عيد خليفة
حظيت تجربة عمار علي حسن الروائية باستحسان القراء والنقاد والباحثين الأكاديميين ، وأبدع الكاتب في طرح إبداعه ورؤيته لأنموذج عربي خالص للواقعية السحرية ؛ حيث قدم إلى القارئ العربي تجربة مدهشة للواقعية السحرية المستمدة من الأدب العربي وحكايات التراث الشعبي المصري ، لم يقلد فيه أدب أمريكا اللاتينية في واقعيته السحرية ، وإنما نهل من المعين الشعبي المصري فتجد أجواء القرية الصعيدية بواقعيتها السحرية وضفاف النيل ورحلات الصوفية عبر دروب صحراء مصر الخلابة وقدوم العائلة المقدسة وحضور بعض الرسل والأنبياء الكرام إلى مصر.
وتتوافر في روايات الكاتب العديد من محاور الواقعية السحرية الرئيسة : العجائبي والأسطوري والسريالي ، المحور العجائبي تمثل في العجائبي الخارق المتمثل في الكرامات الصوفية والرحلات العجائبية ، والعجائبي الغيبي المتمثل في عالم الجن وصوت الهاتف المجهول ، والمسخ والتحول ، والاختفاء . والمحور الأسطوري الذي اشتمل على النبوءة التي وردت على لسان الشخصيات الدينية والصوفية والعرَّافة الغجرية ، وعودة الأموات إلى الحياة ، وحكاية الشجرة المباركة الخرافية . والمحور السريالي في عالم أحلام المنام وأحلام اليقظة ، والقلق والخوف والهذيان ، وتيار الوعي الذي دخل بالقارئ إلى العالم الداخلي لبعض الشخصيات الروائية مثل شخصية رفعت في رواية باب رزق.
في رواية جبل الطير نجد الرحلات العجائبية في رحلات سمحان بطل الرواية الذي سافر عبر الأزمنة الغابرة ؛ فالتقى بشخصيات عاشت في هذه الأزمنة ، فسمحان ارتحل إلى عصر الفراعنة في الفترة التي تلت حكم الملك إخناتون ، كما التقى بسيدنا يوسف عليه السلام في إحدى رحلاته وهي الرحلة التي سنتناولها بالدراسة والتحليل ؛ وذلك لثرائها العجائبي والأسطوري . وفي رحلة أخرى التقي بالعائلة المقدسة أثناء رحلتها إلى مصر فرارا من الإمبراطور الروماني الظالم . كما سافر إلى مدة الفتح الإسلامي لمصر ، وشاهد فتح المسلمين لأحد الحصون الرومانية في مصر . ولهذه الرحلات دلالة رمزية على حضور الموروث الثقافي الديني ، وما ينسج حوله من حكايات ربما جنحت إلى الأسطورة التي تلعب دورها في الأدب العجائبي ، وهذا ما لوحظ في استدعاء الكاتب لشخصية سيدنا يوسف – عليه السلام – في إحدى رحلات سمحان العجائبية ، وما نسجته الأسطورة الشعبية المصرية حول جمال سيدنا يوسف عليه السلام .
كما مثلت حالات العشق بين جنية وإنسي ، أو بين جني وإنسية ملمحا من قصص الخوارق التي تحفل بها الأسطورة العربية ، وقد احتفت بهذا العشق رواية شجرة العابد حين عشق عاكف بطل الرواية نمار الجنية التي هبطت إلى الأرض بحثا عن مكان الشجرة المباركة ؛ فأحبته ، وعاشت معه مدة طويلة ، شغلت النصف الأول من أحداث الرواية . وصنع حضور نمار الجنية الجميلة واقعا سحريا من خلال الرحلة التي قامت بها مع حبيبها الإنسي عاكف إلى القمر وبلاد الجن ، ومساعدتها له ؛ فظنه الناس من أهل الكرامات . كما أسهم عالم الجن في منح الرواية قدرا كبيرا من العجائبية ، وقد تمثل ذلك في حرص الجن على الوصول إلى الشجرة المباركة دون الإنس ؛ فأرسل ملك الجن نمار كي تصل إلى الشجرة عن طريق حبيبها الإنسي .
وفي رواية زهر الخريف تتجلى الوظيفة الإحيائية للتراث العربي من خلال الحلم بموت البطل على طريقة سيرة الظاهر بيبرس ، حين رأى بيبرس الملك الصالح في منامه ؛ فأمره أن يتخذ لنفسه بيتا في دار العقيق وهو المكان نفسه الذي دفن فيه الصالح أيوب ، ولما استيقظ بيبرس من نومه شرع في بناء قبر له . والاختلاف بين الحلمين يرجع إلى استيحاء الكاتب لنبوءة السيرة الشعبية دون النقل المباشر لطريقتها ، وهذا يحسب له في إبداعه لواقعية سحرية عربية مستمدة من التراث العربي .
ومن الملامح العربية للواقعية السحرية في روايات الكاتب وجود بعض الأدوات السحرية التي تمثلت في القُلة القناوية التي لا ينفذ ماؤها في رواية شجرة العابد ، والحصان الأسرع من الريح في رواية جبل الطير ، والأعداد السحرية في روايتي السلفي وجبل الطير . ومثل هذه الأدوات العجائبية السحرية تقابلنا كثيرا في التراث الحكائي العربي مثل المصباح السحري ، والقمقم ، والخرزة المسحورة في ” ألف ليلة وليلة ” ، وهذه الأدوات تضفي على القص نوعا من الانبهار والدهشة .
والعدد سبعة ” رقم سحري ، رقم الأسرار والغموض ، والتصوف والقداسة ، رقم أيام الأسبوع ، يكون صاحبه أحيانا مضطربا ، ومنطويا على نفسه مركزا على أفكاره الداخلية أكثر اهتماما بالواقع الداخلي منه بالعالم الخارجي ” . وقد تبوأ هذا العدد منزلة في التفكير البدائي لأغلب الشعوب ، وهو موجود في التقاليد والسحر والأساطير ؛ ففي أسطورة النسور السبعة في قصة لقمان بن عاد ، حيث كل شيء يتكرر سبع مرات : النسور السبعة ، والبيضات السبع ، والأمكنة السبعة ، والهواتف السبعة .
وتوظيف الكاتب للتراث الأسطوري في رواياته يجعلنا نؤمن أن تراثنا العربي والسير الشعبية والتراث الصوفي عوالم زاخرة بطاقات سحرية خلابة تبهر المتلقي ؛ فيجدر بأدبائنا أن ينهلوا من معينها بما يثري موضوعات الرواية المعاصرة ، كي يعبروا من خلالها عن القضايا السياسية والاجتماعية والفكرية الراهنة بأسلوب يثير وجدان المتلقي ، من دون أن يلجأ أدباؤنا إلى تقليد آداب غربية ، ومحاكاة ثقافاتها التي تختلف عن ثقافتنا وهويتنا المصرية العربية .
عمار عليوفي رواية سقوط الصمت دبت الحياة في مومياء الملك زوسر ، وخرجت من صندوقها الزجاجي القابع في المتحف المصري إلى ميدان التحرير ، وأخذت تتجول بين الثوار في مظاهرات ثورة 25 يناير . كما دبت الحياة في تمثال الزعيم عمر مكرم ، ثم دخل التمثال في حوار طويل مع شاب ثوري مثقف ، وكان الحوار تبرئة لساحة الزعيم أمام الأجيال التي لا تعرف عنه كثيرا ؛ فهو أزهري نابه ووطني مخلص دافع عن كرامة المصريين وحقوقهم المنهوبة ، وآثر في النهاية وحدتهم التي لو انقسمت؛ لحانت فرصة سانحة أمام من يتربص بمصر الدوائر .
لقد قام عمار علي حسن بتوظيف الواقعية السحرية في أعماله الروائية ، وصنع الكاتب عالما زاخرا بالحياة والحركة ، حيث امتزج فيه الواقعي بالسحري ؛ فصنع واقعا ورقيا نقرأ من خلاله الواقع قراءة جديدة لأهم القضايا الاجتماعية والسياسية التي تناولها الكاتب .
….
خلاصة، أطروحة جامعية نال عنها الباحث عيد خليفة درجة الماجستير بجامعة الأزهر، بعنوان “الواقعية السحرية في روايات عمار علي حسن .. دراسة نقدية “، وستنشر قريبا في كتاب عن دار إنسان للنشر والتوزيع تحت عنوان “أجنحة الخيال: الواقعية السحرية في روايات عمار علي حسن”.