فندق اللذة

أحمد الشريف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد الشريف

ـ هل ما حدث كان صدمة له؟

ـ نعم.

ـ هل كان سببًا في ألمه ودفعه لترك أسرة أمه ووطنه؟

ـ نعم.

ـ ولكـن ما حـدث ألم يعجـل بخـروج مـا كان بداخلـه عميقـًا ينتظـر فرصـة الظهـور والتحقـق.؟

هز رأسه موافقًا .

مـع ذلـك هنـاك حكايتـان عنـه. الأولى: حكاهـا هـو نفسـه للعاملـين معـه، تحديـدًا لمواطنـي البلـد الـذي انتقـل إليـه.

حـكى لهـم أنـه ارتبــط بعلاقــة حــب مــع فتــاة في بلــده الأم ســويسرا. في مدينــة زيـورخ.

هنـاك وبالقـرب مـن البحيـرة أحبـت المـشي لسـاعات وسـط العائـلات أثنـاء عطـلات نهايـة الأسـبوع. أمـا هـو فـكان يتمنـى أن يعيــش معهــا في شــقة صغـيـرة أوغرفــة بفنــدق في مــكان خــارج سـويسرا. في بلـد مـن البـلاد التـي تـشرق فيهـا الشـمس دائمـًا.

قـال لهـا كذلـك إنـه يـودُّ الاسـتمتاع بالمباهـج البسـيطة للحيـاة؛ خاصـة بعـد أن قـرر بيـع حصتـه بالشركـة التـي كان والـده شريـكًا فيهــا.

لم يعــد يحتمــل ســباق التنافــس الكريــه في الشركــة. لكــن ولأســباب لم يفصــح عنهــا قــررت صديقتــه الابتعــاد عنــه وإلغــاء فكـرة الخطوبـة والـزواج. رغـم تألمـه لما حـدث، لم يستسـلم لأحزانه، سـاعده أنـه قـرر تـرك سـويسرا، والجـزء المـرح مـن شـخصيته الـذى ورثـه عـن أمـه الإيطاليـة وعائلتهـا.

بــدأ بتنفيــذ ماقــرره، واضعــًا خلــف ظهــره مشــكلاته العاطفيــة، ومســتلهمًا قــوة إرادة أبيــه السويسري وحبــه وتقديســه للعمــل والإنجــاز.

جـاء يـوم السـفر. لم يكـن هنـاك أحـد لتوديعـه. كان معـه فقـط صديقـه ريتـو، الـذى يعمـل في مجـال العقـارات. أمـا الأهـل مـن جهـة الأب فعلاقتـه بهـم انقطعـت بعـد بيـع حصتـه بالشركـة، قـاد بــه صديقــه بنــاء عــلى طلبــه في اتجــاه جنــوب ســويسرا، حيــث يعيـش مـن تبقـى مـن أسرة أمـه. أحـب أن يقـضى بضـع سـاعات معهـم ويـزور قـبر أمـه التـي أوصت بـأن تدفـن هناك.

 * * * *

الحكايـة الثانيـة لا تنفصـل عـن الأولى، الاختلاف بينهـما، في التفاصيل وبعـض الأسرار، منهـا خوفـه مـن الإقامـة في سـويسرا لشـعوره أن أفــرادًا مــن أسرة أبيــه كانــوا يريــدون التخلــص منــه بطريقــة أو بأخـرى؛ للاسـتيلاء عـلى نصيبـه في الشركـة.

بـدأت تهاجمـه الأحـلام والكوابيـس المزعجـة أثنـاء ذلـك. ذهـب إلى طبيـب نفـسى، فنصحـه بتغيـر المـكان أو السـفر بعيـدًا، فسـافر من جنـوب سـويسرا إلى فرنسـا. مدينة مارسيليا على وجه الخصوص.

اعتقــد إنــه يمكنــه أن يؤســس هنــاك مشروعـًـا ويعيــش في ســلام متحــررًا مــن أشــياء كثــيرة كانــت تكبلــه في ســويسرا. كان معــه صديقـه ريتـو. بعـد أيـام مـن باريـس انطلقـا إلى مرسـيليا، عنـد وصولهـم ذهبـا إلى فنـدق صغـير قريـب مـن المينـاء ويديـره رجـل إيطــالى، وضعــا حقائبهــما في إحــدى الغــرف ونــزلا لاستكشــاف المدينــة والبحــث عــن مطعــم. 

قــرب المينــاء تمتــد عــلى طــول الأرصفــة العديــد مــن المقاهــى والحانــات والمطاعــم، دخــلا أحــد المطاعــم، جلســا خلــف نافــذة تطــل عــلى رصيــف المينــاء.

حركــة غـيـر عاديــة في المطعــم، عــلى الرصيـف وفي المينـاء عمومـًا. سـأل بورديـن صديقـه ريتـو، فأجـاب إنهـا مرسـيليا:

ـ ماذا تعني بذلك؟، سأل بوردين بقلق:

ـ أعنــى شــحنات الأدويــة المهربــة والهيروين والعصابــات التـي تتنافـس فيـما بينهـا: ـ أحقـا ما تقـول؟، صمـت ريتـو عندمـا جـاء النـادل.

وضـع الطعـام أمامهــما وانـصـرف. امتــدت يــد بورديــن وقبضــت عــلى زجاجــة خمــر أحمــر، صــب منهــا في كأســه واحتســاه بسرعــة، رأى ريتــو وأحـس أن بورديـن لم يـرق لـه مـا ذكـره عـن مارسـيليا والمينـاء ومـا يحـدث فيهـما. 

كان عـلى وشـك أن يخـبره أيضـًا عـن الانفجـارات الإرهابيـة ذات البعـد السـياسي، لكـن بعـد أن رأى وجـه بورديـن وحالـة الانزعـاج التـي صـار عليهـا. كـف عـن الـكلام وحـاول تلطيـف الجـو.

ـ عرفت أن هناك باخرة ستبحر إلى برشلونه غدًا. ـ وما شأنى بها! علق بوردين.

ـ أعنى إذا لم يعجبك الحال هنا يمكننا السفر إلى برشلونه. ـ حسنًا. قال بوردين وهو يتناول الطعام ببطء وشرود

. * * * *

 في بهــو الفنــدق يجلــس موســيقى أمريــكى مشــهور ومعه بعــض الأشــخاص مــن جنســيات مختلفــة. تكلــم عــن أمريــكا وفرنســا وإيطاليـا وأسـبانيا وعـددٍ مـن الـدول التـي زارهـا، حتـى اسـتقر في طنجـة الدوليـة. جلـس بورديـن بمحاذاتهـم وبـدأ يسـمع ما يقـال. الموسـيقى يحـكى عـن طنجـة وبيتـه هنـاك. يسـهب في الحديـث عــن موقــع طنجــة الفريــد وتعــدد الثقافــات والأديــان والأعــراق بهـا.

عندمـا رأى ريتـو اهتـمام بورديـن بالموسـيقى وحكاياتـه؛ قـام بتحيتـه ومـن معـه ثـم عـرف نفسـه وصديقـه لهـم.

أحـس بورديـن أن هنـاك شـيئًا مشـتركًا بينـه وبـين هـذا الموسـيقى الـودود، أثنـاء حديـث الموسـيقى قـال إنـه سيسـافر في الغـد إلى برشـلونه ومـن هنـاك إلى الـدار البيضـاء ثـم إلى طنجـة. تبـادل بورديـن مـع صديقـه نظـرات واسـتأذن وقـام . لحـق بـه ريتـو.

ـ إذن فقد قررت السفر إلى برشلونه. قال ريتو مبتسمًا. لم يعلق بوردين، لكنه ابتسم وربت على كتف صديقه.

 

***********

في الباخــرة عــاد لبورديــن مزاجــه الرائــق وحبــه للحيــاة والنــاس .

سروره يـزداد سـاعة بعـد سـاعة. توقفـت الباخـرة عـدة سـاعات في برشـلونه.

فضـل عـدم النـزول مـن السـفينة للمشـي أو شراء أشـياء لا لـزوم لهـا كـما فعـل ريتـو والآخـرون. كان يفكـر مـا الـذي سـيفعله عندمـا يصـل إلى تلـك المدينـة طنجة؟ ،هـذه المدينـة وكـما سـمع مـن الموسـيقي ومـن معـه تشـبه بلـده سـويسرا في أشـياء : التنـوع العرقـي واللغـوي وانفتاحهـا عـلى العـالم .

لكـن ما الـذي سـيفعله؟، هـل يكتفي بغرفـة في فنـدق أو يشتـري بيتــًا صغـيـرًا يســكن فيــه ويعيــش مســتمتعًا بالشــمس والبحــر؟ ضروري أن يعمــل شــيئًا؛ فالنقــود مــن الأفضـل أن تســتثمر،أيضًا لا يريـد أن يصيـر كالمتقاعديـن، يجلسـون في حدائـق بيوتهـم أو عـلى أرصفـة المقاهـي.

مطلـوب أن يعمـل شـيئًا، شرط أن يكـون مشروعـًا خاصًـا بـه وحـده، يديـره بطريقتـه. سيسـأًل الموسـيقي ومـن معـه، وسـيتريث عـدة أيـام وأســابيع؛ كي يعـرف المدينـة والنـاس، ومـا الأنسـب لـه.

* * * *

 رســت الباخــرة بمينــاء الــدار البيضــاء. نزلــوا وتجولــوا في شــوارع المدينـة وزنقاتهـا. بالمدينـة كثـير مـن الفرنسـيين وجنسـيات أخـرى .

تنــاول بورديــن وريتــو والموســيقي ومــن معــه الطعــام في أحــد المطاعــم. أثنــاء سـيـرهم أشار الموســيقي إلى حــي مهجــور وقــال: ـ هذا حي بروسبر. منـذ سـنوات ليسـت بعيـدة وقبـل أن يتـم نقلـه لمـكان آخـر كان هـذا الحـي يمتـلئ بالفتيــات والنســاء: فرنســيات، أســبانيات، مغربيــات وغيرهــن. معظـم الجنـود الفرنسـيين والرجـال مـن مختلـف الأماكـن، قصـدوا هـذا الحـي لقضـاء أوقـات مرحـة بـين مقاهيـه ومطاعمـه وحماماته ومتاجـره ودور السـينما بـه.

جلهـم دخلـوا الحـي كذلـك؛ لإشـباع رغباتهـم ولذائذهـم الجسـدية .

الآن صـار مكانـًا خربًـا وكئيبًـا.

ـ للأسف . خرجت الكلمة من فم بوردين باللغة الفرنسية.

مسـاء ذهبـوا إلى نـادٍ ليـلي في وسـط المدينـة. النـادي فيـه قاعـة كبـيرة للرقـص.

جلسـوا في ركـن مـن القاعـة. بورديـن يـرى ويسـمع ما يـدور حولـه بتركيـز وانتبـاه. الموسـيقى قـال لبورديـن هامسـًا: هنـاك قاعـة في الطابـق الأرضي لعـرض الأفـلام الخليعـة. ابتسـم بورديـن ولم يعلـق .امتـدت الجلسـة حتـى منتصـف الليـل .

قامـوا بعـد ذلـك وتوجهـوا صــوب فنــدق قريــب؛ لينامــوا. اشـتـرك بورديــن وريتــو بغرفــة واحــدة، والباقــون ســاروا إلى عــدة غــرف. قبــل أن يخلــدا للنــوم حـاول ريتـو استكشـاف ما يـدور في رأس صديقـه، ولمـاذا كان صامتـًا طـوال الوقـت.

إجابـة بورديـن كانـت هكـذا: تمنيـاتى لـك بأحـلام سـعيدة.

* * * *

في اليـوم التـالي كانـت الباخـرة تبحـر صـوب طنجـة. خـلال تنـاول الطعـام سـأل بورديـن الموسـيقي عـن مـكان جيـد للإقامـة بطنجـة، فـرد قائـلًا إنـه وصديقـه ريتـو سـيكونان في ضيافتـه حتـى يسـتطيعا إيجـاد مـكان مناسـب. شـعر بورديـن بالراحـة والهـدوء. هـو يحتـاج إلى وقـت؛ ليعـرف المدينـة. ـ شـكرًا ونرجـو ألا نثقـل عليـك. لـوح الموسـيقي بيـده بمـا يعنـي، لا عليـك، وقـال إن بيتـه مفتـوح للجميـع، وإنهـم سـيعرفان مشـاهير المدينـة وساسـتها ومـن يديـر شـئونها.

* * *

 بعـد يومـين مـن الإقامـة في بيـت الموسـيقي الـذي يقـع قريبـًا مـن وسـط المدينـة، خـرج بورديـن وريتـو ليتنـاولا وجبـة غـداء وقهـوة في مقهـى يطـل عـلى البحـر. أثنـاء سـيرهما كان يشـاهدان المغاربـة والأوربيــين والأفارقــة، يسـيـرون بالشــارع، يجلســون في المقاهــى وتتجاور حوانيتهــم في الأســواق حيــث يعملــون معـًـا بسلاســة وانسـجام.

وصـلا للمقهـى وأشـار بورديـن للنـادل فجـاء مسرعـًا. أبلغــه ما يريــدان. ضمــن مــا يعجبــه في هــذه المدينــة أن اللغــةً ليسـت حاجـزًا أو مشـكلة في التواصـل. أكثـر مـن نصـف السـكان يتكلمــون الفرنســية والأســبانية ويفهمــون الإنجليزيــة.

جـاء النـادل ثانيـة ليضـع الطعـام عـلى المائدة. يـأكلان وهـم ينظران صــوب الشــاطئ والأفــق البعيــد، حيــث يلتقــى البحرالمتوســط والمحيـط الأطلـسى. مـن مكانهـما يسـتطيعان رؤيـة معـالم مدينـة طريفـة.

ـ أشـعر أنـك وصلـت لقـرار. يقـول ريتـو وهـو يحتسـي رشـفة مـن فنجـان القهـوة مـع ابتسـامة ماكـرة.

ـ نعم أيها الثعلب.

 ـ إذن وجدت فكرة مشروع ما. يضيف ريتو بصوت مرتفع مرح.

ـ نعم.

انتهيـا مـن تنـاول الطعـام واحتسـاء القهـوة. غـادرا المقهـى واقتربـا مـن الشـاطئ. يسـيران معًـا ويتابعـان الرجـال، النسـاء، الأطفـال وهـم يسـبحون ويسـتجمون على الرمـال. مراكـب صغيـرة بأشرعـة بيضــاء في البحــر. معظــم المراكــب فيهــا رجــل وامــرأة أو رجــل وامرأتـان. المراكـب تتحـرك في دوائـر يمينـًا ويسـارًا. ركابهـا يصيحـون عــلى بعضهــم البعــض وعــلى مــن يسـتحم بمحاذاتهــم ببهجــة ودعابـة. فكـر بورديـن في مشروعـه كثيـرًا حتـى وجـد مـا يناسـبه : فنـدق

.نعـم فندق.

هـذا مشروعـه.

السـياحة في طنجـة مزدهـرة. جنسـيات عديـدة تـزور المدينـة مـن خـارج المغـرب ومـن داخلهـا. كـما أن البحـارة الذيـن يعملـون وتتوقـف بواخرهـم وسـفنهم ليـوم أو أكـثر في المينـاء يحتاجـون مكانـا يقضـون فيـه أوقاتهـم ويسـتمتعون. لكن أى نـوع مـن الفنـادق سـيكون فندقـه؟، لاحـظ ورأى عندمـا كان في الـدار البيضـاء إنهـم ذهبـوا لمـكان للطعـام، وثـانٍ للـشراب، وثالـث للرقـص والغنـاء.

لمـاذا لا يكـون في مـكان واحـد أو مبنـى واحـد كل هـذه المتـع: رقـص وغنـاء ونـوم وطعـام وشراب وجنـس لمـن يريد؟، وسـيكون فندقـه هـذا مثـل بلـده: عـلى الحيـاد. سيـرحب بالجميـع، كلنـا بـشر في النهايـة. حـدث نفسـه.

ـ فيمَ تفكر؟ يسأل ريتو واضعًا يده على كتفه.

ـ في مشروعي ومدى وكيفية تنفيذه على أرض الواقع. لم يعتـرض ريتـو ولم يتحمـس. يعـرف صديقـه جيـدًا، عندمـا يتخـذ قــرارًا أو يبــدأ عمــلًا مــا، يكــون بعــد تفكيــرٍ وتــروٍ. لكــن يجــب مناقشـة الأمـر مـع الموسـيقي وأخـذ نصيحتـه. إقامتـه في المدينـة وعلاقاتــه ستســاعد. قــال ذلــك لصديقــه وهــما يبتعــدان عــن الشــاطئ في طريقهــم لقلــب المدينــة.

* * *

 مســاء كان هنــاك حفــل. الجو يشــع بالمــرح والحبــور. الضحــكات تسـمع في أرجـاء البيـت مـع موسـيقى خافتـة. بورديـن يمـر بـين المدعويــن باحثـًـا عــن ريتــو، لكنــه لا يــراه. تقـتـرب منــه زوجــة الموســيقي، تحييــه بلطــف وتســأله عــن زوجهــا.

ـ لا أعـرف أيـن هـو. تظهـر علامـات الضيـق عـلى وجههـا القلـق.

تعبــث أناملهــا بشــعرها القصيــر وتجيــب عــن ســؤالها بنفســها: حسـنًا، ربمـا مـع صديقـه المغـربي، صـارا لا يفترقـان.

لم يعلـق بوردين .

يعـرف أن الموسـيقي وبعضًـا ممـن حولـه لهـم ميـول مثليـة.

زوجتـه هـي الأخـرى سـحاقيَّة، وكلٌ منهـما يعـرف ميـول الآخـر وارتضيـا بذلــك.

علاقــة زواجهــما لهــا طابــع خــاص. بورديــن يقــدر هــذه العلاقـة ويقبـل اختيـارات ورغبـات وميـول النـاس.

هـو أيضـًا لـه علاقاتـه وأسراره. كـما أن الجـو العـام في المدينـة يسـمح بعلاقـات كهــذه. هــذا ليــس مهــمًا الآن . الموســيقي وعــده أن يعرفــه بشـخصيتين ستسـاعدانه في مشروعـه، أيـن هـم؟، لم ينتظـر بورديـن طويـلًا، ظهرالموسـيقي في صالـة البيـت الكبيـرة ومعـه ثلاثـة رجـال . قـدم اثنـين منهـم إلى بورديـن.

ـ هـذا إليـاس وهـذا مهـدى وهـذا هـو السـيد الـذى حدثتكـم عنه .يقـول مبتسـمًا، واثقـًا، وراضيًـا عـن نفسـه؛ لقدرتـه عـلى مسـاعدة الآخريـن وتذليـل العقبـات لهـم. يمـد بورديـن يـده لهـم محييـًا مبتسـمًا. يتركهـم الموسـيقي ويذهـب مــع الرجــل الــذى كان ينتظــره. دون مقدمــات يخبرهــم بورديــن عـن مشروعـه ورغبتـه أن يجـد عقـارًا في وسـط المدينـة، ومـن عـدة طوابـق.

إليـاس يبلغـه بوجـود بيـت بهـذه المواصفـات ملـك أسرة أسـبانية تـود بيعـه. حسـنًا، متـى يمكننـا أن نذهـب ونتحـدث مـع هـذه الأسرة. أجـاب إليـاس بحـماس: ـ الآن يمكننـى الاتصـال بهـم وتحديـد موعـد. هـذا هـو الرجـل الـذى أريـد، قـال بورديـن في سره بعـد أن سـمع سرعـة رد إليـاس وحماسـه. ثـم قـال وهـو يوجـه حديثـه هـذه المـرة لهـم: إذن لنجـد محاميـًا؛ للتوثيـق والتثبـت مـن صحـة البيـع والإجـراءات القانونيـة. ابتسـم مهـدي وقـال بثقـة، : أنـا ذلـك المحامـي، لا تقلـق.

ـ حســنًا، لنبــدأ العمــل. قــال بورديــن بصــوت ينــم عــن الــرضا والتفــاؤل والشــعور إنــه في الطريــق للهــدف.

 * * * *

بعـد انتهـاء إجـراءات البيـع والـشراء وبعـد توثيـق العقـود، شرع بورديــن ومعــه إليــاس ومهــدي وريتــو ومجموعــة مــن العــمل، في ترميــم وتصليــح وإدخــال تعديــلات وتبديــلات عــلى البيــت؛ ليتـلاءم ويتناسـب مـع ما خطـط لـه بورديـن.

الطابـق الأول سـتكون بـه صالـة اسـتقبال. عـلى الجانـب الأيمـن منهـا نـادٍ ليـلي صغيـر، الجانـب الأيسـر مطعـم متوسـط الحجـم .

الطابـق الثـاني سـيقطع جـزءًا منـه لتصميـم حانـة، تقـدم الـشراب والمـزات بأسـعار تناسـب الجميع، خاصـة السـكان المحليـين. سـيقيم لهـم فردوسًـا صغـيرًا، يحجبهـم كسـتار عـن الفقـر والفـوضى والعنـف في الخـارج. أمـا باقـى الطابـق الثـاني و حتـى نصـف السـادس، سـيصبح غرفـًا للنـزلاء. إقامته ستكون في النصف المتبقي من السادس.

قبــل يــوم الافتتــاح صعــد بورديــن وريتــو إلى ســطح الفنــدق .جعلهــما المشــهد يسـتـرخيان بعــد تعــب ومشــقة إعــداد وفــرش الفنــدق وبنــاء المصعــد الكهربــائى الــذى اســتهلك وقتــا ومــالًا. يشـاهدان عـلى مرمـى البـصر بيوتـًا بيضـاء وسـماء زرقـاء وأفـق بحر طنجـة الفريـد. في الشـارع سـيارات ونـاس وأشـجار وهـواء يتلاعـب بالملابـس المعلقـة لتجـف. لكـم هـي رائعـة هـذه المدينـة! يـسرح بورديـن ويسـأل نفسـه، لمـاذا لم يـأت إلى هنـا مـن قبـل؟، هـل كانت المدينــة في المــاضي أفضــل أو الآن أجمــل أو بعــد ســنوات ســتكون أحسـن؟، لم يصـل لإجابـة محـددة، إلا إنـه مقتنـع أن أنسـب وقـت للمجـىء، الوقـت الـذى جـاء فيـه، وأن المدينـة سـتجذب النـاس إليهـا بجمالهـا وموقعهـا وغموضهـا.

ـ هــل أنــت جاهــز للمنافســة؟ يســأل ريتــو بورديــن بطريقــة تجمــع بــين الجــد والدعابــة.

ـ أى منافسة؟ يجيـب بورديـن بسـؤال متفحصـًا وجـه ريتـو, فيعيـد ريتـو السـؤال لكـن بطريقـة أخـرى أكـثر تحديـدًا.

  ـ أنـت تعلـم أن فندقـك في مـكان مـلئ بـدور السـينما والمقاهـي والمطاعـم، كذلـك الفنـادق، أقصـد مـا الجديـد الـذي سـتجذب بـه الزبائـن؟ كان بورديـن أعـد عدتـه وفكـر بعمـق فيـمَ ذكـره ريتـو .أولى الخطـوات أن الزبـون سـيجد مكانـًا للنـوم والطعـام والـشراب والمتعـة في نفـس البنايـة ولـن يحتـاج للذهـاب لمـكان آخـر. ثانيـة الخطــوات، الأســعار الثابتــة والرخيصــة، الخطــوة الثالثــة عمــل شـبكة علاقـات داخـل المدينـة مـن خـلال الموسـيقى، الرابعة، وهنا توقف بوردين وسأل ريتو :ـ متى ستسافر؟ ضحـك ريتـو وربـت عـلى كتـف صديقـه وقـال:

ـ أخبرتـك لكنـك نسـيت في حومـة الإعـداد للفنـدق، لقـد حجزت للسـفر بعـد الافتتاح.ـ حســنًا، أريــدك عندمــا تلتقــى أصدقــاءك ومعارفــك ســواء في ســويسرا أوخارجهــا، أن تخبرهــم عــن الفنــدق ومــا يتمتــع بــه مـن مزايـا، كـم أريـدك، وهـذا عـلى حسـابي أن تنـشر في الصحـف والمجــلات إعلانــًا عــن الفنــدق. ـ ثم ؟، قال ريتو.

ـ لا شىء آخــر ســوى أنى ســأفتقدك كثـيـرًا . قــال بورديــن متأثــرًا وصادقـًـا. فابتســم ريتــو وعانقــه بحــرارة.

 * * * *

بعــد عــدة شــهور مــن الافتتــاح، صــار الفنــدق معروفـًـا، وحركــة الدخـول والخـروج منـه باتـت مألوفـة. الزبائـن يقضـون السـاعات بـل الأيـام فيـه مـن غـرف نومهـم للمطعـم، مـن المطعـم للنـادي الليــلى، مــن النــادي للحانــة، وكأنهــم في حلــم جــذاب .

أصبــح بورديــن بــدوره لا يخــرج مــن الفنــدق إلا للـضـرورة، كــما أثبــت مهـدي حنكـة في الإدارة وخـبرة بمعرفـة الشـؤون القانونيـة. وفيـما يتعلـق بالرجـل الثـاني إليـاس، فـلا يمكـن الاسـتغناء عنـه. 

إليـاس لا يعـرف فقـط شـوارع ومقاهـي وفنـادق وزنقـات طنجـة وأسـواقها، بـل الحمامـات والبيـوت السريـة والعلاقـات بـين زوجـات أغنيـاء المدينـة ومـن يديرونهـا وبـين عشـاقهن. موسـوعة تحـوي كل شىء، تقريبــًا، عــن طنجــة العلنيــة والسريــة وعــن حاضرهــا وماضيهــا القريــب والبعيــد.

ومــن بــين ما حــكاه لــه إليــاس، إنــه في الزمـن القديـم كانـت هنـاك منطقـة، يلتقـي ويتجمـع عندهـا الرجـال والنسـاء ويختلطـون ببعضهـم البعـض تحـت جنـح الظـلام ويطلقـون لغرائزهـم العنـان.

