنين من الفائزين كانوا قد اختفوا بالفعل قبل الاعلان عن اسمائهم بفترة.

الأروقة الخلفية في منزل أمي المهجور تشبه داخلي. شجرة جافة داخل إصيص مترب على حافة مكسورة في غرفة حيطانها زجاج.. تتكرر الصورة مئات المرات. يجلس إلى جانبي فأبكي. أبغطه. أوقن أن دوره سيأتي قريبا جدا.

يتفتح بعض الضوء، بعض الموسيقى..

_ هل تدرك الشمس نعم ضوئها علينا.. هل ترى كل تلك الكائنات تتلمس طريقها نحو الضوء لتستدفيء.. لتحيا..؟ أنت أيضا لن تدركين. عليك أن تصديقني عندما أقول لك.

_ لماذا لا تعفيني من عناء الوهم.. أنت ذاهب دوني على أية حال.

التصق التراب بجسدينا. أشتم التراب العالق بأصابعي. سأنتقل إلى هنا عندما ينتهي كل شيء. عندما أعلق وحدي في هذه الحياة العقيمة. وسأترك التراب كما هو ليذكرني برائحته ورائحة أمي. رائحة فشلي.

………………..

ذلك الصباح هرعت خارج الباب. المصعد الأول لا يستجيب لندائي. أركض على السلالم. في الدور السفلي يقاطعني حيوان ضخم، لعابه شلال يتساقط. كنت لأسأله لماذا ينظر بغضب إلي لكن جاري الذي لم أره من قبل سحبني داخل شقته وأغلق بسرعة الباب.

استمع إلى غضب الحيوان. لا أعرف ما نوعه هو ضخم كديناصور وهائج كدب. يتناولني الجار في حضنه. يكاد يكسر ضلوعي ويده تتسلل نحو الأسفل. زئير الدب يهذي خارج الباب. من أين تأتي الشمس؟ نظرت إلى نافذة الصالة. لماذا لا تدخل شقتي بالأعلى..؟ أقف على حافة النافذة أنظر إلى أسفل.. لا أرى الأرض، فقط غيمة..

يا ويلي،

أتشبث بستارة بيضاء رقيقة.

………………………

 لم يعد لي ظل. استبدلت الغيمة ظلي. الفرق أنها تتخذ أشكالا خاصة بها لا تشبهني. أتشبث برائحة التراب وأغرس زهرات بلون شفاة أمي المضحك. لم أعد أكتب القصص رغم أن الحروف متوفرة وتنحدر داخل رأسي بغزارة.

عندما نمت طاردني الحيوان مرة أخيرة. كنت أصعد جبلا وتنزلت الغيمة من السماء وأمرتني أن أسقط.

_ ستحملك إلى عالم آخر.. عالم يستحقك.

_ ما شكله؟

_ ملون كمغامرة.

أنظر إلى أسفل إلى أمواج الظلام المتذبذبة الكثيفة داخل الغيمة.. أخطو إلى الوراء. أتعثر. أتدحرج حتى سفح الجبل. أتمرمغ في التراب.

أطباق الطعام على الطاولة وأمي تحكي عن أكلات كانت تحضرها جدتي لم تعد موجودة لأن الحمام والعصافير انقرضت.

_ هل رأيت الغابة يا أمي؟

_ لم أر الغابة لكني مشيت بين صفوف النخيل على شاطيء البحيرة.

_ هل كانت البحيرة زرقاء؟

_نعم والسماء أيضا.

_يبدو ذلك مخيفا.

_تغيرت الحياة كثيرا.. أحب الحياة معك في هذا المنزل.

امتثلت للنفق، للظلماء وللفراغ. أتبع قبس الأنوار الاصطناعية بنهايته. تنبت موسيقى من آلة وترية. أندمج مع النور. تنوح نغمة من ساكسيفون، أطارد مصدر الموسيقى. تفتك بي الحشود. يتوارى النغم الحزين مع دخول القطار إلى الرصيف… يخبو تماما مع اضطراب القضبان تحت الفرامل. يقتربون من الرصيف، يتهامسون. أميل مثلهم لأشاهد.. الأحمر القاني يتبرأ منه معدن القضبان. واللحم الممزق تأكل منه العجلات. جلباب أزرق ممزق ومقلتين تحدقان في. رُفعت الأشلاء. واحتل القطار رصيفه. حملتني الأفواج للداخل، أو أنها كادت تدهسني بينما وطأت قدمي على ذراع عجوز قصيرة. تحلق بعض النغمات قبل أن توصد الأبواب. تجوب عيني بحثا عن المصدر، خلف الزجاج فتاة تحمل الجيتار يقترب منها رجل، يسحب جونلتها فتسقط على جيتارها. أنفها تنزف. قرينتها التي حملت الساكسفون تحاول مساعدتها على النهوض. لكن رجلا آخر في رداء رجل دين يسلب منها الساكسيفون. يرديها أرضا. يُسقِط فوق وجهها حجابا لكنها تتلاشى. يَهمَد الحجاب على الأرض. ألمح البهتان في ملامحه. يتوغل القطار داخل العتمة. امرأة بجانبي تسقط سروالها وترفع يديها على الاسطوانة الحديدية. يتقدم رجل ويشد مؤخرتها نحوه. أسمع البكاء، يحرق عيني.. طفلة معصوبة العينين بيد أمها. يتنزل السائل من أنفها ومن عيني.

_ هل ترى غيمة؟

_غيمة؟

_يقال أن الذين يرحلون ترافقهم في آخر أيامهم غيمة.

_لم أسمع شيئا كهذا.

تابع يقول: أنا لن أرحل يا حبيبتي. إلى أين ذهب الذين رحلوا..؟! أنا أريد أن أجد الوقت.

في اليوم التالي تلاشى. سقط.. ارتقى.. لا أعرف. استيقظت ولم يكن بجانبي.. لم يودعني.

أعطيت الفتاة منديلا.

أخيرا وصلت إلى المنزل القديم.

أراقب أمي وهي تغرس وردة كلاسيكية صغيرة في إصيص أخضر. بتلاتها الحمراء شبه منتصبة تماما كما في الأفلام القديمة. يسمق العنق الرقيق بين أصابعها وتشرع بتلاتها في التفتح في راحة يديها.

لكنها كانت يدي أنا..

تسقط البتلات على كفي..

تبدأ في الذبول.

أتصفح القصص على شاشة الفوتوبلازما.. أسلوب سخيف وصور عادية. أملي إلى الشاشة بعض الكلمات. يزأر الحيوان. صورته تظهر على الفوتوبلازما مع حروف ترسم. أدوس الجهاز الضئيل كعقلة إصبع بقدمي. أحطمه.. أحطمه وأصارع الحيوان. أهلك ولا يهلك. أصب غصبي على أصص الزهور.

أخطو فوق الحيطان الزجاجية المحطمة.

 أترك كل شيء يمضي.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 

قاصة وروائية مصرية، صدر لها “أرواح معلقة على جدار” ـ رواية عن دار روافد 2014

مقالات من نفس القسم