القُرعة

شيرلي جاكسون
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

للكاتبة الأمريكية: شيرلي جاكسون،1948

ترجمة: د. إقبال محمد علي

كانت السماء في صبيحة  يوم السابع والعشرين من حزيران، صافية مشمسة، تُبشر بيوم ٍ صيفيٍ دافئ…الأزهار متفتحة بصورة لم يسبق رؤيتها من قبل، والحشائش في غاية الخضرة. ابْتَدَأَ ابناء القرية، قرابة الساعة العاشرة صباحاً، التجمع بالتدريج في الساحة الواقعة بين بناية البريد والبنك.دَرَجَت القرى المجاورة، الأكثر عدداً في السكان، الشروع في التحضير للقُرعة السنوية، يوم 26 من الشهر. في هذه القرية التي لا يتجاوز سكانها الثلاثمائة شخصٍ لا تأخذ قُرعة اليانصيب، أكثر مِن ساعتين، يفتتحونها في الساعة العاشرة صباحا، كي يكون لديهم المتسع من الوقت للعودة إلى بيوتهم ظهراً، لتناول وجبة الغداء.

كالعادة،كان الأولاد أول من يَفِدَ إلى ميدان القرية للترويح عن أنفسهم بعد نهاية السنة الدراسية وبداية العطلة الصيفية وسرعان ما ينقلب تجمعهم الذي يسوده الهدوء في البداية، إلى لعب صاخب والمنافسة في التحدث عن صفوفهم الدراسية، عن المعلمة وعن الكتب والتوبيخ. شَرَع بوبي مارتن، بملء جيوبه بالحصى المدور الأملس وسرعان ما حذا بقية الأولاد،حذوه. هاري جونس وديكي( ديلاكروا) الذي ينطق القرويون اسمه بِ(ديلاكروي)، تمكنا من تكديس كومة كبيرة من الحصى في إحدى زوايا الساحة والوقوف لحراستها خوفاً من غارات بقية الأولاد. البنات، كُنّ يقفن جانباً، يتحدثن فيما بينهن وينظرن من وراء اكتافهن إلى الشباب. أما الأطفال الصغار، ترى البعض منهم متعلقاً بأيدي إخوانه أو أخواته والبعض الآخر يمرغ نفسه في التراب. سرعان ما بدأ الرجال بالتجمع أيضاً، مستقصين وأعينهم تراقب ما يفعله أولادهم، يقفون بعيداً عن أكوام الحجارة المنَضّدة في الزاوية وأحاديثهم لا تخرج عن مواضيع، الزرع والمطر والجرارات والضرائب…مستبدلين قهقهاتهم العالية المعتادة بالابتسام وكان مَزاحهم متسماً بالهدوء. تبعت النسوة أزواجهن، بعد وقت قصير، بفساتين البيت الباهتة  اللون وفوقها السترات…تبادلن بسرعة،التحايا وبعض الأقاويل عن هذا وذاك، بعدها توجهن، حيث يقف أزواجهن وبدأنّ بمناداة أولادهن الذين كانوا يستجيبون على مضض لصرخات أمهاتهم المتتالية وحين أفلت بوبي يده من قبضة والدته القوية، راكضاً يضحك بصوت عالٍ باتجاه كومة الحصى… صرخ عليه والده منادياً بِعلو صوته، فاضطر للعودة والوقوف بين والده ووالدته وأخيه الأكبر.

يشرف على “قُرعة اليانصيب” ( السيد سمرس) الذي وظف نفسه لخدمة الفعاليات الرسمية والاجتماعية في القرية. تجري قُرعة اليانصيب عادةً، في ميدان القرية شأنها شأن الفعاليات الأخرى التي دأب (السيد سمرس)، على تنظيمها والأشراف عليها، بما فيها حفلات الرقص، نادي المراهقين ويوم التنكر في عيد القديسين (الهَلوين). السيد سمرس، رجل بشوش بوجه مستدير ويدير منجماً للفحم.يتعاطف معه الناس بسبب حرمانه من الذرية ولِسلاطة لسان زوجته. تعالت الهمهمة بين القرويين عند دخوله الساحة حاملاً الصندوق الأسود معتذراً بصوتٍ عالٍ: آسف على تأخري اليوم يا سادة. كان يتبعه السيد كَريفس( مدير البريد)،حاملا مقعداً ثلاثي الأرجل إلى وسط الساحة، وضع عليه السيد سمرس، الصندوق الأسود.. ترك القرويون مسافة بينهم  وبين المقعد وحين طلب السيد سمرس منهم تقديم المساعدة، ترددوا… بعد لحظات تطوع، السيد مارتن وابنه الأكبر باكستر لمسك الصندوق أثناء خلط السيد سمرس، أوراق اليانصيب التي في داخله.

ضاعت المعدات الأصلية لليانصيب، منذ زمنٍ طويل. أما الصندوق الأسود الحالي والمقعد الثلاثي الأرجل فزمنهما يعود، إلى ما قبل ولادة العجوز ورنر وكانت هنالك مزاعِم تقول، إن المستوطنين الأوائل للقرية قاموا بصنع الصندوق الأسود الحالي، مستخدمين خشب الصندوق القديم. كثيراً ما صرح السيد سمرس للقرويين بضرورة صنع صندوق جديد، إلا ان الناس كانت تهمل وتنسى ما سمِعَت لعدم رغبتها أفساد ما يحمله هذا الصندوق من عبق الماضي وتقاليده.

بعد كل قُرعة يانصيب يبدأ السيد سمرس بترديد موضوعة تغيير الصندوق، إلا الناس وبمرور الوقت تبدأ بتناسي الموضوع على الرغم من أن خشب الصندوق الأسود الحالي قَدْ شَرَعَ بالاهتراء لدرجة أن لونه الأسود لم يعد أسودَ، فمن الشق العميق في أحد جوانبه يمكن لأي كان، أن يرى لون الخشب الأصلي الباهت، الملطخ بالبقع في الكثير مِن أماكنه.

كانت أذرع السيد مارتن وولده باكستر تطوق الصندوق بقوة،كي لا يتزعزع من مكانه اثناء خلط السيد سمرس أوراق اليانصيب بداخله، بروية. رغم نسيان الناس للكثير من الطقوس القديمة إلا أن السيد سمرس تمكن وبنجاح، استبدال رقائق الخشب التي  أستُخدِمت ولأجيال ببطاقات من الورق وكان تفسير السيد سمرس لهذا التغيير، أن رقائق الخشب، كانت مناسبة وتَسَعَ الصندوق حين كانت القرية صغيرة، أما الآن وبعد ان وصل عدد سكانها إلى أكثر من ثلاثمائة شخص اصبح من الضروري، استخدام الورق كي يستوعبها الصندوق. في الليلة التي تسبق اليانصيب يقوم السيد سمرس والسيد كَريفس بتجهيز أوراق اليانصيب ووضعها في الصندوق  ونقله داخل خزانة شركة الفحم التي يمتلكها السيد سمرس وغلقه بأحكام ليأخذه في اليوم التالي إلى ميدان القرية.لم يكن هناك مكان ثابت، لحفظ الصندوق الأسود بعد كل قُرعة. تراه سنة، مركوناً في إحدى زوايا أسطبل السيد كَريفس وسنة أخرى مرمياً على أرضية مخزن البريد تدعسه الأقدام أومركوناً على أحد رفوف بقالة السيد مارتن.

كانت هناك الكثير من التحضيرات التي يتوجب على السيد سمرس إنجازها، قبل بدء القرعة، منها، إعداد قائمة بأرباب الأسر، قائمة بأرباب الأسرة الواحدة وقائمة بعدد أفراد كل أسرة.كما كان عليه أيضا، أداء القَسَم، أمام مدير مكتب البريد ليتسنم رسمياً مسؤولية إدارة قرعة اليانصيب. يتذكر بعض الناس المراسيم القديمة التي كان يتوجب فيها على مسؤول اليانصيب كلّ سنةٍ، قراءة بعض الأناشيد الدينية غير المرتلة، المملة، المثيرة للأعصاب. كان البعض يعتقد، انه كان يقرأها أويتغنى بها، واقفاً وسط الناس… ويَزْعم آخرون، أنه كان يرتلها، أثناء سيره بين الناس، ويبدوان هذه الطقوس أندثرت بمرور السنين. كانت هناك تحية شعائرية على مسؤول اليانصيب تأديتها لكل شخص يأتي لسحب ورقته، لكن هذه العادة تغيرت أيضاً، فالمسؤول اليوم عليه أن يتبادل كلمات سريعة مع مَن يمثَلون أمامه، والسيد سمرس المعروف بلباقته ودماثته، أفضل من يقوم بمثل هذه المهمة… كان يقف في وسط الميدان ببنطاله الجينس وقميصه الأبيض، متكئاً بذراعه على الصندوق الأسود، منغمساً في الحديث مع السيد كَريفس والسيد مارتن وابنائه .

بعد انتهاء السيد سمرس من حديثه مع  الآخرين مستديراً للقرويين، جاءت السيدة هاجسن راكضة، متعثرة باتجاه الساحة ووقفت في نهاية الحشد، مُلقية كنزتها على كتفيها: نسيت تماما في أي يوم نحن،(وجهت كلامها للسيدة ديلاكروي التي كانت تقف إلى جانبها وضحكت السيدتان بصوت منخفض)…اعتقدت أن عجوزي في الغابة يقطع الخشب،(مستمرة في الكلام) نظرتُ من الشباك، فلم أجدَ أثراً للأطفال، عندها فطنت إلى أن اليوم هو السابع والعشرون فجئت راكضة.( واستمرت تجفف يديها بمريولتها..أجابتها السيدة ديلاكروي): لا عليكِ، جئت في الوقت المناسب.إنهم ما زالوا يقفون هناك، يتحدثون. مدت السيدة هاجسِن رقبتها بين الحشد فوجدت زوجها وابنها يقفان قُرب المقدمة. ربتت على ذراع السيدة ديلاكروي مودعة وبدأت تشق طريقها بين الجموع.بدأ الناس يفسحون لها الطريق بدعابة. اثثنان أوث لاثة من الرجال صاحوا بأصوات عالية سمعها الجميع: هاهيّ زوجتك قادمة يا هاجسِن.. وصلت زوجتكَ أخيراً يا بيل.(تمكنت السيدة هاجسِن من الوصول إلى زوجها. وبادرها السيد سمرس قائلاً بمرح): تَسي، اعتقدتُ اننا سنبدأ من دونك. أجابته السيدة هاجسِن مبتسمة: لا أعتقد يا جوانك كنت تريد مني ترك صحوني الملطخة بالدهون داخل الحوض؟.. ضحك الجمع بصوت خافت وعادوا إلى أماكنهم بعد وصول السيدة هاجسِن.

– علينا الآن، (قالها بصوت جاد)أن ننهي مهمتنا بسرعة لنعود إلى أشغالنا.هل هناك مَنْ تغيب عن الحضور؟

-“دَنبر(صاح جمع من الرجال) دنبر.. دنبر”.

راجع السيد سمرس قائمته ثم صاح: “كلايد دنبر”.

– آها، تذكرتُ الآن..رجله مكسورة على ما أعتقد؟ من سيسحب بدلاً عنه؟

– أنا من سيسحب.(قالت المرأة). استدار السيد سمرس وسألها متعجباً :زوجة تسحب لزوجها؟ ألا يوجد عندكم ولدٌ في سن البلوغ، ليقوم بهذهِ المهمة يا جيني؟ بالرغم من ان السيد سمرس وكل من في القرية يعرف الجواب، لكن توجب على السيد سمرس أن يسأل بهذه الطريقة الجادة لكونه المسؤول  الرسمي عن اليانصيب وانتظر بأدب وفضول جواب السيدة دنبر.

– هوراس، لم يبلغ السادسة عشر من عمره بَعدْ (قالتها بحسرة)، لذا كان عليّ أن أحل محل عجوزي هذهِ السنة.

-حلٌ سليم. (أجاب السيد سمرس)..وكتب ملاحظة على القائمة التي بيده. هل سيشارك إبن واتسن في السحبة هذه السنة؟

رفع شاب طويل القامة يده من بين الجمع وقال: أنا حاضر وساسحب لي ولأمي.  رمش بنرفزة، ونكس رأسه بخجل، حين سمع أصوات من بين الحشد تقول:”جاك، ولدٌ صالح”..هنيئاً لوالدتك،أن يكون لها ولدٌ مثلك، يتحمل المسؤولية”….

– حسناً.. هل العجوز ورنر موجود؟

– هنا.. (وأومأ له السيد سمرس، برأسه)...

– فجأة عَمّ الصمت بين الحشد .. بلع السيد سمرس ريقه وتطلع إلى القائمة ثم صاح: هل الجميع على أستعداد؟ سأقرأ أولاً، قائمة بأرباب الأسر وعلى الرجال التقدم لسحب ورقة من داخل الصندوق…عليكم ترك الورقة مطوية بأيديكم وعدم النظر إليها حتى ينتهي الجميع من أخذ دورهم.. هل ما قلته واضح؟

ولأن الناس كانوا قد مروا بهذه الطقوس العديد من المرات لذا لم يعيروا انتباها لنصف ما قال.كانوا صامتين كلهم، مبللين شفاههم، غائبين عما يجري حولهم.

رفع السيد سمرس إحدى يديه عالياً وصاح:“آدمس”.. خرج رجل من بين الحشد وتقدم: مرحباً ستيف.(أجاب ستيف)مرحباً جو. وابتسم أحدهما للآخر بدعابة وقلق. مد السيد آدم يده داخل الصندوق وسحب ورقة مطوية، مسكها في كفه بحزم  وعاد بعجلة إلى مكانه بين الحشد، شاداً قبضة يده على أحد أطرافها بقوة ووقف على بُعد مسافة قليلة عن عائلته غير قادر على النظر إلى ما في يده.

آلان… أندرسون..بينثام… واصل السيد سمرس دعوة أرباب العوائل.

– يجري الوقت سريعاً بين قرعة وأخرى، (همس السيد دلاكروي  للسيدة كَريفس) يبدو لي أن آخر قُرعة،كانت قَبْلَ أسبوع.

– يمضي الوقت سريعاً، بالتأكيد.(أجابت السيدة كَريفس).

كلارك.. ديلاكروي…..

– سمِعته ينادي أسم زوجي العجوز.( قالت السيدة ديلاكروي ثم حبست انفاسها  وهيّ تراه يسير بأتجاه السيد سمرس).

“دَنبر”، صاح السيد سمرس..( تقدمت السيدة دَنبر بخطوات ثابتة متوجهة للصندوق) ..صاحت أحدى النساء مشجعة: تقدمي يا جيني… جاوبها صوت آخر: إنها في طريقها.

– حان دورنا.(قالت السيدة كًريفس).. وبقيت تراقب زوجها يستدير من جانب الصندوق متوجهاً إلى السيد سمرس، حياه بقلق واختار  ورقة من داخل الصندوق. كان الرجال، يقلبون بقلق، الورقة الصغيرة المطوية بأكفهم الضخمة وكانت السيدة دنبر تقف مع ولديها وبكفها الورقة المطوية.

هربرت… هاجسِن ….

– تقدم يا بيل.( قالتها السيدة هاجسِن، بطريقة أضحكت الآخرين).

جونسن..

– يقولون، (السيد آدم موجها الحديث للعجوز ورنر الذي كان يقف بجانبه) أن قُرى الشمال تفكر بالإقلاع عن اليانصيب.

– شَخرَ العجوز ورنر قائلاً: قطيع من المجانين والتستماع إلى ترهات هؤلاء الصغار شيء لا نفع فيه. لربما ستكون بُدعتهم القادمة، العيش في الكهوف بلا عمل حتى إشعارٍ آخر. هل سمعت بِمَثَل اليانصيب القائل:.“قُرعة حزيران، تعطي الذرة بالكيزان“..بَعد القُرعة سنأكل الكثير من يخني الدجاج والذرة. اليانصيب موجود وسيبقى.(قال جملته الأخيرة بفظاظة). من أن المؤسف جداً رؤية جوسمرس يقف هناك، يمزحُ وينكتُ مع الآخرين.

– بعض الأماكن تخلت عن القرعة.(علقت السيدة آدم).

– أجابها العجوز ورنر،بحدة: “لا تأتي إلا المتاعب من هذا القطيع من المجانين”.

مارتن(كان بوب يراقب والده متوجهاً إلى المقدمة).…. أوفردايك… بيرسي…

– أتمنى أن يعجلوا الأمر…(قالت السيدة مارتن لولدها الكبير)، ليتهم يسرعوا.

-يبدو أنهم على وشك الانتهاء يا أمي.

-عليك أن تكون على أهبة الأستعداد لتبليغ والدك بالنتيجة.

نادى السيد سمرس إسمه وتقدم إلى الأمام لسحب ورقته من داخل الصندوق ثم عاد إلى مكانه ثم نادى اسم، السيد ورنر..

– سبعة وسبعون عاما وأنا أشارك بسحبة اليانصيب(قالها العجوز ورنر وهو يشق طريقه بين الحشد)….نعم سبعة وسبعون مرةً.

واتسونتقدم ولدٌ طويل يسير بأرتباك بين الحشد. صاح أحدهم مشجعاً: “لا داعي للنرفزة يا جاك..خُذ وقتك يا بُني”…….زانيني..

بعد الانتهاء من القائمة، حلت لحظات صمت طويلة،لا يُسمَعُ فيها نفسٌ.. قاطعه السيد سمرس، برفع ورقته في الهواء صائحاً: ورقتي يا إخوان … لم يتحرك أحد لثوانٍ.. بعدها بدأ الجميع بكشف أوراقهم. فجأة، تعالت أصوات النسوة متسائلة في آنٍ واحد: “مَنْ؟ على مَنْ وقعت القُرعة؟ هل وَقَعت على دنبر؟ أم هيّ من نصيب واتسون؟…أخذت الأصوات تردد اسم (هاجسِن).. القُرعة وقعت على بيل.. الورقة الرابحة لدى، بيل هاجسِن.. .

-(أمرت السيدة دَنبر ابنها الكبير،بالإسراع لتبليغ والده بالنتيجة)… بدأت العيون تبحث عن عائلة هاجسِن. كان بيل يقف بهدوء مبحلقاً في الورقة التي في يده. فجأة صرخت تيسي هاجسِن صائحة على السيد سمرس: لم تعطه الوقت لسحب الورقة التي يريد.. كنتُ أُراقبك…هذا ليس عدلاً.

-“حاولي التَحَلي بروحٍ رياضية يا تسي”، صاحت السيدة ديلاكروي.. تبعتها السيدة كَريفس قائلة: “كلناحصلنا على نفس الفرصة”.

-تيسي، عليك أن تخرسي، (صاح بيل هاجسِن).

– حسناً يا جماعة، لقد أنهينا القرعة بسرعة قياسية، علينا الآن، الإسراع بإنهاء المهمة….راجع السيد سمرس قائمته موجها سؤاله لبيل: هل أنتَ من يتحمل مسؤولية السحب لعائلة هاجسِن وهل يمكنك ان تخبرني ان كان لديك أفراد آخرون، داخل الأسرة؟

-هناك دون وإيفا، (صاحت السيدة هاجسِن)و عليهم المشاركة معنا كعائلة.

– كما تعرفين ويعرِفَ الجميع، يا تيسي، أنّ الابنة المتزوجة تشارك القرعة مع عائلة زوجها (ردَ عليها السيد سمرس بأدب).

– القُرعة لم تكن عادلة.أجابت تيسي.

-أنا لا أتفق معها يا جو.(قالها بيل هاجسِن معبراُ عن أسفه لتصرف تيسي).ابنتي تشارك السحبة مع عائلة زوجها وهذا عين الإنصاف.ولم يتبقَ غير هؤلاء الأولاد.

– إذاً أنتَ رب العائلة وعليك تقع مسؤولية القيام بهذه المهمة، شأنك شأن الرجال الآخرين، كما أنك أيضا المسؤول بالسحب نيابة عن أعضاء عائلتك، أليس كذلك؟

-صح.(أجاب بيل).

– كم عدد أولادك؟ (سأل السيد سمر بصيغة رسمية).

-ثلاثة.(أجاب بيل هاجسِن)،هذا بيل الصغير وهذه نانسي، وهذا الصغير ديفي ثُم تيسي وأنا.

-حسناً إذاً.(أجاب السيد سمرس). هاري، هل استرجعتَ بطاقاتهم؟

(أومأ السيد كَريفس رأسه بعلامة النعم، حاملاً بيده قصاصات ورق)، ارمِها في الصندوق وضع معها، أوراق عائلة بيل أيضاً.

-علينا أن نبدأ القرعة من جديد (قالتها بصوت، حاولت جاهدة أن يكون هادئاً)، –أنت لم تعطه الفرصة الكافية لسحب الأوراق التي يريد. الكل شاهِدٌ على ذلك.

أخذ السيد كَريفس القصاصات الخَمس ووضعها في الصندوق وأضاف بقية الأوراق مستثنياً القصاصات التي تطايرت على الأرض بسبب الهواء).

-اسمعوني جميعا…..( مخاطبة الناس حولها)

-هل أنت مستعد يا بيل؟(سأل السيد سمرس…ألقى بيل نظرة سريعة على أولاده وزوجته وأومأ بالإيجاب).

-تَذَكَرْ،(قال السيد سمرس) خُذ القصاصات وحافظ عليها مطوية بعد أن يختار كل فردٍ منهم واحدة. هاري، ساعِد الصغير ديفي.(أمسك السيد كُريفس بيد الولد الصغير وقاده إلى الصندوق طوعاً).ديفي، اسحب ورقة من داخل.(طلب منه السيد سمرس..وضع ديفي يده في الصندوق وضحك)...خُذ ورقة واحدة فقط.(قال له السيد سمرس). هاري أحتفظ بالورقة في يدك.(أخذ السيد كَريفس الورقة من يد الصغير، الذي أحكم قبضته عليها وأحتفظ بها).. وقف ديفي إلى جانبه ونظر إليه بتعجب.

– حان دورك يا نانسي(قال السيد سمرس)،كانت نانسي، في الثانية عشرة من عمرها.. (حبس أصدقاؤه أنفاسهم وهم يرونها متوجهة نحوالصندوق  ترتب حاشية تنورتها وسحبت بهدوء، ورقة من داخل الصندوق). بعدها نادى السيد سمرس اسم بيل الصغير الذي توجه بوجهه الأحمر متعثرا حتى كاد أن يقلب الصندوق أثناء سحبه الورقة.

-تيسي(نادى السيد سمرس)…ترددت لدقيقة،ب عدها ألقت نظرة متحدية على الجمع ثُم أطبقت شفتيها وتوجهت للصندوق .. اختطفت ورقة من داخله ووضعتها وراء ظهرها.

-بيل، (نادي السيد سمرس)ذهب بيل إلى الصندوق، ومد يده متحسسا الورق الذي في داخله وأخرج يده في النهاية.كانت في كفه قصاصة ورق.(عم المكان السكون) .. همست أحدى الفتيات:أتمنى أن لا تكون الورقة من نصيب نانسي….(وصل صوت همستها إلى نهاية الجمع).

– لم تعد الأشياء كما كانت في السابق (قالها العجوز ورنر بصوت سمعه الجميع)، ولم يَعُد الناسُ، نفسَ الناس.

– حسناً، (قال السيد سمرس):اكشفوا أوراقكم، وأنت يا هاري، افتح ورقة الصغير ديفي. فتح هاري الورقة..فتنفس الجميع الصعداء حين رفع الورقة البيضاء أمام أعينهم …. فتح بيلي الصغير ونانسي قصاصتيهما في نفس اللحظة، ضحكا بابتهاج ورفعاها فوق رأسيهما عالياً، ليراها الجميع.

-تيسي،(قال السيد سمرس) .. كانت هناك لحظة صمت .. نظر السيد سمرس إلى بيل هاجسِن.. كشف بيل قصاصته المطوية وعرضها على الجميع، كانت، بيضاء.

-الورقة الرابحة عِند تيسي،(قال السيد سمرس)..لنرَ ورقتها يا بيل.(توجه بيل إلى زوجته وانتشل الورقة من كفها).كانت عليها بقعة سوداء، كان قد عَلمها السيد سمرس بقلم أسود فاحم في الليلة الماضية حين كان في مكتبه في شركة الفحم… (تعالى ضجيج القرويين)... .

-أيها الناس( صاح السيد سمرس)، علينا أن ننهي مهمتنا بسرعة..

رغم نسيان القرويين للكثير من الطقوس القديمة.. ورغم فقدانهم الصندوق الأسود الأصلي إلا أنهم لم ينسوا استعمال الحجارة التي جمعها  أولادهم صباحاً على هيئة أكوام. اختارت السيدة ديلاكروي حجارة كبيرة حملتها بكلتي يديها  واستدارت مخاطبة السيدة دنبر:هيا.. عَجلي…(أجابتها السيدة دنبر  التي كانت تحمل أحجار صغيرة، بأنفاس متقطعة): اذهبي أنتِ وسألحق بك.

كان الأولاد مدججين سلفاً بالحجارة والحصى. أعطى أحدهم بعض الحصى للصغير ديفي هاجسِن.

كانت تيسي هاجسِن تقف في وسط الساحة لوحدها،..(مادة يديها تصرخ يائسة):ارحموني، لا عَدالة فيما تفعلون..(فتلقت ضربة حجر من أحد الجوانب)..

– هلموا، هلموا..(كان العجوز ورنر يصرخ بالناس مشجعاً).. هيا هيا، هلموا بنا…. وبدأت دائرة الجمع الزاحف نحوها تضيق.. كان ستيف آدم في المقدمة، بجانبه السيدة كًريفس…  .

استمرت السيدة هاجسِن تصرخ: لا عَدالة فيما تفعلون.. لا يحق لكم فعل ذلك…….لكنهم تكالبوا عليها، وراحوا يرجمونها…..  .

النهاية

…………………………………

*شيرلي جاكسون(1916-1965)

كانت تنحدر من عائلة معروفة ميسورة الحال.عكس والدتها وجدتها اللتين كانتا تتبعان مذهب”الفقه المسيحي” أوما يسمى اليوم بِ”السانتيولوجي”، كانت شيرلي مُلحدة. فُصِلت من جامعة روشستر في السنة الثانية لتضييعها الوقت في المقاهي مع أصدقائها من الطلبة الفرنسيين ذوي الآراء المتنورة. تم قبولها في جامعة سيراكوس/نيويورك حيث حصلت على شهادة البكلوريوس في الصحافة وتزوجت بالكاتب الملحد والناقد الأدبي المعروف ستانلي أدجار هَيمان الذي كان يدرس معها في نفس الجامعة،عام 1940. انتقلا للعيش في مدينة صغيرة لحصول زوجها على عمل في جامعة بيننغتون وبهذا اصبحت (زوجة الأستاذ).

 شأنها شأن الكثير من النساء في ذلك الوقت، عَنَتْ بتربية أولادها الأربعة علاوة على الطبخ والشؤون المنزلية الأخرى. في عزلتها التي فرضتها على نفسها بسبب صحتها وخوفها من الأماكن المكشوفة، كتبت جاكسون العشرات من قصص الرعب القصيرة والروايات الخيالية على غرار (القُرعة)، مثل:الجلاد، الساعة الشمسية وعش الطيور التي تتسم بموضوعات غريبة، مخيفة، ترتعش لها الأبدان.لم تقتصر شيرلي، على هذا النوع من القصص فقط، بل كتبت الكثير من الأعمال المثيرة للسخرية والفكاهة، التي كانت ترسلها إلى المجلات النسوية الأدبية والصحف لدعم عائلتها مالياً، لتصبح فيما بَعد المورد الرئيسي للرزق مقارنة بما يستلمه زوجها من راتب جامعي متواضع، مِثل:”العيش وسط الوحوش” و”تربية الشياطين” اللتين تتطرقان إلى مغامرات أولادها.كانت ملحدة لا تؤمن بالتقاليد الاجتماعية التي تحد من حرية المرأة كما وكانت لديها نظرة ثاقبة لما يجري حولها في مجال السياسة. كانت من جملة الكتاب القلائل الذين كتبوا وانتقدوا وسلطوا الأضواء بصراحة ووضوح على التقاليد المتزمتة البالية والنظرة المتخلفة للمرأة والمعاناة اللاإنسانية، التي يرضخ الناس تحت ضيمها، في حقبة زمنية ترفض وتستنكر مثل هذا النوع من الكتابات أو الآراء. اشتهرت شيرلي، بعد نشر قصتها (اليانصيب)،في صحيفة النيويوركر عام 1948، التي اعتبرت فيما بعد، أفضل قصة قصيرة في تاريخ الأدب الأمريكي.

تناولت في  قصتها “اليانصيب”، طقساً بربرياً تقليدياً، يجري كل عام في قرية صغيرة، يلزم أهلها، برجم أحد أفرادها (أمرأة أو رجل، طفل أم شيخ) بقسوة ووحشية حتى الموت إن فاز “بقرعة اليانصيب”، إيمانا منهم في الحصول على موسم زراعي وفير، كما جاء على لسان العجوز ورنر أحد شخصيات القصة، مُردِداً المثَل القديم :”قُرعة حزيران، تعطي الذرة بالكيزان”. إن إدراج “القُرعة” في هذا المأثور الشعبي، يجعل كل ماهو لاعقلاني، (القتل)، أمرًا طبيعياً وحتمياً لقمع كل ماهو عقلاني(التغيير)، لإرغام الناس على السكوت وعدم التشكيك بالتقاليد القديمة المتوارثة، ما دفع بالعشرات من الشباب في قرى الشمال المجاورة، على الهجرة حفاظاً على حياتهم وتخلي بعض القُرى المجاورة عنه تماماً.

الكثير من الموضاعات التي تناولتها القصة، ما زالت، سارية في مجتمعاتنا اليوم: تبعية المرأة الكاملة للرجل وعدم امتلاكها حق التصويت. عن إدانتها للظلم وانتهاك حقوق الإنسان، في المجتمعات المتحضرة.كما جسّدت مواقف بعض النماذج من رجال الأعمال( السيد سمرس والسيد كًريفس) والإقطاعيين المسيطرين على مقدرات القرية، ومواصلة رفضهم التخلي عن بعض الرموز القديمة، كالمقعد الثلاثي الأرجل والصندوق الأسود المهترئ لإحكام الهيمنة على عقول الناس.

مقالات من نفس القسم