لكـن ورغـم مزايـا إليـاس وحبـه للفنـدق ولعملـه، فإنـه كان يظـل بالسـاعات في الحانـة، يحـب الحانـة أكثـر مـن سـائر أماكـن الفندق. يعلـم بورديـن أن الفتيـات والنسـاء الـلائى يتـرددن عـلى الفنـدق والنــادى الليــلي والحانــة عــلى وجــه الخصــوص، أن لإليــاس دورًا أسـاسيًّا في مجيئهـن.

اسـتطاع عـبر معرفتـه بعـدد مـن النسـاء الخبـرات الـلائى يعرفـن بحدسـهن الأنثـوي ومـن مخـزون تجاربهـن في البيـوت والحمامـات وصالونـات الحلاقـة والتجميـل وفي حوانيـت بيـع ملابـس وعطـور النسـاء، مـن عندهـا الاسـتعداد والرغبـة والطمـوح لحيـاة مختلفـة ومغامـرات بعيـدًا عـن الأنظـار. ليـس فحسـب الفتيـات والنسـوة مـن أسر فقيـرة، بـل مـن ينتمـين أيضـًا لأسر معروفـة وثريـة.

كان بورديـن هـو مـن تكلـم مـع إليـاس عـن هـذا الجانـب مـن سياسـته ورؤيتـه لإدارة الفنـدق، تحـدث معـه عـن رغبتـه في أن يكـون الفنـدق مكانـًا لهـروب الأزواج مـن ملـل الزوجيـة، ومكانًـا لتحررالزوجـات مـن قيـود الـزواج والمجتمـع .

بورديـن يعتقـد أن الجنـس عمليـة بـين رجـل وامـرأة لإشـباع رغبـة الرجـل الجنسـية ولسـد احتياجـات المـرأة الاقتصاديـة في الأسـاس .

كــما أنــه تيقــن ومــن خــلال خبرتــه وعلاقاتــه أن الحبيبــة حتــى ولـو كانـت لا تـرى أحـدًا في العـالم إلاك ويمكـن أن تفديـك بحياتهـا لـو تعرضـت للخطـر، فإنهـا تريـد هـي الأخـرى شـيئًا مـا: دعـوة عــلى العشــاء، أو زيــارات للمســارح ودورالســينما وأماكــن اللهــو وهدايــا في أعيــاد الميــلاد. أليســت كل هــذه الدعــوات والزيــارت تحتــاج لأمــوال؟، الأســوأ مــن كل هــذا، الــزواج.

يختــار الرجــل امـرأة ويتزوجهـا، ويعمـل ليـل نهـار كالعبـد مـن أجـل إرضائهـا .

أليــس مــن الأفضــل والأجــدى وتوفـيـرًا للوقــت والمــال، أن يختــار امــرأة لوقــت قصـيـر، يدفــع ويســتمتع، بلا منغصــات ولانــدم و إهـدار لوقتـه وحياتـه. لكـن الأهـم مـن كل هـذا أن تشـعر كل مـن تدخــل للفنــدق والنــادي الليــلي والحانــة، أنهــا جــاءت برغبتهــا وأنهـا سـعيدة وتسـتمتع بمـا تقـوم بـه، كـما أنهـا حـرة في عقدهـا اتفاقـًا مـع رجـل بإرادتهـا ودون إجبـارولا إلـزام .

هـذا مـا تحـدث بــه وأراد أن يفهمــه ويســتوعبه إليــاس، لكنــه يطيــل المكــوث في الحانــة، وأحــد العاملــين أبلغــه بتجــاوزات إليــاس مــع الفتيــات والنسـاء.

هـو لطيـف معهـن، طيـب، مـرح، يلقـي النـكات، يرقـص ويغنـى بطريقتـه ويضفي المـرح في الحانـة. لكنـه يتـمادى ويقـترب أو يلتصــق بالفتيــات والنســاء. يقبلهــن، يحتضنهــن، يتحسســهن ويصفعهــن عــلى مؤخراتهــن، خاصــة وهــن عــلى وشــك مغــادرة الحانـة مـع صديـق أوزبـون إلى الخـارج أو لإحـدى غـرف الفنـدق. الفتيـات والنسـاء لم يشـتكين، لكـن مـن أعلمـه قـال إن بعضهـن كـن غيـر مرحبـات ومتضايقـات. 

بورديـن لم يقـرر بعـد، مـاذا سـيقول أو يفعـل، وهـل ما يقـوم بـه إليــاس يســتحق اللــوم، أو هــو بمثابــة جــزء مــن ثقافــة الســكان المحليـين؟، عـلى أيـة حـال لـن يتوقـف طويـلًا عنـد هـذا الموضـوع، ما دامـت ليسـت هنـاك شـكاوى مـن الفتيـات والنسـاء. لكنـه فكـر أن يتكلـم مـع إليـاس لاحقـاً، كذلـك سـيكلفه بأعـمل أخـرى إضافـة لعملـه في الحانـة.

 * * * *

ذهـب بورديـن إلى بيـت الموسـيقي بعـد أن تلقـى اتصـالًا منـه، يدعـوه لحفلـة صغيـرة. رغـم انشـغاله لم يسـتطع رفـض الدعـوة أو تأجيلهــا ليــوم آخــر. ذلــك يرجــع لتقديــره لصاحــب الدعــوة وعرفانـًا لمـا أسـداه لـه مـن مسـاعدات، أيضـًا لمـا يضيفـه لقـاؤه بالموسـيقي وزائريـه إليـه مـن معلومـات، عـَمَّ يحـدث في المدينـة، خاصـة الجديـد مـن القوانـين وما يـدور داخـل الغـرف المغلقـة لمـن يديـرون المدينـة. عندمـا دخـل للبيـت شـعر أن هنـاك شـيئًا غـير عـادي. تجـلى ذلـك في الوجـوه : إنصـات بانتبـاه لمـن يتكلـم، خاًصـة مـن يعملـون في المؤسسـات التـي تديـر المدينـة.

كـما أن عـددًا مـن أصحـاب الأعـمال والـشركات وأشـخاصًا ممـن يعملـون في مناصـب مهمـة في مينـاء طنجـة، يتكلمـون ويتهامسـون مـع بعضهـم البعض .

شــعر بورديــن أن شــيئًا حــدث أو ســيحدث. بعــد دقائــق ظهــر الموسـيقي ومعـه صديقـه المغـربي. أتى إليـه محييـًا، مبتسـمًا، وهادئـًا.

ـ شكرًا لحضورك . قال الموسيقي بعد أن صافح بوردين بحرارة.

ـ يسـعدني أن أحضـر وأراك. قـال بورديـن ونظـر حولـه بسرعـة ثـم سـأل عـن ما يجـري.

ـ لا تشـغل بالـك، الأمـر بسـيط، هنـاك أنبـاء عـن إلغـاء الحمايـة عـلى طنجـة. لم يعلـق بورديـن، لكنـه رغـب في معرفـة المزيـد، فتحدث الموسـيقي بحنكــة قائــلًا إن هــذه الأشــياء تســتغرق وقتــًا، وإن المؤسســات والمجتمـع في طنجـة لـن يتغـيروا بـين يـوم وليلـة .

والأهـم أن مـن سـيحكم ويديـر طنجـة ليـس شـيوعيًّا، قـال الكلمـة الأخـيرة ضاحـكًا وهــو يربــت عــلى كتــف بورديــن متمنيـًـا لــه الاســتمتاع بوقتــه والاسـتمرار في تطويـر مـشروع فندقـه الناجـح.

قـرر بورديـن ومنـذ مجيئـه للمدينـة، أن يلتـزم الحيـاد، مؤمنًـا عـن قناعـة أن مـن يعانـد النظـام الاجتماعـي ويقـف ضـده لا ينجـح، وأن الحكيـم مـن يلـين ويطيـع شرائـع البـلاد ويخضـع لهـا، حتـى لا يصطـدم بمـا لا يحمـد عقبـاه. وفيـما يخـص فندقـه ومـن هـم في مثـل حالتـه، لا يعتقـد أنهـم ســوف يتأثــرون كثـيـرًا، فالنــاس لــن يتوقفــوا عــن الأكل والــشرب والبحــث عــن مــكان يســتمتعون فيــه ويحصلــون عــلى لذتهــم. فندقــه أحــد هــذه الأماكــن، وبعــد تلــك المــدة مــن العمل، هــا هـو يـرى ويسـمع، ممـن يتـرددون عـلى الفنـدق لفـترات قصيـرة أو طويلـة، أنهـم عثـروا عـلى غايتهـم ويحسـون أن الزمـن توقـف وأن فتـرة الطعـام والـشراب ومصاحبـة فتـاة أو امـرأة مـن النـادي الليـلي أوالحانـة إلى إحـدى غـرف الفنـدق بمثابـة دقائـق خالـدة مـن النشـوة واللـذة

. * * * *

حركــة لا تنقطــع في الفنــدق وملحقاتــه : النــادى الليــلى، المطعــم ،والحانـة. يحـب بورديـن يـوم السـبت. يمتـلئ الفنـدق ويـأتى الزبائـن مـن المدينــة ومــن خارجهــا. يشــعر بطاقــة جديــدة وغبطــة ويتحــرك في أنحــاء الفنــدق كراقــص باليــه. في هــذا اليــوم يقــف في صالــة الاســتقبال. أحيانــًا يحــل مــكان مهــدي. يــرد عــلى التلفونــات، يحجـز غرفـًا للزبائن، يفحـص دفـتر الاسـتقبال، ويراجـع الحسـابات .

في منتصــف النهــار يصطحــب إليــاس لــشراء الاحتياجــات ومــا يلــزم .

يمــران عــلى أصحــاب الحوانيـت وبائعـي اللحـوم والأسـماك والخضـراوات والفاكهـة. وهـما سـائران يتذكـر بورديـن مـا أخـبره بـه أحـد العاملـين عـن ما يفعلـه إليـاس في الحانـة، فيسـأله مزيـدًا مـن المعلومـات ثـم يطلـب منـه الحـذر وألا يضايـق الفتيـات والنسـاء. ضحــك إليــاس وقــال إنــه عــلى درايــة بطبائــع النســاء، ويعــرف كيـف يتعامـل معهـن، ومـا يقـوم بـه يعجبهـن ويدعـم عودتهـن للمــكان .

في أحايــين يقــدم لبعـض الفتيـات والنسـاء، زجاجـة بـيرة، كأس خمـر، أو صحنـًا صغيـرًا فيـه شرائـح لحـم البقـر أو الدجـاج؛ كنـوع مـن الرشـوة لجذبهـن للمـكان ومسـاعدتهن.

وكى يؤكـد لبورديـن عـلى حسـن نوايـاه، وعلى أنـه يعمـل حبـًا فيـه وفي الفنـدق، يخـبره عـن فتيات ونسـاء يسـألنه النصيحـة، في ما يتعلـق بزبائـن رجـال.

هل يجلسـن مع هـذا الزبون أم لا، وهـل هـذا الزبـون كريـم. وهنـاك فتيـات يفضلـن أن يكـن عــذروات، لــذا فهــن يســألنه،عن مــا إذا كان هــذا الرجــل أوذاك ،هادئـًا وغيـر عنيـف أم لا، حتـى لا يفقـدن غشـاء بكارتهـن. ثـم حـكى أنــه في إحــدى المــرات، ودون قصــد، كان في الطابــق الثالــث مــن الفنـدق، وعنـد مـروره جـوار غرفـة سـمع امـرأة ورجـلًا بالداخـل .

كانـت المـرأة غاضبـة وتصـرخ. ـ جعلتنى أنزف. ـ ربما عندك الدورة. ـ لا، لو الدورة عندي ما كنت خرجت من البيت.

ـ أنا لم أفعل شيئًا بعنف.

ـ لا فعلـت، لقـد شـعرت بعضـوك اللعـين وهـو يحتـك بقـوة بـشىء مـا بداخـلى. هنـا غضـب الرجـل واحتـد وعـلا صوتـه:ـ أنـت امـرأة نحيفـة، ضعيفـة الجسـم ومخادعـة. توقـف إليـاس عـن الحـكي بعـد أن أسـكته بورديـن بحركـة مـن يـده . صمـت قليـلًا وهـو يفكـر، ثـم أصـدر أمـرًا إلى إليـاس:

ـ  يجـب أن نوظـف حارسـًا؛ حتـى نتفـادى أيـة مشـاكل أو منغصـات في الفنـدق.

* * * *

في يـوم مشـمس بهيـج، دخـل الفنـدق ريتـو ومعـه وفـد سـياحي مكـون مـن ثـلاث نسـاء وأربعـة رجـال . تبـادل التحيـة والعنـاق مـع بورديـن ثـم عـرف أفـراد الوفـد بـه وعرفـه بهـم. الزيـارة لم تكـن مفاجئـة. علـم بهـا منـذ أسـبوع، عندمـا راجـع رسـائل البريـد ومجـلات وجرائـد تأتيـه مـن الخـارج.

