“السندباد الأعمى” لبثينة العيسى.. الحكاية وليدة المفارقة  

السندباد الأعمى
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن إبراهيم

تبدأ سردية “السندباد الأعمى” للكاتبة بثينة العيسى (الصادرة عن منشورات تكوين ٢٠٢١) بمفارقة فادحة؛ مشهد فتح السجون الكويتية على هامش الغزو العراقي للكويت، وكحدث مؤسس، أضحت اللغة فيه تدرك سياقاتها على نحو مباغت لحدث مستقبلي في الحكاية، يقف وراءه الماضي دون مباشرة مدفوعًا بالحكي إلى الوراء. تبقى المفارقة فيه وليدة لحظة حدوثها، في مشهد هروب المساجين من سجن الدولة إلي سجن الاحتلال، دون أن يعي أحد الفرضية المتخيلة إثر ما خلفته السياقات في أفولها؛ تنحو الحكاية الأولى بمتنها إلى الهامش، ليس لأنها تملأ وعي المعنى بالفراغات، بل لأنها ترميه بثقوبها، فهي حكاية يتطرق فيها النص إلي حافة لا تقمع ذوات أبطالها دون أن تمنحهم صوتًا فرديًا في اللحظة التي تسخر فيها سطوح اللغة آليتها لتتغنى بالقضايا الكبرى؛ يغيب فيها البطل الأول للنص، بحدثه المفارق، ليصبح المتن ملتبسًا بالفرضيات، لا ليفرض سلطته في لحظة الحكي، بل لأن كل مفارقة فيه جديرة بالكتابة.

ولأن الصوت الذي تبنته بثينة العيسى ليس لغة تفتح على مجاز ما فقط، بل لأن كل لحظة تحضر أثناء كتابتها مفارقة تدرك شخوصها كأداة للمساءلة، وتفويض لحدث في المستقبل. تبقى فيها تقنية الفلاش فروود رؤية مرتدة إلى الماضي ترى اللحظة الآنية محض سؤال ينتظر سياقه فيما بعد، ليس فقط لتؤكد على حقيقة متوارية ليست عرضة للشك بل لتنفي يقينًا مسبقًا في اللحظة الراهنة.

يبدأ الفصل الأول بداية صفرية قبل البداية الأولى، كأن العيسى أرادت منحه صيغة مجردة في أفق ممتد  في حكايتها، ليس كصيغة تفاوضية بين تضادين، بل كأنها حكاية الهامش لهامش آخر، تقطع فيها فصول النص المرقمة بالتعاقب بين شخوصها، لتعلن عن كل صوت بما تحييه الحكاية الخطية للحدث المحوري، فالإشارة الأولي لشخصية نواف ظهرت في الفصل الصفري رغم أنها ترنو إلي هامش حدث آخر، لجريمة شرف وقعت ضحية نصها غير المكتمل، هو مصير كل سردياتها المبتورة التي تسعى فيها العيسى  للتساؤل عن كون هوية الحقيقة ناقصة، لا تسعها إلا كيفية التلقي لحدوثها، لتبرز الثنائيات باعتبارها إشكالية جدلية، ترثي المعنى دون منحه صيغة مجردة تعلو فوق صوت الحكاية وسياقها.

كل المحكيات الصغرى في سردية السندباد، تسعى للتلاشي بين النص؛ فإن كانت تبدو أنها حكاية واحدة يتخللها المعنى دون أن يقع في غرام الصوت المنفرد، فإن بثينة العيسى لم تسع فقط لتذويب حكاياتها بين النص، بل ظلت تترك ظلالها في وجود أجسادها الحقيقية، فشخصية مناير الطفلة التي تسائل بسرديتها غياب وجودها في ظل حضور سرديات الكبار، حتى توافههم بقيت تداري ما تراه الصغيرة قضية كبرى، هي اختفاء أمها نادية، في الحادثة العرضية التي ستبقى تظلل ذاكرة الطفلة بمعنى سيتكشف رويدًا في المستقبل، منحته مفردات لغتها ما يستعيره العنوان الجانبي للنص “أطلس البحر والحرب” جزءا من معناها؛ أن تتلمس الطفلة استعارتها التي وهبت لها دون أن تسعى إليها حاسة المعنى بأن تتخلل نقاء الطفولة بجهل هويتها الغائبة في سرديات العائلة، ودون أن تظل موسومة بها طوال النص بالاختفاء.

تبتر الحكاية وهي تسير على خطى الترقيم بست فواصل ورق مقوى؛ معلنة عن قطع شوط مما فات، مسماة دون إشارة واضحة كأنها عتبة تضمر معنى ما في أعماقها، ليس لتمد خيط الحكاية للأمام، لكن لترجع به للخلف بتعاقب البدايات، إلى قبل نكبة الغزو وما بعده، هي نقطة التحول في مصير الفرد والوطن، ومن إعادة صياغة الأشياء المجسدة إلى تجريدها من المعاني. هو أفق الطفلة الذي يتحول مع كل عقبة لا تدرك فيها سياقها المباغت، والذي سيترجم في المستقبل لنص يدون سقطات انفعالات نكبة العائلة في تعاملها مع عقباتها، دون أن تدرك حيثياتها، هنا يغدو ارتباطها بالواقع هو لحظة انفتاحها على المعنى، كأن الواقع دخيل استوطن ما خلقته هي من عالم آخر يحيك المعاني بعيدًا عن ازدواجيتها، كأرض بكر تنبت فيها الفكرة كعشبة ولدت في يباب.

يبرز العمى في النص لصيقا بالمعنى، يتبدد رويدًا في تضمينه للسياقات، فإن كانت سردية السندباد تهرب بعيدًا عن السرديات التي روتها وسائل الإعلام، فهي وليدة صوت طفلة لم تلوث رؤيتها بالثنائيات المبتذلة في استهلاكها لمفردات الغزو والعدوان دون أن تخفض صوت الأخوة حين فرقتها الدم، إن سردية مناير عن الغزو هي أداة النص الذي تبنته في أفق المعنى، رواية طفلة اصطدمت بمفردات الحرب الدخيلة على قواميسها، واحتلت اطلس كانت تتملكه لغتها، هوية وهبت بسردية الهامش، هي الحقيقة التي لم تتطرق إليها سردية الاحتلال، لكنها حضرت بصوت يتخلل بين نوتة الكبار، ليقدم مقترحًا جماليًا للغة وفي نفس الوقت، حقيقة متوارية خلف لغط الثرثرة.

هنا تسعى الحكاية  للانتصار لهامش ما، لا تسعه الكتابة فيه عن بؤرة واحدة تستوطن النص كرؤية شخص أعور يراها بعين واحدة، يمكن اعتبار ذلك هو الرهان الأساسي للغة، وليس التركيز على إضاءة أفق رئيسي تسير فيه شخوصها دون أن تتطرق إلي ذواتها المعتمة، أو أن تكون محكياتها الصغرى امتدادًا لمحكياتها الكبرى، فهي رواية عن السرديات المبتورة دون اكتمالها، وعن قصص الحب الضائعة في دورق الخسارات، وعن الشعارات السياسية التي تسقط مع معاركنا الصغيرة في وسط فجوة نكباتنا، وعن الفرد المقموع داخل مؤسسة الحياة بقوانينها الغير عادلة، وعن العدالة حين تبدو كتغريبة للحقيقة دون أن تكون صوتا ينفذ داخل جدارها العازل، وعن الاستعارة حين تغدو بديلًا للواقع، وحين يغدو الواقع بديلًا للاستعارة.  

مقالات من نفس القسم