طِفْلُ القَمَر

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 22
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

البشير الأزمي

كُلُّ من في الدار يناديني الخفاش إلا جدتي..

” حرام عليكم، الولد له اسم..”،

 كانت تردد جدتي كلما سمعت أحداً يناديني الخفاش.

نسوا اسمي، وكدتُ أنساه أنا أيضاً. حتى أهل الحي؛ كبيرُهُمْ وصغيرُهُمْ ينادونني الخفاش ولو بتودد، لأني كنت أُضْطَرُّ إلى أن أخرجَ من المنزل ليلاً وأظلَّ النهارَ كُلَّهُ حبيسَ جدران غرفتي.. ما كنت أدرك لماذا. هي أوامر كان عليَّ أن أنضبط لها دون أن تكون لي القدرة على مناقشتها.

” الضوء يمنعك من الخروج نهاراً.. الحر الفظيع وأشعة الشمس يفرضان عليك الاحتماء بجدران البيت التي تحد من سياط الشمس ونورها. “.

قال لي أبي وهو يمسح دمعة سقطت من عينه.. لم أستوعب كلامه. حاولت استفساره زجرني وطلب مني أن أصمت.

على غير العادة، وفي غياب أبي عن المنزل خرجتُ، اليوم، نهاراً في غفلة من أهلي. شمسُ اليوم ضاجَّةٌ وعمودية ترسل سياطها وتزيد من حرارة الجو. الحر يلهب الأرض وأنا أسير.. أسير تحت شمس حارقة وأمامي يتموَّج ظلي..  أحس بالإرهاق والتعب، ورغم ذلك أبتسم وأقول:” أنا مَلِكُ الليل”.

لم أنتبه أثناء سيري، وقعتُ في دغل من الأشواك، أُصِبْتُ بخدوش. تجمع الناس حولي، تصلني أصواتهم كأنها آتية من بعيد:” إنه طفل القمر..”،” إنه عدو الشمس..”.. ” محكوم عليه بالموت في أي لحظة.. اطلبوا الإسعاف.. اطلبوا الإسعاف..” .

ما كنتُ يوماً عدواً لأحد أحرى أن أكون عدواً للشمس..

أغمضتُ عينيَّ.. رأيتُني أركض والأطفال يركضون ورائي ويصيحون:” طفل القمر.. عدو الشمس..”. أقع من جديد.. أفتح عينَيَّ أجدني في غرفة مظلمة إلا من نور ضعيف يصل من حبابة قرب السرير الذي أتمدد فوقه. على النافذة الوحيدة بالغرفة مانع من تسرب الأشعة.

قال الطبيب لأبي عليَّ بعدم الخروج نهاراً.. وباتِّبَاعِ نمطِ العيش المنزلي، لم أدرك يومها قصده. فهمتُ فيما بعدُ أن نمط العيش المنزلي معناه الحبس الاضطراري، واستحضرتُ يوم أشار إلي أحد رجال الحي بسبابته الدقيقة وهو يردد:” إنه طفل القمر.. إنه طفل القمر..”..

نعود إلى البيت..

أقعد في آخر الليل عند مصطبة الدار أنظر إلى الأفق المغمور بضوء شاحب يرسله القمر. أرفع عيني إلى وجه القمر، أرى وجهي منعكساً عليه متشظياً.  أتحسس عيني.. أمسح دمعة.. وأدخل إلى غرفتي أحس أن الجدران تحدق في بعيون حمراء حبلى بطاقة الشفقة. آخذ ألبوم الصور، أراني وأنا صغير، أمشي، ليلاً، جنب شط البحر والقمر ينير لي الطريق.

 

 

 

مقالات من نفس القسم