رغـم طـول الرسـالة التـي حـكى فيهـا ريتـو عـن أشـياء شـتى، ومنهـا كسـاد سـوق العقـارات وأنـه يريـد أن يكـون معـه في طنجـة لفتـرة طويلـة، لكـن لم يحـدد يــوم وصولــه. بعــد تســجيل أســماء الوفــد وإعطائهــم مفاتيــح غرفهـم، دخـل بورديـن وريتـو المطعـم. تنـاولا الطعـام معـًا وهـما يتحدثـان عـن الفنـدق وسـويسرا وطنجـة. بعـد ذلـك خرجـا مـن الفنــدق وبصحبتهــما ثلاثــة مــن الوفــد لزيــارة غابــة الرميــلات .

انحـشروا جميعـًا في سـيارة بورديـن وهـم يبتسـمون بمـزاج رائـق .

بعـد أقـل مـن نصـف سـاعة وصلـوا. أوقـف بورديـن السـيارة في مـكان قريـب مـن مدخـل الغابـة.

بعـد أن سـاروا عـدة أمتـار، أغمـض ريتـو عينيـه واستنشـق بعمـق الهـواء النقـى الممـزوج برائحـة البحروأشـجار ونباتــات الغابــة.

حالــة مــن الانبهــار والسرور بالمناظــر وإطلالــة الغابــة الفريــدة عــلى البحــر تســيطر عليهــم. التقــط ريتــو والآخريون، صـورًا لأشـجار البلـوط الفلينـي والأكلبتـوس والصنوبـر المثمـر. كانـت تُسـمع في أرجـاء الغابـة أصواتـا لطيـور وحيوانـات وحـشرات . بعـد تجـوال طويـل، جلسـوا عـلى مقاعـد مصنوعـة مـن جــذوع الأشــجار قبالــة البحــر.

ـ هـذا أجمـل مـكان في العـالم .قـال ريتـو معـبرًا عـن نفسـه ومـن معـه. بورديـن أراد مشاكسـته: ـ لست أول من قال هذه الجملة. ـ من قالها قبلي؟ أشـار بورديـن تجـاه قصـر بنـاه برديكارليـس، الـثري اليونـاني الأصـل، الأمريـكي الجنسـية .

بنـاه مـن أجـل زوجتـه وحبيبتـه، قـال لهـا إنـه سـيبني لهـا قـصرًا في أجمـل مـكان في العـالم. ـ إذن لنذهب إلى هناك. علق ريتو متحمسًا وهو يحث من معه ليتبعوه.

 * * * * *

عندمـا رجعـوا للفنـدق، توجهـوا للمطعـم وتناولـوا وجبـة شـهية معًـا. بعدهـا كانـت هنـاك جلسـة خاصـة تجمـع ريتـو ببورديـن .تمعـن ريتـو في وجـه صديقـه، الـذى ظهـرت عليـه التجاعيـد .

في الغابــة لاحــظ أيضــًا أن جســد بورديــن لم يعــد مفعــم بالحيويــة والنشـاط كالسـابق. رآه يضغـط عـلى نفسـه؛ ليجاريهـم في السيـر هنــا وهنــاك. عنــد صعــود التــلال الصغـيـرة أو عبــور الجســور الخشـبية، كان يتنفـس بصعوبـة ويلهـث ويعـرق .

يبـدو أن السـنين والمجهـود الكبيـر في العمـل، لهـما دور في هـذا. أو ربمـا خلـل مـا في القلـب . والـد بورديـن رحـل بعـد مشـاكل في القلـب. لكـن مـا لم يعرفـه ريتـو، أن بورديـن شـعر منـذ فـترة بالوهـن والضعـف وأن الطبيــب حــذره مــن المجهــود الكبـيـر، وأن الرســالة الأخـيـرة التـي وصلتـه مـن ريتـو، يخـبره فيهـا بزيارتـه ؛ دفعتـه للتفكـر في تنفيـذ مـا خطـط لـه.

ـ ريتو أحب أن أقول لك شيئًا.

ـ أنا من يريد أن يقول لك شيئًا. ابتســم بورديــن ومــد يــده وأمســك بيــد ريتــو وقــال :ـ أعــرف ما الــذى ســتقوله، أظنــه شــيئًا يتعلــق بصحتــى.

ـ نعم.

ـ إذن اسمع ما سأقوله لك. قبــل أن يتكلــم دخــل مهــدي إلى المطعــم ومعــه بعــض الأوراق .توجـه حيـث يجلـس بورديـن والتمـس توقيعـه. بعـد قـراءة سريعـة لـلأوراق وقـع عليهـا، ثـم مـازح مهـدي سـائلًا إيـاه عـن إليـاس.

ـ في الحانـة أو النـادي الليـلي أو يسيـر بـين ممـرات غـرف الفنـدق، ليتأكـد أن كل شىء عـلى ما يـرام، وكي يرشـد الفتيـات والنسـاء للغرف الـلائي يبغـين الدخـول إليهـا. ضحـك بورديـن ومعـه ريتـو أيضـًا. تمنـى لهـم مهـدي ليلـة سـعيدة وابتعـد. بعـد ثـوانٍ مـن الصمـت، تكلـم بورديـن جـادًا وهـو يمسـك بيـد ريتـو بحـزم ويحـدق في عينيـه.

ـ أريـد منـك البقـاء هنـا لتسـاعدنى، فيـما تبقـى لى مـن الوقـت، ولتديرالفنــدق مــن بعــدي. لم يتفاجـأ ريتـو بهـذا . ليـس لـه زوجـة أو أولاد في سـويسرا، وعملـه في العقـارات لم يعـد عـلى ما يـرام، والأهـم مـن كل هذا، حبـه لهـذه المدينـة. لـذا لم يجـب بورديـن قائـلًا، إنـه يريـد وقتـًا ليفكـر، بـل أجـاب بسـؤال :

ـ لكـن مـا خطتـك أو مـن سـيكون معـي ؟، تنفـس بورديـن بعمـق وقـال : لقـد كتبـت وصيـة مـن أجـل هـذا.

* * *

مـرت أيـام، أسـابيع، شـهور، وسـنوات ثـلاث بعـد هـذا الحوارالمهـم بـين بورديـن وريتـو. تدهـورت في هـذه المـدة صحـة بورديـن. صـار لايـُرى في صالـة الاسـتقبال، المطعـم، النـادي الليـلي، والحانـة إلا عـلى فتـرات.

أغلـب الوقـت يقضيـه في غرفتـه يقـرأ الجرائـد والمجـلات وينتظـر أن يمـر عليـه ريتـو أو مهـدي أو إليـاس؛ ليتسـامروا معـه ويطلعونـه عـلى ما يحـدث في الفنـدق ومـا يحتاجون إليـه، ويسـألونه نصائحـه وقراراتـه. لكن ومن وقت لآخر يخرج من غرفته.

في نهـار يـوم مشـمس نـزل إلى غرفـة الاسـتقبال، رأى مهـدي وريتـو ينصتــان لشــاب يتكلــم معهــما بالإســبانية وإلى جــواره صديقتــه. كان يحـكي عـن أنـه وصـل في إحـدى الليـالى إلى مينـاء طنجـة بعـد رحلـة طويلـة.

شـعرت صديقتـه بالتعـب فطلبـت أن يقضـيا الليلـة في المدينـة قبـل مواصلـة الطريـق للـدار البيضـاء. جابـا الأحيـاء بحثـًا عـن فنـدق جيـد ورخيـص فلـم يجـدا، حتـى عثـرا عـلى هذا الفنـدق، الـذى دفعهـما لإلغـاء رحلـة الـدار البيضـاء وقضـاء الإجـازة في طنجـة.

كان الشـاب يطلـب الآن تجديـد الحجـز. رد عليـه مهـدي قائـلًا، إنـه كان يجـب أن يخبرهـم مـن قبـل، لأن هـذه فتـرة إجازات أعيـاد الميـلاد وغـرف الفنـدق محجـوزة . أجابـه الشـاب بتأثـر قائـلاً إن الموضـوع بالنسـبة لهـم ليـس تمضيـة إجـازة عيـد الميـلاد فقـط، بـل هـم في الأسـاس يسـعيان ويبحثـان عـن عمـل وإقامـة بالمدينـة .

في هـذه اللحظـة انتبـه مهـدي وريتـو إلى بورديـن الواقـف عـلى بعد خطــوات يتابــع الحوار.قبــل أن يأتيــا إليــه مرحبــين، طلــب مـن مهـدي وبإشـارة خاصـة الموافقـة عـلى تمديـد حجـز الغرفـة للشـابين. نفـذ مهـدي مـا أمـره بـه، وانصـرف الشـاب وصديقتـه وهـم راضيـان وممتنـان.

ـ كل مـا أطلبـه منكـما الآن أن تذهبـا إلى النـادي الليـلي أو المطعـم أوالحانــة وتـتـركا لى الاســتقبال . ابتســم ريتــو ومهــدي وتــركاه .

لكـن وهـم يسيـران اتفقـا عـلى أن لا يتـركاه لوقـت طويـل في صالـة الاسـتقبال؛ كي لايرهـق نفسـه وتـزداد حالتـه الصحيـة سـوءًا. لذلـك كانـا يتناوبـان المـرور عـلى صالـة الاسـتقبال، أمـا بورديـنً فـكان يفكــر بعمــق في مصـيـر الفنــدق، وما الــذى ســيحدث مــن بعــده. كتــب في وصيتــه أن ريتــو يحــق لــه ملكيــة وإدارة الفنــدق مــن بعـده.

لكـن ريتـو أصبـح متقدمـًا في العمـر هـو أيضًـا، ومسـاعديه إليـاس ومهـدي كذلـك . إذن مـاذا يفعـل؟، ومـن يمكنـه الاعتـماد عليــه في المســتقبل ؟، فكــر في دمــاء جديــدة، شــباب يتحلــون بالرغبـة في العمـل والطمـوح والانفتـاح عـلى العـالم والحيـاة في ذات الوقـت . بغتـة جمـدت سلسـلة أفـكاره وتداعياتـه تجسـدت أمـام ناظريـه صـورة الشـاب الأسـبانى وصديقتـه. ولم لا؟، حـدث نفسـه .فيهـما كل الصفـات التـي يريدهـا ويحتاج إليهـا الفنـدق للاسـتمرار. بعــد فتــرة شــعر بالارهــاق وقلــة التركيــز. ضرب الجــرس أمامــه، فجــاء أحــد العاملــين .

طلــب منــه أن يبلــغ ريتــو أو إليــاس أو مهـدي، كي يـأتي أحدهـم ليحـل محلـه في صالـة الاسـتقبال. بعـد ذلـك قـام مـن مكانـه متوجهـًا للمصعـد. عنـد بـاب المصعـد لمـح الشـاب وصديقتـه يدخـلان مـن بـاب الفنـدق ومتوجهـين صـوب المصعـد أيضًـا. عندمـا اقتربـا ابتسـم لهـما ودخـل معهـما . نظـرات وابتسـامات وحيويـة الشـاب والفتـاة جعلتـه يتذكـرالأيام السعيدة في حياته.

حدق فيهما معًا وسألهما: ـ هــل يعجبكــما المــكان؟، لم يتوقعــا ســؤال بورديــن، لكنهــما ابتســما قبــل أن يجيبــه الشــاب.

ـ لو أجبتك بنعم، فلا يكفي!

ـ ماذا تعنى ؟ ، سأل بوردين.

 ـ أعنى إننى أشعر بنفسى كطائر يحلق. شـع وجـه بورديـن بابتسـامة كبـيرة مصحوبـة بزيـادة حبـات العـرق عـلى جبينـه مـع ألم في قلبـه، غيـر أنـه اسـتجمع قوتـه وسـأل الفتـاة :ـ وأنـت ؟ مالـت برأسـها عـلى كتـف صديقهـا الـذى لـف ذراعـه حول وسـطها وقبلها.

أزاحت شعرها الذى سقط على عينيها ثم أجابت :

ـ هو يشعر كطائر، أما أنا فأشعر كوردة يحملها موج البحر. توقـف الألم ومسـح بمنديلـه حبـات العـرق عـلى جبينـه وسـألهما معـاً ذلـك السـؤال الـذى ظـل يعـده وكأنمـا لزمـن طويـل.

ـ : هـل تـودان البقـاء هنـا في هـذا الفنـدق؟، لم يجيبـا عـلى الفـور؛ كانـت المفاجـأة أكـبر مـن طاقتهـما عـلى الحلـم .

اتسـعت أعينهـما وأجابـا بعـد ثـوان وبصـوت واحـد : نعـم. توقـف المصعـد وفتـح البـاب، تطلعـا إليـه طلبـا للمزيـد، فقـال:

ـ ســأنتظركما غــدًا صباحًــا في قاعــة الاســتقبال لنتكلــم في بعــض التفاصيــل.

خـرج الشـاب والفتـاة قاصديـن غرفتهـما، تاركـين خلفهـما بورديـن وهـو يحـس برغبـة شـديدة في عـب كل هـواء بحـر طنجـة والتطلـع نحوالأفـق الأزرق اللامتناهـى.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون