ترجمة وتقديم: مي مصطفى
كاتبة هذا النص هي الروائية والقاصة الأمريكية (من أصل هايتي) ايدويج دانتيكا، ولدت في عام 1969 بمدينة بورت أوبرانس، هايتي. وهاجرت إلى الولايات المتحدة الأمريكية وعمرها اثنتا عشرة سنة.
الهجرة وما ارتبط بها من قضايا تمس جوهر الإنسان هي قضيتها المركزية في الكتابة منذ كانت طفلة. ودائما ما تلح علينا عبر مشروعها في الكتابة بأسئلتها الصحيحة والضرورية عن الحدود، هذه الهوة بين عالمين، عالم طارد بطبيعته وعالم يحقق فيه الإنسان كيانه ووجوده.
هذه الهوة هي تلك المساحة التي تشتغل عليها دانتيكا، وتحرك فيها شخوصها، سؤال المصير هو واحد من أسئلتها الكبرى، كما أن سؤال الهوية يكاد يسمع صداه في كل سطر لها.
وفي الحقيقة سؤال الهوية ظل يلاحقها بشكل شخصي طوال حياتها، فقد كان ينظر لها بين زملائها في طفولتها على اعتبارها لاجئة (أو امرأة القوارب بنص الكلمة) وظهرت اللغة كتعبير واضح عن تلك الأزمة في هذه الفترة من حياتها.
فقد واجهت صعوبات كثيرة في تعلم اللغة الإنجليزية، حتى تمكنت في النهاية من الكتابة بها، بل ونشر نصوص لها في الدوريات الأمريكية إبان فترة مراهقتها.
كتبت القصة القصيرة والرواية وأدب الناشئين، كما كتبت للسينما فيلمين. كما إنها ناشطة سياسية واجتماعية في كل ما يخص قضايا هايتي والهايتين.
صدر لها حوالي ثمانية عشر كتاباً بين الرواية والقصة القصيرة والمقالات وأدب الناشئين والسير الأدبية، بدأت الكتابة عام 1994 بروايتها Breath، Eyes، Memory وآخر نص نشر لها سير أدبية The Art of Death عام 2017 وترجمت أعمالها إلى العديد من اللغات نضيف إليهم العربية اليوم.
نالت العديد من الجوائز الأدبية المقدرة، مثل جائزة American Book Award عن روايتها Farming of Bones عام 1999
مازالت تعيش بالولايات المتحدة الأمريكية، وتعتبر هاييتي موطنها الحقيقي، الذي تحرص على زيارته، ودائما ما تقول”لا أشعر أني غادرته أبدا”
شروق وغروب
ايدويج دانتيكا
جاءتها مرة أخرى يوم معمودية حفيدها. لحظة ضائعة، حيز فارغ؛ هذا الشيء الذي لم تستطع كارول قياسه.. تكون موجودة بلحظة وتضيع بالتي تليها.. تعرف بالضبط أين هي الآن وفجأة تتوه. أخبرها أصدقاؤها القدامى بالكنيسة عن قصص مشابهة إبان عملياتهم الجراحية، وكيف كانوا يعدون بشكل عكسي من الرقم عشرة وأقنعة الأكسجين على وجوههم، وقبل أن يصلوا إلى الرقم واحد يكونوا قد استفاقوا، ليدركوا أن الساعات قد مضت، بل –في بعض الأحيان- أيام قد مضت في تلك المسافة. لقد أحست مثلهم واختبرت نفس الشيء أيضا.
زوج ابنتها جيمس، ذو الشعر المضفر، مدرس الرياضيات بالثانوية، يحمل حفيدها، جود، والذي ورث عن أمه: شكل رأسه الكروي، جلده البرونزي اللامع، وأصابعه الطويلة التي ما إن تحمله جدته حتى يدور بها حول ذقنها. ضحوك، كله حياة. حين يضحك يهتز جسده كله. تحدق كارول به لساعات، آملة من هذا الوجه الممتلئ أن يجلب لها ذكريات أطفالها وهم بنفس العمر، تلك الذكريات التي انقضت سريعا.
وبيوم المعمودية أيضا، كانت ابنتها جين مازالت تحمل ستين رطلا من اللحم الزائد عن وزنها، على الرغم من مرور سبعة أشهر على الولادة، انتابتها حالة من البؤس بسبب ذلك- ومن يعلم؟ بسبب ماذا أيضا- فهي تقضي أغلب أيامها مختبئة بغرفة نومها.
ومنذ أن عَلَقت جيني بتلك الحالة الواهنة، وكارول ترحب بفرصة انضمام جدته الأخرى جريس لها في ملاحظة حفيدهن، في أي وقت تطلب فيه ذلك.
تحب كارول تسلية جود بأغاني الأطفال وتلعب معه ألعاب الاختباء التي مازالت تتذكرها، من بينها لعبة تسميها (الشمس تنام.. الشمس تصحو)* والتي اعتادت أن تلعبها مع أطفالها في السابق. تغطي قفص ألعاب حفيدها بملاءة سوداء وتقول: غروب الشمس.. ثم تسحب الملاءة وتقول: شروق الشمس، وحفيدها لا يبدو عليه أي اهتمام بالأمر حتى لو خلطت الغروب بالشروق، فهو لا يعرف الفرق علي أية حال.
في بعض الأحيان، تنسى كارول من هي جريس حتى أنها تخلط بينها وبين المربية، على الرغم من أنها لا تنسى أبدا أن جريس رفضت زواج ابنها من جين، واعتبرتها غير جديرة به. وهو الاستهجان الذي أصبح له الآن ما يبرره بعدما فشلت جين في دورها كأم.
فكرت كارول: جين لم تعرف مأساة حقيقية بحياتها. أن تعيش في بلد يحكمه ديكتاتور بلا رحمة؛ شاهدت كارول رجال الديكتاتور ببزاتهم القطنية الزرقاء يلقون جيرانها خارج بيوتهم. واحدة من عماتها كادت تموت من الضرب، بعدما ألقت بنفسها على زوجها لتحول بينهم وبين القبض عليه. ترك والد كارول البلد وسافر إلى كوبا ولم يعد، منذ كانت في الثانية عشرة من عمرها. أما أمها فلم يكن أمامها سوى الخدمة بالبيوت، عند أناس يستطيعون بالكاد دفع أجرتها. صديقة كارول المقربة تعيش في الحجرة الصفيح الملاصقة لها، والتي استأجرتها من نفس المالك. وفي الليل وبينما أم كارول نائمة، تسمع كارول أم صديقتها تصرخ في ابنتها، كما لو كانت تكرها لما تمثله من عبء عليها. حاولت كارول بكل جهدها أن تجنب أبناءها حاملي الجنسية الأمريكية مشقة كل تلك القصص، وقد يكون ذلك هو سبب عدم قدرتهم في التغلب على أي نوع من الحزن. لكن ابنها بول- القس بول- لم يصل أبدا إلى تلك الدرجة، أما جين والتي سميت تيمنا بصديقتها المقربة فقد كانت كذلك.
نفسية ابنتها شديدة الحساسية، أي شيء قد يخدشها. ألا تدرك أن تلك الحياة التي تعيشها هي الحظ بعينه؟! ألا تعرف أنها استثناء بهذا العالم؟! حيث يكون من الطبيعي أن تضحى تعيساً أن تكون جائعاً أن تعمل بلا نهاية وبدون أجر، أن تكابد نزوات كل الأشياء من الطغاة إلى الأعاصير والزلازل.
- في صباح معمودية حفيدها، ارتدت كارول فستاناً أبيض مطرزاً طويلاً ذا أكمام، كانت قد نسيته. مشطت شعرها إلى الخلف وعقفته كعكة حتى لا يزعجها فيما بعد.
في وقت سابق بالأسبوع، وعبر شرفة شقة ابنتها بالطابق الثالث، شاهدت جين تغمس قدميها بالمسبح المشترك للتجمع السكني، ذات الشكل الكلوي. خطت خطوات أخري باتجاه الشرفة كي تتمكن من مشاهدة الماء، الذي استحال إلى الأزرق الداكن في آخر الظهيرة، بشكله الاستثنائي، وبالموجات الرقيقة التي انطبعت على صفحته، دون حتى أن يمسه الهواء أو الناس.
كانت جين تصيح عبر الهاتف:
– أنا لن أعمده! هذا شأنها، ليس لنا دخل به.
…………………………… .
قال جيمس:
– تقريبا انتهينا
بصوت أَرق كارول إبان استغراقها في واحد من أحلام يقظتها، وبنفس نبرة الصوت التي يتكلم بها مع جود، كان من الواضح إنها ليست المرة الأولى التي يخبرها بذلك.
لم تكن ابنتها تنظر إليها، كما لم تنظر إلى الحشد المجتمع من أصدقاء كارول. لم تكن تنظر حتى لجود، الذي تزين بلباس أبيض بسيط من قطعة واحدة- في الغالب جيمس هو من ألبسه- كانت جين تحدق في الأرضية بدلا من ذلك كله، بينما تبادل الحضور حمل جود ومحاولة الحفاظ على هدوئه بالكنيسة: كانت الأولى جريس، تلاها فيكتور زوج كارول، ثم أخت جيمس الصغيرة زوي، والتي كانت أم جود في العماد، ثم ماركوس صديق جيمس المقرب، والذي كان أبا جود في العماد .
ظلت كارول تذكر نفسها بأن ابنتها مازالت صغيرة، اثنان وثلاثون عاما فقط. حدث أن كانت جين شابة سعيدة في السابق، وقت كانت مستشارة التوجيه بنفس المدرسة التي يدرس بها جيمس. (في أول زواجهما، أطلق أصدقاؤهما عليهما( جيم أس2) ثم أصبحوا (جيم أس3) بعد إنجاب جود)
كانت كارول أحيانا ما تسأل فيكتور:
-كانت جين تحب الأطفال.. قبل أن تنجب طفلها؟.. أليس ذلك بالصحيح؟
وحينما نادى بول- خال جود- باسم جود من على منبر الوعظ، أشار جيمس إليهم بالاقتراب من الهيكل. كان بول يرتدي رداء كهنوتي أبيض طويل، خطا من المنبر خطوات إلى الأسفل، واتجه إلى جود وهو بين يدي أبيه، ورسم الصليب على جبينه بالزيت العطري، مما أصاب عين جود بالحرقة، فأطلق نواحه. تخوف بول فأخذ جود وبدأ الصلاة بصوت عالِ جدا حتى يتمكن من إسكاته، ثم وضعه بين يدي أمه بعد انتهاء الصلاة. قبلت جين جبين ابنها المغطى بالزيت، وامتلأت عيناها بالدموع ولا ندري من رائحة الزيت القوية، أم من المشاعر التي اعتملت بداخلها طوال اليوم.
كارول تعرف أن ابنتها لا تستمتع بأي من هذا، لكن مثل هذه الطقوس تجد كارول فيها راحة شديدة، ولديها من اليقين ما يجعلها مطمئنة بأن حفيدها محمي في مواجهة شرور العالم- بما في ذلك عدم اهتمام أمه-
فيما بعد.. وفي الغداء اللاحق للمعمودية بشقة ابنتها، ظلت كارول تنظر إلى جين وجيمس وهما يخرجان من حجرة نومهما. تحمل جين جود بين يديها. وكانت قد استبدلت لباسه البسيط بواحد أبسط منه، كان حتى بلا أكمام. وقفت جين عند مدخل الباب ورفعت صدار جود على وجهه وهمست:(نامت الشمس) ثم أزالت الصدار وصاحت: (صحت الشمس)
مشاهدة ابنتها تمارس تلك اللعبة مع رضيعها، جعلت كارول تشعر كما لو كانت روحها تصعد مع الصدار وتنزل، لم تقف عند تلك اللحظة بالتحديد، إنما تجاوزتها إلى لحظة أعمق في ماضيها الغائم. كما لو كانت جين هي كارول، وجيمس هو فيكتور زوجها النحيف الأنيق، والذي ينغز الآن بعكازه الأرض وهو يمشي.
فكرت كارول: إذن لم يضع كل شيء بعد. أشياء قليلة تعلمتها ابنتها منها على الرغم من كل شيء.
ثم عادت الكرة مرة أخرى، فهي بتلك اللحظة غريبة عن نفسها. ماذا لو كان هذا آخر يوم يمكن أن تتذكر فيه أي شيء؟ ماذا لو لم تستطع إدراك أي شخص مرة أخرى؟ ماذا لو نسيت زوجها؟ ماذا لو توقفت عن تذكر مشاعرها تجاهه، وكيف تصبح حين تحب؟ هذا الشعور الذي تغير كثيرا عبر السنين.
على ما يبدو أن حب ابنتها لزوجها قد تغير أيضا، على الرغم من كون جيمس كما فيكتور، رجل صبور. فهي لم تره ولا مرة ينتهر جين أو يؤنبها. لم يطلب منها أبدا مغادرة الفراش، أو أن تعير طفلهما المزيد من الاهتمام. ودائما ما يخبر أمه وكارول بأن كل ما تحتاجه جين فقط المزيد من الوقت. ولكن كم هي المدة التي يمكن لهذا النوع من التسامح أن يصمد فيها؟ كم هي المدة التي يمكن لشخص أن يحتمل فيها العيش مع آخر، يعيش بكل عقله في مساحة غادرها الحب؟
الوحيد الذي يعرف كم هي المدة في الحقيقة هو زوج كارول. فهو يخضع باستمرار للتغيرات المفاجئة بمزاجها؛ نوبات غضبها الحادة، التي دائما ما يعقبها حالة من السكون التام. يحاول دائما ولأعوام أن يساعدها في إخفاء مظاهر المرض، أو التخفيف منها بمساعدة الأحجية ومختلف الألعاب التعليمية الأخرى، بالإضافة إلى زيت جوز الهند و(أوميغا- 3) والتي تذاب في الشاي أو العصائر.
من يعثر على المفاتيح سواء كانت بحوض الاستحمام أو بالفرن أو بالثلاجة، أو بأي من الأماكن الغريبة الأخرى. هو دائما من يطفئ الأجهزة، يساعدها في إنهاء الجُمل، يلكزها برفق إذا استمرت بتكرار نفس الشيء عدة مرات. لكن اليوم الذي سوف يشعر فيه بالملل من كل ذلك قد يأتي، ويضعها ببيت يتولى فيه الأغراب العناية بها.
حينما وُلد جود، أحضر فيكتور دمية لتتمكن كارول من التدريب على العناية بحفيدها. دمية بنية لولد بوجه مستدير، وشعر مفلفل، كما لو كانت جود. حينما وضعت الدمية في حوض الاستحمام ظل شعرها ملتصقا بفروة الرأس، تماما كجود. حممت الدمية ثم ألبستها قبل النوم، وهدهدتها لتساعدها على النوم بشكل صحيح. لكن ذلك كما مرضها، ظل سرا بينها وبين زوجها، هذا السر من الواضح أنه لن يقوى على الصمود كثيرا.
كيف تصبحين أمًا جيدة؟ كانت جين تريد أن تسال شخص ما، أي شخص. كانت تتمنى لو امتلكت من الشجاعة ما يجعلها تسأل أمها هذا السؤال، قبل أن تصاب بالعته، أو أيا كان الشيء الذي تعاني منه في الأصل.
ظلت أمها ترفض إجراء فحوصات لتحصل على نتائج حاسمة، وتقبل أبوها هذا الأمر ببساطة.
أخبرها في أكثر من مناسبة:
– إن الشيء الذي لا تفتش عنه هو شيء لا تريد إيجاده.
اقترح أبوها النخب الأول في غذاء المعمودية:
– من أجل جود، من اجتمعنا هنا اليوم بسببه.
قالها بالكريولية* ثم بالإنجليزية.
مد جيمس يده بالكأس لجين، بينما كادت جين تفقد اتزانها بسبب حملها لجود. وضعت أمها الكأس من يدها ووصلت لجين وتناولت جود من يديها.
قالت كارول:
– سأقترح نخبا أنا الأخرى.
كانت جين تتخوف من أن تصدق أمها بالفعل إن جسم جود هو كأس شمبانيا. تخاف من أن تترك جود لأمها كي تحمله هذه الأيام، أن تتركهما وحدهما سويا، لكن منذ اقترابها من جيمس واستكانة جود لم تعد تمانع.
بعد النخب، اقترح جيمس على جين وأمها بعض الطعام. أومأت كارول بالموافقة، ثم سرعان ما غيرت رأيها قائلة:
– ربما في وقت لاحق.
بينما كان جود يفتش بعينيه عن كارول، حتى ركز بهما على وجهها المجعد المرهق بشدة.
كارول لا تأكل كثيرا هذه الأيام. بينما جين، على الجانب الآخر، تشعر كما لو كانت فجوة رطبة عميقة قد حفرت بجسدها، هوة سحيقة تتطلب دائما أن تملأ.
لم يصر زوجها، علي غير طبيعته. طوال العلاقة التي جمعت بينهما وفترة الزواج، لم يضغط عليها لفعل أي شيء. كل شيء يطلبه يقدمه لها في صورة اقتراح أو توصية. كما لو كان تدريبه المستمر على الصبر في المدرسة كمعلم لأولاد مشاكسين، قد جعل منه شخصا لا يخرج عن شعوره أبدا. على الجانب الآخر، كانت أمها لا تستطع السيطرة على نفسها مؤخرا، على الرغم من كونها لا تتذكر أي شيء من هذا. كانت دائما سيدة هادئة، أطيب بكل تأكيد من أم جيمس، تلك التي لا تلق بالا بجين أو كارول أو حتى جيمس نفسه.
دائما ما كانت جين تسأل نفسها: أكانت أمها أكثر سعادة في هايتي؟ هذا مثار شك بالنسبة لها. ودائما ما تخبرها أمها: لا يحق لكِ أن تكونِى تعيسة. وحدها كارول هي من لها الحق في الحزن؛ هي من رأت وسمعت أشياء مريعة.
أما أبوها فله منطق مختلف بالكلية. فهو الأكثر اهتماما بين كل من عرفتهم جين بالنشوة في المتع، أو بالمتعة في النشوة، أو على حسب ترتيبك للمفردتين. كما لو كان قد أقسم يمينا بأن يستمتع بكل لحظة في حياته- أن يلبس أجمل ثياب يستطيع الحصول عليها، أن يأكل أفضل طعام، أن يذهب كل الرقصات حيث تعزف فرقته الهايتية المفضلة.
كان عمل فيكتور في أغلب طفولة جين هو سائق حافلة، ثم بعد أن نال منه الكبر تحول إلى سائق سيارة أجرة. في الفترة بين زبون وآخر، كان فيكتور يجلس في موقف سيارات مطار ميامي الدولي، يناقش الأوضاع السياسية في هايتي مع أصدقائه سائقي الأجرة. ربما لم تكن أمها لتصل إلى الجنون لو كانت تعمل خارج المنزل. فالأسرة واللجان الكنسية هما عمل حياتها، بسبب الترف الذي استطاع فيكتور تأمينه بعمله مناوبتين في اليوم غير عمله الإضافي أيام عطلات نهاية الأسبوع. كان يمكن لكارول أن تعمل لو أرادت، كأن تدير مطعما بأي مدرسة، أو كمرافقة للكبار في السن، أو كمربية، مثلها مثل الكثير من أصدقائها في الكنيسة.
لم يكن لدى جين أي رغبة في أن تكون ربة منزل كأمها، لكنها أصبحت كذلك، علقت بالبيت مع ابنها، لم تعد تغادره كثيرا في الآونة الأخيرة، إلا لمواعيد طبيب جود. أغلب الوقت تخاف مغادرة سريرها، تخاف حتى حمل ابنها خشية أن يسقط من بين يديها، أو خشية أن تحتضنه بقوة فيختنق.
ثم جاءها الإعياء؛ إرهاق يسحقها ومجرد النوم لا يسمح لها به. إن الأمومة بدت لها كفقاعة غائمة؛ لم تعد تقدر على الخطو بما يكفي لتلف ذراعيها حول طفلها.
الغريب في الأمر حقا، إنه طفل مريح، فهو ينام الليل منذ اليوم الذي جاءت به إلى البيت، يأخذ قيلولته بانتظام. حتى المغص لم يكن يصاب به، كما إنه لم يكن صعب الإرضاء. طفل موجود بالبيت وفقط.
قرر جيمس أن يقترح نخبا هو الآخر، نقر بالملعقة على كأس الشمبانيا ليجذب انتباه الكل، وقال:
– أريد أن أقترح نخبا من أجل زوجتي، ليس فقط لكونها زوجة استثنائية وأم، لكن من أجل شجاعتها في إحضار جود لحياتنا.
لما يريد أن يفكر فيها كشجاعة؟ ربما كان يفكر بالست والعشرين ساعة التي ناضلت فيها إلى أن انتهت بالولادة القيصرية، التي سُحب فيها ابنها والحبل السري ملفوف على رقبته. أخبرها الطبيب: كاد أن يخرج جثة.
بسبب إصرارها العنيد على أن تلد ولادة طبيعية.
فترة الحمل كانت هينة إلى حد ما، خلالها مارست يومها كما ألفته حتى جاء اليوم الذي فاجأها فيه ألم المخاض. انقباضات وتقلصات قوية وحادة، لكنها ظلت محتملة حتى مع خمس وعشرين ساعة من الألم.ظلت الممرضات تردد على مسامعها:
– دائما ما تكون الولادة الأولى وكأنما تُعصرين، لكن الثانية تكون أسهل.
وقالت أمها:
– إنها محظوظة ومباركة فقد أنقذ طفلها بالوقت المناسب.
وبعد أن أنهى نخبه، طبع قبلة على خدها.
-اسمعوا.. اسمعوا
قال أخوها بصوت كهنوتي عميق.
بنفس اللحظة التقت عينا جين بعيني زوجها، تمنت لو حملت تلك النظرة شرارة جديدة، شيء مازال صامداً بينهما، بالإضافة إلي طفلهما. أحست بالرغبة في البكاء لكنها أوقفت نفسها لتخوفها من تأنيب أمها واعتبارها طفلة مدللة لا تكف عن التذمر ولا تستطع المضي بحياتها قدما. منذ إنجاب طفلها وإدراكها أن هذا الميلاد لن يكون بالضرورة مصدر لسعادتها، ومنذ أن أصبحت تعي أن عقل أمها –كما حبها- قد تسربا منها، وهي تريد البكاء، واليوم بالكنيسة كانت المرة الأولي التي بكت فيها.
في الأسبوع السابق علي ولادة جود، ذهبت كارول إلي سوق أوبا لوكا للسلع المستعملة، والذي يسميه أهل هاييتي “تي ماتش”*، أحضرت أوراق الأوكالبتوس* والبرتقال الحامض لحمام ابنتها الأول بعد النفاس. كما اشترت لها مِشد وبضعة أمتار من الشاش وخاطتها كرباط تلفه حول بطنها. لكن الولادة القيصرية تسببت في استحالة الاغتسال أو استخدام الرباط، لذا لم تعد بطنها إلى سيرتها الأولى. أصبحت جين أكثر بدانة وذلك – في حقيقة الأمر- لرفضها شراب منقوع الشمر والينسون الذي أعدته كارول وجريس لها. كما رفضت أن ترضع طفلها، وهو الأمر الذي لم يؤد فقط إلى بدانتها إنما كان من شأن الرضاعة أيضا أن تجعل حزنها أقل.
حينما كان جين وبول صغارا، لم تكن هناك أي سيدة بالجوار للمساعدة من الأصل، لذا لم تكن لدى كارول رفاهية الاستلقاء على السرير بينما يعتني الأقارب بالأطفال وبها. لقد بذل زوجها قصارى جهده؛ من إحضار أوراق الشاي وصناعته لها، حتى لقد حممها بنفسه، إلى مساعدتها في إعادة ربط شريط الشاش حول بطنها كل صباح قبل ذهابه للعمل. لكن إبان ساعات غياب زوجها كانت تشعر بوحدة موحشة وحنين للوطن وتظل في تقبيل وجوه أطفالها كما لو كانت خداهما قطعة من الوطن الذي تركته خلفها.
لم تستطع تصور الحياة بدون أطفالها، كانت لتشعر وقتها بمزيد من الضياع وحياة بلا جدوى. أرادت لهم أن ينالوا كل ما يتمنونه حتى وقت ضيق الحال؛ وبخاصة بعد ابتياع منزلهم بحي (ليتل هايتي) بمدينة ميامي- كانت تعمل بالبيوت أثناء وجود أطفالها بالمدارس وزوجها في عمله، وهو السر الذي لم يعرفه زوجها أبدا.
وهذا الدخل السري هو ما جعل زوجها شديد الإعجاب بها. كل أسبوع قبل أن يعطيها مساهمته في مصروف البيت، يخبر أطفاله بكل فخر: أمكم هي من تعرف حقا كيف تمط الدولار الواحد.
ومن مصارف هذا الدخل أيضا الأحذية الرياضية والملابس ذات الماركات الشهيرة والخواتم الراقية لابنتها التي كانت لتشعر أنها منبوذة دون ذلك، هذا غير الحفلات الراقصة. أما ابنها لم يكن ليهتم بأي شيء غير الكتب وبالأخص الكتب من المكتبات. كان يتجول بالجوار بسعادة بالغة والثقوب تملأ حذاءه الرخيص.
وجب عليها أن تخبر ابنتها عن حجم التضحيات التي بذلتها، لو كانت فعلت، لكان من السهل عليها الآن إخبارها بأنها لا يمكن لها أن تظل حزينة للأبد. تُرى أي مكان كانت ستؤول إليه تلك العائلة لو استسلمت كارول لحزنها حينما وصلت لهذا البلد؟ فأحيانا عليك أن تنتصر على الشيطان بداخلك أيا كان هذا الشيطان. حتى لو كنت لا تشعر بأنك تعيش لنفسك عليك أن تعيش من أجل طفلك، أن تعيش من أجل أطفالك.
…………………..
لم تدرك جين أن أمها وزوجها خرجا للتجول بجود إلا حينما وجدت نفسها وحيدة مع أبيها.
هي لم تناقش حالة أمها معه منذ فترة، ولم ترد إخباره أو إخبار زوجها بما بدر عن أمها في أول هذا الأسبوع، حينما كانت في زيارتها؛ لم تستطع جين مقاومة رغبتها في النزول إلى المسبح إبان قيلولة جود، وبمجرد أن وضعت قدميها بالماء، لمحت أمها تتطلع إليها من شرفة الشقة يبدو عليها الارتباك كما لو كانت ليس لديها أدنى فكرة عن المكان الذي تقف فيه.
كانت جين في وسط مكالمة مع جيمس فأنهتها مسرعة وجرت للأعلى، وبأسرع وقت كانت قد وصلت للشقة، ورأت أمها تقف بجوار الباب. دفعت أمها الباب بقوة فأغلقته، ثم سحبتها من كتفيها ودفعتها بقوة ناحيته. بدت كارول لجين كما لو كانت أضخم، حتى أن رأس جين كادت تشق من الدفعة وظلت تردد: ماما.. ماما.. كما لو كانت تعويذة، حتى عادت كارول إلى نفسها مرة أخرى سائلة:
ماذا حدث؟-
ودت جين لو استدعت الإسعاف، أو أخبرت حتى أبيها على الأقل، غير أنها كانت في حالة صدمة، كما أن أمها أكملت اليوم دون أية مشاكل. حاولت جين أن تتجنبها قدر إمكانها، وسمحت لها بمشاهدة البرامج الحوارية المفضلة لها، وحرصت ألا تتركها بمفردها مع جود.
وباليوم التالي.. بعد خروج جيمس إلى العمل، ظهرت أمها أمامها صارخة بالكريولية:
– يجب أن تحاربي الشيطان
ثم أضافت:
– كُفي عن أنانيتكِ ومحبة نفسك، وجربي أن تعيشي من أجل طفلك.
جعلت هذه الأحداث جين تخاف من أمها كما تخاف عليها. أقرت جين أمها في الذهاب معها ليوم التعميد عسى أن تكون المساعدة في ذلك، رجحت أن أمها تتظاهر بفقدان عقلها كي تفعل ما تريد.
جلست كارول بجوار جيمس على كنبة الصالة، وجود على ذراعيها، بدت في أكثر أوقاتها هدوءا طيلة هذا الأسبوع، وعلى الجانب الآخر جلس بول، وبدا أن الحوار الذي جمع ثلاثتهم كان جود محوره، أو كان الأطفال بوجه عام هم المحور. انضم إليهم ماركوس صديق جيمس، بينما جود يحاول الوصول إلى شعره الأفريقي المنفوش.
كانت جين مندهشة من أخيها، كيف لم يلاحظ التدهور الذي لحق بأمهما. كل المحادثات التي خاضاها يوم التعميد لم يأت فيها بأي ذكر للحالة العقلية التي تمر بها كارول. أيكون ذلك مرده إلى اعتبار أمه امرأة تقية! ليست أمه بالضبط إنما أختا في الرب؟ بول لم يعر أي اهتمام من قبل بالأشياء العملية. فقد قضى معظم طفولته في قراءة الكتب التي يصعب حتى على البالغين فهمها، والروايات المعقدة، والدراسات الأنثروبيولوجية، والسير الذاتية لقديسين وعلماء دين مشهورين. قبل أن يلتحق رسميا بكنيسة أمهما، وعندما كان طالبا بالسنة الأخيرة في المدرسة، اعتبر نفسه قساً بالفعل. لم يكن يهتم بغير عالم واحد، وهو العالم الآخر ليس هذا العالم الذي نعيش فيه.
أشارت كارول إلى بول كي يفسح مكانا حتى يتسنى لها أن تضع جود في فراغ بينهما على الكنبة. حرك جود وجهه ذهابا وجيئة، وظل يتطلع إلى وجوه الكبار وبخاصة جيمس.
سأل والد جين:
– كيف أحوالكم هذه الأيام؟
بينما كان يوجه كلامه لجين، كان ينظر إلى أمها بطريقة لم تعهدها من قبل، لم تكن بالنظرة المحبة أو نظرة إعجاب أو حتى نظرة أسى، بل إنذار.
– على ما يرام.
في العادة كانت إجابة كتلك كافية بالنسبة لأبيها. فأبيها مثل زوجها لا يضغط عليها عادة، إلا أنه هذه المرة فعل.
– لماذا وجب عليكِ أن تفعلي كل هذا اليوم؟ هل ستربي هذا الطفل أيضا؟
سأل أبوها على الرغم من معرفته الإجابة، ثم استطرد:
– إنها لم تعد قادرة على رعاية هذا الطفل من أجلك، عليكِ أن تفعلي هذا بنفسكِ هذه المرة.
ردت جين:
– بالطبع سأفعل ذلك، فأنا لم أرزق بهذا الطفل من أجل أن ترعاه هي.
فعاد وسألها:
– إذن لمَ أنجبته؟! يبدو الأمر كما لو كنتِ لا ترغبين به.
هذا، وبغض النظر عما شعرت به، أرادت أن تخبره ليس بأنها لا تريد ابنها، لكنها لا تؤمن بمقدرتها على خوض هذه المهمة، هذا العمل الضخم، المستمر بلا نهاية؛ حتى بمساعدات زوجها.
هذا الأمر عصي على الشرح سواء لأبيها أو أي شخص آخر، لكنها في النهاية عليها أن تتخلص من عبئه. ثمة أفكار كان يتحتم عليها أن تعتمل بعقلها لكنها لم تأتِ. على الرغم من التغيرات الحادثة بجسمها كأم، كانت تشعر في بعض الأحيان أنها لم تنجب من الأساس، لم يكن الأمر إنها لا تريد الطفل، أو تمنت ألا تنجبه، كل ما في الأمر أنها غير قادرة على تصديق فكرة أن هذا ابنها حقا.
وبعد أن يئست من تغير مسار الحوار، سألت:
– ما الذي أصاب أمي بالضبط؟
– لم ننته منكِ بعد حتى نتحدث عن أمكِ.
فعادت وسألت بإصرار:
– أجب ما الذي أصاب أمي؟
– أمك لم تعد كما هي.
– الواضح أن الأمر أكبر من هذا.
– ما الذي تريدين سماعه بالضبط؟
– نحن نريد أن نعرف الحقيقة.
– نحن!!
قالها بينما كان يشير إلى نفسه وإلى أمها، ثم استطرد:
– نحن نعرف الحقيقة بالفعل.
سمعت جين ضحكات خافتة من أمها في أول الأمر، ثم ما لبثت تعلو، على شيء قاله جيمس أو ماركوس تقريبا. رجحت جين احتمالية أن ثمة تقديرات أطباء وفحوصات احتفظ أبواها بها لنفسيهما.
سألت:
– ماذا تقصد بالضبط؟
– يتوجب عليَّ قريبا أن أضعها بمكان ما.
كانت النفقات أول ما فكرت فيه وكيف أن أمها ليست الوحيدة التي ستغادر؛ فأبوها قد يضطر إلى بيع المنزل في حالة قرر وضعها بمكان لائق لا تُهمل فيه أمها ولا تُهان. كما فكرت في السخرية التي قد تطال عائلتها لعجزهم عن الاعتناء بها بعدما بذلت عمرها من أجلهم.
– لم أقل أني سأفعل ذلك غدا.. لكننا سوف نضطر لفعل هذا بيوم ما
لم تلحظ جين هذا الألم المرتسم على وجه أبيها من قبل، لأنها لم تهتم لذلك أبدا. حتى أن آلام الناس في العموم لم تشغلها قط. لكنها في تلك اللحظة أدركت التغير الذي طرأ عليه؛ هذا اللون الرمادي الذي غزا شعره، والحشرجة التي ملأت صوته، وعيناه اللتان استحالتا إلى اللون الأحمر من مخاصمة النوم، ووجهه الذي قتله القلق.
………………..
اعتادت كارول وصديقة طفولتها جين أن تتكلما عبر ثقب حفرتاه في الخشب الفاصل بين حجرتيهما. حينما كانت جين تذهب لجلب الماء من حنفية الحي، كانت تصفر لتوقظ كارول، لصفيرها صرير حاد يشبه صوت عصفور الملك الرمادي، الذي يطير حرا حولها حتى تأتيه الأولاد بنبالهم ويحمروه في ركية نار كانوا قد أعدوها ويأكلوه.
جاء صباح ولم تصفر جين، ولم ترها كارول مرة أخرى. قال الأولاد بالحي أن أمها قتلتها ثم دفنتها واختفت، لكن في الحقيقة لم تستطع والدة جين دفع إيجارها، لذا هربت قبل طلوع النهار.
فيكتور كان الشاغل الثاني لهذه الغرفة. ووالد فيكتور يعمل على سفينة ترحل في الغالب إلى ميامي، كل ساكني الحي يعرفون أن فيكتور سوف يذهب في يوم ما إلى ميامي كأبيه. أبوه الرجل الذي يأتي بحقائب مليئة بالملابس مرتين كل سنة. وفيكتور يظهر دائما بيديه القمصان والفساتين التي تقول أمه أنها ليست بحاجة إليها، أو بأطباق من الطعام كانت تُقسم أمه أنها لن تمسها إلا لو أخذتا كارول وأمها طبق الطعام من يديها وأكلتا منه. ما لبث فيكتور يكتشف الثقب بالخشب فيمد إصبعه عبره مشيرا لها. بعد ذلك أضحت كارول تصفر له كما لو كانت آخر عصفور بالحي.
عرفت كارول من اللحظة الأولى التي قابلت فيها فيكتور أنه سيعتني بها. لم تفكر مطلقا بأنه قد يتآمر ضدها، أو حتى يهدد بالتخلي عنها. لكنه الآن فعل وتآمر عليها مع امرأة لا تعرفها، امرأة ممتلئة جميلة كما يحب أن تكون المرأة. كما كانت تبدو في عينيه حينما كان يحبها أكثر.
كان زوجها وتلك المرأة يتكلمان بالهمس. فيما كانا يتحدثان بالضبط؟! ولمَ تجلس بجوار تلك الدمية المفلفلة الشعر والتي لطالما خدعها بها زوجها زاعما أنها طفل حقيقي. أطفالها الحقيقيون ذهبوا، اختفوا كما اختفت صديقتها جين، وكل ما تبقى لها دمية كان زوجها قد اشتراها لها.
نظرت في أرجاء الغرفة لترى إن كان شخصا آخر يتابع ما يجري، وكيف لتلك المرأة الصغيرة أن تحاول سرقة زوجها أمامها وتحت سمعها وبصرها، بينما هي تجلس ملتصقة بالكنبة بين غرباء ودمية تدعمها. انتزعت الدمية من تحت إبطها ورفعتها حتى كتفها. كانت للدمية تعبيرات وجه حقيقية جدا، وحية إلى حد بعيد، فشفتاها تنثني وخدودها تتكرمش كما لو كانت في طريقها حقا للبكاء. ولتهدئها كان عليها أن تصفر بصوت متقد كعصفور الملك الرمادي.
حاولت كارول شرح كل هذا للرجال بجانبها، لكنهم لم يستطيعوا فهمها. واحد منهم ضم يديه ناحيتها كما لو كان يريد أن تعطي له الدمية ليهدهدها.
هم الآن يتزاحمون عليها، حتى المرأة الصغيرة البدينة أيضا تقترب ناحيتها. لم تستطع كارول فهم كل هذا الاضطراب حولها. كل ما كانت ترغب به أن تأخذ دميتها وتذهب بها إلى براح، كما كانت تفعل حينما لا يكون زوجها بجانبها. كانت تريد أن تشعر بدفء الشمس، بمداعبة النسيم لوجهها، بلمعة ماء المسبح في الظهيرة. كانت تريد أن تبرهن للكل أنها ليست فقط تستطيع الاعتناء بنفسها إنما تستطيع الاعتناء بدميتها أيضا.
…………………
كيف استطاعت أمها أن تعدو إلى الشرفة متجاوزة جيمس وبول وبين ذراعيها جود؟ جود يتلوى ويصرخ، قدماه الممتلئة القصيرة تلف في الهواء بعصبية بعدما سندته أمها على سور الشرفة.
كان أبوها أول الواصلين إلي الشرفة وفي عقبيه جاء جيمس والآخرين. وعلى الرغم من أن كارول كانت تقف بالمكان الوحيد المظلل في الشرفة، فإنها كانت تتصبب عرقا. تفككت كعكة شعرها بعدما تشبث بها جود تقريبا أو ربما شخص آخر.
لم تعرف جين إلى متى ستصمد ذراع أمها النحيلة في التشبث بجود. خاصة وجود يتلوى ويبكي، كان يحرك رأسه طيلة الوقت ناظرا للوجوه حوله في الشرفة وكأنما يدرك إلى أي مدي وصل يأسهم من استرجاعه بالداخل.
اندفع بول عبر السلم إلى الأسفل، وجين تنظر إلى وجهه في الأسفل كما لو كانت تحاول أن تستنتج أين بالضبط سيقع ابنها حال سقوطه من يد أمها. إمكانية سقوطه بين ذراعي بول هي نفس إمكانية سقوطه في المسبح أو على سياج شجر (الفيكس) تحت الشرفة.
كان ماركوس يقف أيضا بحوار المسبح، كما فعلت زوي أخت جيمس، أياد إضافية للمساعدة في إنقاذ محتمل. بينما جيمس يستدعي الشرطة عبر الهاتف. وجريس احتضنت جين كما لو كانت ستتحطم على الأرض لو تركتها. وأبوها يقف علي بعد خطوات من أمها يتوسل ويستجدي.
وبمجرد أن انتهى جيمس من الهاتف، تبادل الأماكن مع والدها. قبض جود كفيه الصغيرتين وفردهما، ثم أشار بكفيه لوالده، وتوقف بكاؤه للحظة كما لو كان في انتظار حضن أبيه. وما كاد جيمس أن يصله حتى أبعدته كارول عن متناول يده. وسط ذهول الجميع، وما أن أفلتت جين من بين ذراعي جريس حتى انثنى ظهرها كما لو أنها انشطرت نصفين.
– أرجوكِ يا أمي.
قال جيمس، ورددت خلفه جين كرجع الصدى، ثم استقامت واقفة وظلت تتوسل:
– أمي.. أرجوكِ.. ارحمينا.. أتوسل إليكِ يا أمي..
أتى المستأجرون بالجوار إلى شقتهم، بعضهم كانوا في شرفاتهم والبعض الآخر انضم إلى بول وزوي وماركوس بجوار المسبح. وهكذا كانت هناك الكثير من الأيادي الجاهزة لالتقاط جود حال سقوطه أو انسلاته من يدي أمها.
كان جود يزن سبعة وعشرين رطلا في أخر مرة وزنوه، وهو ما يعادل خمس وزن أمها التي لن تستطيع أن تتمسك به لوقت أطول.
مشت جين خطوات تجاه زوجها بحرص بائن، متجاوزة أباها الذي جمدته الصدمة ومتجاهلة إياه.
– أرجوكِ يا أمي.. أعطني ابني.
قالت جين بصوت متهدج على الرغم من كونه حازم كي لا يخيف ابنها.
تطلعت أمها إليها بنظرة ذاهلة، نظرة بَدت الآن مألوفة.
– دعيه لي يا كارول.. أرجوكِ
من الجائز أن جين لو لم تكن ابنتها لاستطاعت أن تحصل منها على استجابة غير تلك النظرة الذاهلة، لملكت عليها سلطة أحست معها كارول بأن عليها أن تسمع وتطيع.
– طفل!
قالت أمها بصوت يملؤه التودد لجين أكثر من كونه مدركا لحقيقة كونها تحمل طفل صغير بين يديها.
– نعم يا أمي.. حقا طفل.. طفلي يا أمي.
حاولت جاهدة السيطرة على صوتها حتى لا يعلو على آهات ابنها.
– ابنك!!
سألت كارول وذراعاها ترتعشان كما لو أنها أدركت فجأة وزن جود الحقيقي.
خفضت جين صوتها أكثر.
– نعم يا أمي.. هذا طفلي.. أرجوكِ أعطني إياه.
قدرت جين من ارتخاء ذراعي أمها أنها سوف ترجع عن السور، لكنها كانت خاطئة فأمها لم ترجع بما فيه الكفاية، ولو كانت رجعت فجأة كان من الممكن أن يسقط جود من يدها جراء ارتباكها. استغلت جين تحديق أمها بها وأشارت برأسها لزوجها كي يتحرك. وفي حركة متزامنة، وصل أبوها إلى أمها وزوجها التقط الابن. لم ترخي أمها قبضتها على جود إلا حين اطمأنت أنه لن يسقط على السياج.
انهار جيمس على أرضية الشرفة وطفله الباكي يجسم على صدره. أما والد جين فقد مسك يد والدتها وصاحبها إلى الداخل، أجلسها وجلس بجوارها على الكنبة ثم أحاطها بذراعيه فأراحت رأسها على كتفه.
جاء شرطيان، امرأة سوداء ورجل أبيض، وصلا بعد انتهاء الحادث مباشرة، متبوعين بفريق للتدخل الطبي الطارئ. قام واحد منهم بتسليط الضوء بنن عين أمها، ثم شرع في قياس ضغط الدم. على الرغم من كون أمها بدت كما لو كانت انفصلت عن الحادث وكل ما ارتسم على وجهها مجرد الإرهاق، تم تشخيص حالتها أنها بحاجة إلى تقييم نفسي. كما تم فحص جود وتبين وجود بعض الكدمات تحت إبطه من إحكام قبضة يد جدته عليه.
رأت جين تلك النظرة الذاهلة تعود لترتسم مجددا بعيني أمها وقت تسلقها للسرير النقال بمساعدة فيكتور وبول. حاول أبوها استجدائهم كي لا يربطوها، إلا أن رئيسهم أصر على كون هذا إجراء لازم، ووعد بألا يؤذيها.
تمنت جين لو كان كل ما فات هو محاولة من أمها لتعطي لها درسا يوقظها من أحزانها ويذكرها أن لديها قلب قادر على محبة ابنها. لكن جين رأت عينى أمها – المربوطة بالسرير النقال- المجهدة الخالية. بدت كما لو كانت تنظر لجين، لكنها في الحقيقة تنظر عبرها إلى الحائط ثم إلى السقف.
أضحى جسد كارول مرتخيا، والأحزمة التي رُبطت بها نهشت في معصميها وكاحليها، بدت كما لو كانت خاضعة بشكل كامل لقدرها، مستسلمة لأي شيء حتى لو كان مزعج لها. بدت كما لو كانت تعرف أنها للمرة الأخيرة هنا، أو على أقل تقدير لن تكون هنا كما كانت من قبل. بدت كما لو كانت تعرف أيضا أن تلك اللحظة على العكس من الميلاد، ولم تعد هناك بداية.
كان كل ما يجول بخاطر كارول أنها لن ترى هذا مجددا. هم الآن مازالوا هنا، ابنتها وزوج ابنتها مطوقا زوجته بذراعيه وهي تحمل ابنها النائم في سلام. من الممكن أن تكون جين أدركت الآن أخيرا ماذا يعني لها ابنها، وأن لا نجاة لها في تلك الحياة دونه. كل ما كانت كارول تتحسر عليه هو عدم إخبار ابنتها قليل من قصصها. وفي هذه الحالة لن تصل تلك القصص لحفيدها أيضا، كما أنها لن تلعب معه مرة أخرى.
في المرة الأولى التي اصطحبها زوجها إلي الطبيب، وقبل كل تلك الفحوصات على المخ والبزل القطني، سأل الطبيب عن تاريخ عائلتها المرضي وهل عانى أي من والديها أو أجدادها من أي مرض عقلي، الزهايمر أو الخرف. لكنها لم تكن قادرة على إجابة أي من تلك الأسئلة، لأنه حينما سألها لم تكن تتذكر أي شيء عن نفسها.
أخبر الطبيب زوجها:
– إنها ليست جيدة في تذكر التواريخ.
أي تاريخ يقصد، بحسب فيكتور وبالطريقة التي أخبره بها الطبيب أنها لم تقدر على إخباره تاريخها الشخصي، قصة حياتها هي.
ليست جيدة في تذكر التواريخ! هي لم تكن أبدا جيدة في ذلك، حتى وقت كانت بكامل عافيتها. الآن ليست لديها أي فرصة لتكون جيدة في التذكر. سيكبر حفيدها دون أن يعرفها، والقصة الوحيدة التي سوف يعرفها عنها هي قصة تدلى فيها من يدها عبر سور الشرفة، أو بطريقة أخرى محاولتها لقتله. بالنسبة لها كل هذا اختفى، تبخر، لكن بالنسبة لكل شخص آخر هي القصة الوحيدة الباقية.
كانوا علي وشك جر سريرها النقال خارج الشقة، وعلى الرغم من إحكام أحزمة السرير على معصميها، فإن ابنها كان يمسك يدها اليسرى بإحكام شديد. جين أعطت جود لجدته الأخرى ومشيت خطوات تجاه السرير النقال، ثم اقتربت بوجهها حتى التصقت بوجه كارول التي اعتقدت أن ابنتها سوف تعضها. لكن جين تراجعت قليلا، فهمت كارول أن بنيتها أن تلعب معها لعبة (أهلا/وداعا) لعبة أخرى من ألعاب الاختباء لطالما استمتع بها أطفالها. وحينما اقتربا وجهاهما وكادا يتلامسا جعدت جين أنفها وهمست “أهلا ماما” ثم “وداعا ماما”.
سيكون من الرائع حقا أن تحمل نفسها على تصديق أن هذا بالفعل هو ما تفعله ابنتها. سيكون مناسبا جدا للعائلة وتماسكها، أو على الأقل لحياتها مع الأطفال. فدائما ما تقول لهم: (أهلا) بينما تعدهم ليقولوا لك: (وداعا)، دائما ما تخيفهم من ألم الانفصال، بينما تدفعهم إليه، ليصبحوا أكبر وأذكى، ليحبوا ثم يناغوا ثم يمشوا ثم يتكلموا. تحلم بأعياد ميلادهم سنة وراء سنة وتمني النفس أن تكون هناك، وتصلي من أجل ذلك. ستعرف جين كيف هي الحياة بهذه الطريقة، أن يكون جزء من روحك يطوف بعيدا عنك، وهذا الجزء هو ما تحبه فيك حتى لتشعر أحيانا بأنك ستجن.
أخذت جين يد أمها اليمنى في يدها، يد لكل ابن، يد نحيلة مرتجفة بدت كما لو كانت لم تعد تخص أمها مطلقا.
– شكرا ماما.
شكرا!!
ليس هناك شيء يستدعي الشكر، لقد أدت وظيفتها، قامت بواجبها كأم. ولم يعد هناك داع لمزيد من (أهلا) ولا لمزيد من الوداعات أيضا. وقريبا لن يكون هناك شيئا بالمرة، لن يكون هناك ماض نتشبث به ولا مستقبل نأمل فيه. لن يكون هناك سوى الآن وفقط.
……………………………………………………….
*الكريولية: لغة أهل هاييتي