فوزي وفوزية

أحمد يوسف
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

د. أحمد يوسف

منذ عدة شهور ونحن نشم عبير الهواء في حديقة بيتنا، وجدنا كائنين حيين يتحركان من بعيد كأنهما سحليتان. رحنا ندقق النظر أنا وزوجتي وتساءلنا سويا ما هذان؟ وبعد تحر وتدقيق اتفقنا على أنهما قطيطتان تتحركان حركة خائفة مذعورة وكأن نسرا من السماء سوف ينقض عليهما. اختفيا عن عيوننا ورحنا نصل خيط الكلام ولكن حركة هاتين القطيطتين مازالت تخايلنا هنا وهناك وكان السؤال أين أمهما؟ وكيف استقر بهما المقام خلف الأشجار وتحت فروع الفل والياسمين والورد في هذا المكان الذي ليس فيه إلا اللون الأخضر في صحنه وفي جوانبه؟ لم نعرف لهما أما كعادة القطة الأم التي لاتترك صغارها للمجهول. ولما كان يزور حديقتنا قفزا على أسوارها قط عظيم الجرم، قوي البنيان، ضخم الرأس، شرس غير أليف، سريع القنص، خفنا على هاتين الضعيفتين خوفا عظيما واستبدت بنا الحيرة كل استبداد. كيف نصد عنهما شر هذا القط وهما لا يألفان ولا يؤلفان، وكيف نصد عنهما غائلة الجوع والعطش وهما عمياوان درداوان؟ ولما أعيانا التفكير في شأنيهما، سلمنا أمريهما لمن قدر فهدى.

كنا كل يوم نتحسس وجودهما بين الأشجار ونظن أننا إن وجدناهما اليوم، فقد لا نجدهما غدا لأننا في عمق الليل قرب الفجر كنا نسمع صراع القطط الكبرى ومواءها المستغيث أحيانا والمنتشي أحيانا أخرى وكنا في الصباح نرى بعض آثار هذا الصراع ونتوقع أن هاتين الضعيفتين لا محالة هالكتان. وتعاقب الليل والنهار ولمسنا فيهما نموا باديا على الوجه والعينين والذيل، كما نلمسه في الحركة والعدو والتسابق. قدمنا لهما طعاما وشرابا وأريناهما من لدنا عطفا وحنانا. ابتسمنا في وجهيهما حين كانت تعن منهما أو من إحداهما التفاتة لنا أو نظرة توسل، أو شكوى لا يفصح عنها إلا انكسار نظرات العينين. صار بيننا وبينهما توقيت غير متفق عليه لكنه معلوم بيننا وبينهما واشترك معنا في هذا المشهد حفيدتاي، فنشأت شجرة المودة، وانبسط بساط الألفة واتسعت أوقات الصحبة.

اشتد عود فوزي، كما اشتد عود فوزية ولم نعد نخاف عليهما كما كنا نخاف عليهما من قبل، من سطوة الكبار من القطط. فتحنا لفوزي وفوزية الباب الخلفي للمطبخ الذي يطل على جانب من جوانب حديقة البيت. دخل فوزي وفوزية إلى شرفة المطبخ حيث الطعام والشراب والأمن والهدوء. تعود فوزي وفوزية على هذا المكان يأكلان ويشربان ويلعبان ويمرحان ، وبعد أن كانا نافرين، صارا أليفين قريبين منا يجلسان حوالينا ثم يغلب عليهما النوم فينامان.

فوزي وفوزية لا نعرف لهما أصلا ولا فصلا مثلما يعرف محبو القطط أصل القط أو القطة ومولدها وسلالتها وسيرة طباعها ونوع الأمصال للوقاية من الأمراض وماذا يأكل وماذا لا يأكل. فوزي وفوزي ليس لهما عندنا تاريخ ، ولا نعرف لوجودهما في حديقة بيتنا أصلا ولا فصلا ولا تفسيرا. ملامحهما تقول إنهما قطتان من نتاج القطط التي ليس لها بيوت تؤويها وترعاها أو كما نقول في عاميتنا المصرية ” قطتان بلدي” يعني ليسا من “أبناء البيوتات” ومع ذلك بهما وسامة ونعومة ولطف وعينان تغنيان عن كل لغات البشر في عالم البشر. فوزي أكثر ألفة ومودة وصحبة لو تركت له الحبل لايفارقك أبدا ويحرص على التودد إليك والتمسح بقدميك، وأحيانا ينتهز الفرصة ويقفز قفزة واحدة ليستقر بين يديك. أما فوزية، فعلى الرغم من طيبتها وهدوئها، لا تسمح لأحد  بالاقتراب منها أو مداعبتها مع أنها تتودد إليك وتتوسل بعينيها الجميلتين لتعطف عليها بفضل من الطعام أو الشراب. حين يقترب منها فوزي ليلعب معها تستجيب لاقترابه ولا تفرط في هذه الاستجابة إذا تمادي وسمح لنفسه باستغلال مودتها وسماحتها. فهي تنتفض فجأة وتزجره زجرة واحدة فإذا به خارج الدائرة منبوذا وحيدا.

فوزي وفوزية جعلا من حديقتنا مراحا لهما ومستراحا، كما جعلا بيتنا ساحة يطمئنان فيها كل الاطمئنان، يتجولان في أنحائه وفي غرفه، ويتخذان من أثاثه أسرة ووسائد مريحة ويخلدان إلى نوم عميق. إذا غاب فوزي أو فوزية لبعض الوقت، نبحث عنه وننتظر عودته ونمني النفس ألا تطول الغيبة. فقد تعودا أن يخرجا قفزا وعدوا لقضاء الحاجة في ركن بعيد به رمل وفير يحفران حفرة يخفيان فيها ما يعن لهما.

مع أن فوزي بلغ سن الفتوة، فإن فوزية رغم حاجتها إلى التكاثر لم يرقها أن تستجيب له ، ولم تجد هواها في وجوده ولا في عواطفه الفياضة، وآثرت غيره الذي لانعرفه عليه، فقد اختفت يوما أو بعض يوم ثم عادت وقد انطفأت نار الرغبة في التكاثر والتوالد ولا ندري ماذا صنعت ولا كيف وجدت هواها مع غيره مع أنه الأقرب لها، والألزم في كل دقائق يومها.

بعد عدة أيام تبدل حال فوزية فازدادت هدوء، وغلب عليها النوم معظم الأوقات، وتراجعت حركتها وانضبطت على إيقاع جديد وزاد وزنها وانتفخ بطنها وأيقنا كل اليقين أنها في صيرورتها إلى أن تكون أما وأن القادمين من القطط سوف يكونون غير أمهم حين كانت كائنا ضعيفا هزيلا مكشوف الغطاء من رعاية الأم وحدبها. تلك الأم التي تركت صغارها في العراء ولم نعثر لها على أثر على الإطلاق. فقد انتظرنا طويلا أن تعود إلى حيث تركتهم لتطمئن عليهم ويهدأ اضطراب قلبها ولكنها لم تفعل أبدا. وهاهي الأيام قد دارت دورتها وصارت فوزية أما بالقوة وفي طريقها إلى أن تكون أما بالفعل، فهل ستصنع بصغارها كما صنعت أمها بها وبفوزي من قبل؟

اختفت فوزية عن الأعين ولم تعد لتأكل أو لتشرب أو لتلهو كما كانت تفعل من قبل. وبعد أن بلغ اليأس مبلغا، عادت فوزية متهافتة، قلقة، زائغة العينين، منقسمة الوعي والفؤاد. فلما أكلت وشربت وهدأت تحركت بهدوء لتختفي كما اختفت من قبل وتتبعنا خطاها دون أن تشعر على الرغم من توجسها، فإذا بها تذهب إلى مكان لايخطر على بال في زاوية من زوايا مكان مخصوص بتخزين مواد وأدوات له باب به فتحات، قفزت منه ثم هوت إلى الأسفل حيث يقبع صغارها في القاع. هؤلاء الصغار لم نرهم ولم نعرف لهم شكلا. كل ما وصل إلينا منهم صوت هامس ضعيف معبر عن فرحهم أو لهفتهم بعودة فوزية إليهم. لقد انتبذت فوزية بصغارها مكانا قصيا وضربت عليهم سياجا من الغموض والسرية والكتمان، وهجرت كل هذا الاتساع الذي كانت تمرح فيه جيئة وذهابا، وآثرت عليه هذا المكان الضيق المظلم المزدحم بالمواد والأدوات، وأيقنت أن أمان صغارها أولى من الرفاهية والحرية ونعيم الأكل وبرد الشراب.

تتحسس فوزية قبل أن تخرج من مكمنها، لتتزود بالماء والطعام، وتتوزع عيونها على كل شيء في مكانها بعد أن أكلت وشربت تهيؤا للذهاب. وكلما خطت خطوة للأمام في الاتجاه الصحيح نحو صغارها، وقفت ونظرت حواليها في كل اتجاه وموهت بتغيير الاتجاه ثم تعدل عما فعلت مرة واحدة وتسرع في اتجاهها المراد لتلتقي بصغارها بعد أن در درها وفاض غذاء شهيا ثم أتتبعها لأتسمع فرحة لقاء الصغار وحبورهم بعودة فوزية إليهم.

جاء الرجل المشرف على رعاية الأشجار والنباتات وذهب إلى حيث أودع أدواته ومواده . وفي هذا المكان وفي قاعه البعيد تعيش فوزية وصغارها. مد الرجل يده إلى ما يريد من الأدوات والمواد، ففزع من صوت عنيف منبعث من القاع ورأيت الفزع مرسوما على وجهه، وقبل أن تذهب به الظنون كل مذهب، وضحت له سر الصوت المفزع، فعاد إليه هدوؤه. ولكن فوزية لم تتقبل هذا الطاريء العابر كما قبله الرجل وانتظرت حتى فرغ الرجل من عمله وانصرف وجن الليل ورحنا في سبات حتى بزوغ الفجر وأشرقت الأرض بنور ربها ودب دبيب الحياة ولم تدب فوزية وذهبت بنا مشاغل النهار كل مذهب وقرب الغروب، اقترب من آذاننا صوت عرفناه فورا. إنه صوت صغار فوزية الثلاثة بعد أن استغلت مظلة الليل وحملتهم إلى مكان جديد ليس في الحديقة أو طرف من أطرافها ولكنها اختارت أن يكون مقرهم في داخل البيت وفي بطانة أريكة من ألأرائك  التي نستريح بالجلوس عليها. هذه البطانة أسفل الأريكة  لحمايتها  كأنها وجاء ساتر. اخترقت فوزية هذا الوجاء وسربت صغارها الثلاثة بداخل بطانة الأريكة واتخذته لهم مكانا فصيا لا يخطر على بال أحد ولا يستطيع أن يتنبأ بما فعلت، ولا بكيفية دخولها أو خروجها منه. بين هذه الأريكة وبين مقعد بجانبها فراغ ضيق تستغله فوزية لتنفس الهواء والاسترخاء وربما للتودد إلينا أو مراقبة خطواتنا القادمة نحوها ونحو صغارها.

ظللنا وقتا طويلا نترقب أن تسمح فوزية لصغارها بالظهور والخروج من هذا المكمن، ولكن فوزية كانت بخيلة كل البخل علينا، وحريصة كل الحرص على هؤلاء الصغار. ولابد مما ليس منه بد. فقد ازداد نمو الصغار وازادت حركتهم، وضاق بهم المكان داخل بطانة الأريكة، ومع ذلك لم تخرج فوزية صغارها. وفي صبيحة يوم من الأيام اختفي صوت الصغار ولم نجد لهم أثرا، وتوقعنا أن تكون فوزية قد قررت أمرا ما ورأيناها في غير عادتها وفي غير المكان أسفل الأريكة وهي آيبة ذاهبة نحو ركن المصعد داخل البيت حيث اختارت فوزية المكان الجديد لصغارها وهو مكان واسع بالقياس إلى مكانها السابق في حضن الأريكة. في هذا المكان هواء وظل ونور ومراح كبير. تنام فوزية وتستلقي لتتيح للصغار الثلاثة امتصاص الغذاء من أثدائها الصغيرة المنتشرة على هيئة صف مستقيم ومتواز ولايكتفي هؤلاء الصغار بهذه الإتاحة فقط، بل يقفزون على فوزية أيضا يحتل كل صغير مساحة من صدرها أو ظهرها أو رقبتها وعيناها تفيضان بالسعادة والرضا والرحمة.

استقل الصغار قليلا عن فوزية فراحوا يمشون وئيدا هنا وهناك غير بعيد تحرسهم يقظة فوزية الحسية وعيناها اللتان لا تكفان عن الحركة والرصد والتتبع. حاول أحدنا أن يقترب من أحد الصغار، فغضبت فوزية وجمجمت وانقلبت عيناها وبرزت مخالبها وتهيأت للوثب والهجوم، فآثر الابتعاد طلبا للسلامة. لم تفعل فوزية ذلك معنا ولكنها فعلته أيضا مع فوزي وهو أخو فوزية ورفيق رحلة الوجود منذ أن كانا شيئا منسيا. هاجمته وزجرته زجرا عنيفا فتعلم بعد ذلك ألا يقترب من أحد الصغار.

ولم يرق لفوزية البقاء طويلا في هذا المكان المريح فبحثت عن مكان جديد لم يكن في حسباننا، ودائما تفاجئنا بما لم نتوقع. فقد صحبت صغارها إلى مكان بعيد في إحدى الغرف في الطابق الأخير الذي جعلناه مكانا مستقلا لمن يمكث عندنا من ضيوفنا يوما أو أكثر ومازالت فوزية تضرب حصارا منيعا على صغارها وقد كبروا وانتقلوا من طور المشي الوئيد إلى طور الجري والقفز البسيط، تبدو عليهم أمارات الطفولة السعيدة والبراءة من بعيد .فإذا حدثتك نفسك باللعب مع أحدهم فر سريعا وحضرت فوزية لتقول لنفسك لن أفعلها مرة ثانية. ولا ندري ماذا تفعل فوزية غدا؟

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون