ثلاث قصص

محمد فيض خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فيض خالد

شكرا لساعي البريد

سمعتها لأول وهلة من فم عوضين خولي الأنفار، تلهب حماستي كلماته المرصوصة في عناية، حتى وإن جاءت مغلفة بالتزلف، ألقاه متربعا أمام دكان عبدالمقصود حلاوة ، رجل جلف، غليظ الكبد، شحيح اليد، ما إن اقترب منه إلا ويبتسم ابتسامة غائمة يخرجها في تصنع، تلمع لها نابه المكسوة بتلبيسة الفضة، في هيئة ضبع عجوز، يدنيني من مجلسه وهو يقول: والبخاري الشريف عليه خط أحسن من حنين أفندي ، مسلوب الإرادة امسك بدفتره الكبير المهترئ، منكفئا في تدوين أسماء أنفاره، يمليها علي في تأن، يغيم في عالم بعيد، يهرش رأسه الأصلع مرة، ويحك ذقنه الثلجية أخرى، وكأنه يستدعي أسراره من جب سحيق، وقبل أن انتهي من مهمتي، تسارع كفه المملوءة باللب الأبيض، فتغرق جيبي الصغير، في امتنان أحييه صامتا، اقسم ألف مرة أثناء سيري، بأني لن أعود لهذا المخلوق ثانية، لكني افشل عند كل محاولة.

عرف الناس طريقهم إلي وأنا ابن العاشرة، لازلت أتذكر الشيخ عرفات الجندي في هيبته ووقاره، يفترش الأرض إلى جوار مصطبتنا، قد عبث الزمان بوجهه المغضن، واستغفاره المتواصل، يقول متأثرا وهو يملي علي: قل له الصحة عال والأمور على خير ما يرام ، لازمها في كل رسائله التي كتبها لابنه مشهور لكن القدر لم يمهله، مات الشيخ المسكين قبيل عودة الغائب من الأردن بأسبوع، لم يهنأ بكده وخيره، بعد أن ظل أعواما يمني نفسه باليوم الموعود، الذي يرجع فيه ويفك رهن أرضه، التي مات كمدا عليها.

كانت سميحة العايقة زوجة حسن مسعود، أشدهم غرابة ومكرا، فبغض النظر عن ميوعتها المفتعلة كمراهقة صغيرة، ورائحة عطرها الفواح، والكحل المغري يغرق أهدابها، انتهاء بأناقة جلبابها الضيق، البادي من فوق جسد بض رجراج، تتعمد استفزازه في نشوة عارمة، اجبرتني على مواصلة التفكير فيها، حتى قبل أن يأتيني ما يأت الرجال، تقتحم البيت في تلصص، تخبئ المظروف بين طيات ثيابها، تلقي بتحيتها في تنمر مريب، تتوسل عند كل مرة في استعطاف أن يظل الأمر بيننا سرا، فالعين فلقت الحجر، وأهل زوجها يكرهون لها النعمة ولأولادها، لعل ترضيتها بقبضة الشاي الخشن التي تلفها بإحكام في قرطاس، اجرا يشجعني على تحمل طلباتها، تظل تعيد وتزيد عن مكائد أمه وتعنت أخوته، ريثما تكشف عن أمنيتها أن يكن لها بيتا على مشارف القرية كابنة خالتها اعتدال ، سريعا تنتهي من طلباتها، لتختم خطابها بوصلة حب فاحش، تسند ذقنها المدبب فوق الطبلية وهي تملي، في شكاية صريحة لوعتها التي فاقت الاحتمال، تذكره بأيام أنسهما الدافئ، تغمض عينيها ثوان، ثم تطلب منزعجة قراءة ما كتبت، ادفع إليها بالخطاب، فتمرر شفتيها فوق حافة المظروف تغلقه، تقبله قبلات حارة متكررة، تنقر بإصبعها منبهة: اكتب شكرا لساعي البريد ، بالأمس رأيتها بعد تلك السنوات البعيدة تسير يتكسر جسدها في عنفوان كابنة العشرين، قالت لي متبجحة كعادتها: هل لازلت تكتب رسائل أم تراك قد هرمت؟! ، تفلتت ضحكاتها مجلجلة، قبل أن تغيب كشيطان بين البيوت.

 

فتلة صوف

لا يزال لهيب الألم المتمشي في يدي يزعجني، يكاد وخزه يطير له عقلي، على كل حال إلى الآن أداوم على مهامي اليومية المعهودة دونما مشاكل، لكني آخذ نفسي في أوقات بالتفكير في حلول عاجلة عن نهاية لهذه الأوجاع المتزايدة، التي تنهش مفاصلي بلا رحمة، لم تفلح الوصفات الشعبية التي جربتها، اضطرتني الحالة تحاشي أشخاصا بعينهم، واعتبار تحيتهم نوع من المجازفة لا آتيه إلا لماما، فما إن يلتقم أحدهم يدي، حتى يهزها هزا يضيع له عقلي، نصحني صديق قديم يؤمن بالخرافة وتأثيرها، إيمانه بقوة شارب والده المسنون، راودني عن نفسي ذات مرة وهو يهرش طرف ذقنه المغبرة: دع عنك مراهمك الحريفة، وابحث لنفسك عن أم لتوأم، واجعل يدك تحت كعبها، فهذا دواؤك يا صاحبي ، سريعا ألقيت عني كلامه في غير اهتمام، بيد أنه كان من حين لآخر، يتأتى فيمس خاطري مسا لطيفا، عندها استغفر لذنبي، وألعن الوجع الذي أوقعني في حبائل الجهال.

عاودت زيارة الطبيب في استشارة مؤجلة، دخلت غرفة الكشف في سكينة، أغالب صراخ يدي المتواصل، يستفزني منظر الأجهزة الطبية متراصة في اجتراء مخيف تملأ جنبات الغرفة، تحاملت على نفسي وتركت المجال لابتسامة باهتة تتأرجح فوق شفتيَّ، وبقايا من كلمات صاحبي تشاغب من حولي محرضة: ابحث لنفسك عن أم لتوأم .

في مساء يوم صائف، انتبهت لنداء ابنتي الصغرى، اخبرتني أن سائلا بالباب، كان صاحبنا قد حضر للسؤال عن صحتي، تقدم نحوي صامتا، بعد أن اخرج من جيبه خيطا سميكا من الصوف، وبدأ في برمه وبعد انتهائه ؛ لفه حولي رسغي، بادرني قبل أن انطق وهو يهز رأسه ناصحا: لا تنزع عنك هذا الخيط أبدا، الوصفة مضمونة، صوف الغنم مجرب لمثل حالتك ، تجاهلت حديث الأمس وما قبله، انشغلت بفتلة الصوف تخنق معصمي في سخونة حارقة، وتوهج مثير أنساني آهات البارحة، شاءت الأقدار لآلامي أن تزول، لا اعرف سببا حتى الآن، قد تكون للوصفات الطبية التي واظبت عليها أثر، وربما كانت فتلة الصوف هي السبب، لا أدري!، لكن ما أريده، أن هذا السر ظل رفيقي على الدوام، من بعدها احتفظت بالفتلة، حتى وأنا اغشى أرقى المجالس، لا تزعجني نظرات العيون الزرقاء تنسحب من تحت النظارات الثمينة، يأكل الفضول اصحابها عن سر فتلتي، في كل مرة أتحسسها في صمت وكبرياء، تلفني نشوة محببة، وأحداث الأمس تعاود من جديد تمر في عنفوان، لأحمد الله على السلامة.

 

الرحلة

 امسك موظف الجوازات بيد غليظة الختم، دقه بغير اكتراث، أومأ برأسه محييا في صمت، انتظمت في مشيتي وسط حشد صاخب من البشر، انفتح أمامي بهو متسع، انتصبت فيه قبة زجاجية تتلألأ في المنتصف بأضواء زاهية، تحجب خيوط شمس الظهيرة الغاضبة، حتى شمس النهار تريد أن تهاجر يا أمي، الوضع لا يطمئن، فبرودة المكان شيء لم اعهده في حياتي، تهب تلسع وجنتيَّ في قسوة، إلى جواري صبي صغير بدى منفعلا، تحرر من قبضة أمه، قائلا في دلال: أريد واحدة منها ، وأشار بإصبعه ناحية واجهة من البلور المضيء، علتها يافطة كتب عليها بأحرف أجنبية مختصرة، ومن داخلها وقفت فتاة في ثياب قصيرة تلوح بابتسامة ملائكية، تعدل من خصلات شعرها الأحمر في كبرياء، لا أعرف إلى أين اساق يا أمي، لكني مجبر على ذلك، البرودة لا تطاق، لن اترك نفسي على عمايتها، تلكأت في مشيتي متعللا بتعديل هندامي الذي بدى مضحكا يا لقسوة الفقر، غير أن ضجيج الأطباق، وصريخ الملاعق تلحسها في عنف، رائحة الطعام تختلط بكل شيء تستفز معدتي الخاوية، افتقد يدك يا أمي تحمل طبق القلقاس، ونظراتك الحانية تشبعني، فصنف أولئك الذين تراصوا حول الطاولات، قد انخرطوا في ضحكاتهم، تتأرجح أرجلهم دون كلفة ليسوا مثلنا يا أمي، فهذا المكان لا يقوى على الاقتراب منه شيخ البلد، ولا حتى بكري خولي الأنفار ولو باع جلبابه السكروته، البرد حيوان متوحش يمرر طرف لسانه فوق جلدي.

لم ينجدني غير شواهد عالية قادمة عن بعد، هذه الوجوه أعرفها جيدا، لا أخطئها، هي مثلي غريبة حتى وإن أظهرت بعض الغرور، تقدمت منهم حييت في تلطف، ابتسم كبيرهم وهو يجر حقيبته بلونها الأزرق الكالح، فجأة تراجع عن حميميته وسحب ابتسامته، هز رأسه مختالا بعمامته البيضاء المكورة في إحكام، وقد تصلبت عروق رقبته في تشنج، بادرته على عجل: الكويت إن شاء الله ، قال في تحشرج: أيوه ، سريعا غاب عني في نظرة شهوانية مفضوحة، تتحسس أجساد النساء المارة، لم يكترث لوجودي، فزفرات صدره الملتهبة، ومصمصته العالية، ولكزه صديقه بيد متصلبة، وهو يقول: النسوان حظوظ يا واد عمي ، شيء يؤسى له، تابعت سيري يا أمي، مع صحبة لا تقل في بؤسها عني، الفارق بيننا، أنني وافد جديد سيؤول مآله عما قريب لثور مغمى.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون