دفء الكتابة فى “البيت الأوّلانى” لـ أمل رضوان

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

جمال فتحى

فعل الكتابة هو الفعل الذى يمكن الإنسان من اكتشاف ذاته وتجاوزها والاجتياز بها  حدود الزمان والمكان، وكما أن لكل كاتب ومبدع حقيقى فلسفته ورؤيته الخاصة  لنفسه وللعالم والوجود من حوله أو هكذا يجب أن  يكون، فمن الطبيعى أن يمتلك طريقته الخاصة أيضا فى صياغة تلك الرؤية وسردها بما يمنحه فرادة وتميزا بين أقرانه ويجعل له بصمة وأسلوبا يدل عليه، وهو ما استطاعت الكاتبة أمل رضوان تحقيقه والوصول إليه  فى مجموعتها القصصية "البيت الأولانى" الصادرة مؤخرا عن دار العين. 

حيث استطاعت عبر موهبة أصيلة فى الحكى أن تترك بصمتها الخاصة جدا على جبين الحكاية؛ ولما لا أليست الحكاية فن نسائى بالأساس؟! فقد جاءت كتابتها أو حكاياتها دافئة وعذبة؛ انسال سردها كنهر يتهادى بلا نتوءات أو صخور لغوية تعترض مجراه، فيما لم تعول فيها "أمل" كثيرا على التأليف وإنتاج الخيال بقدر ما كتبت عما عرفته وعاشته وخبرته، فكشفت ما فى الواقع من جمال يسكن التفاصيل الحيايتة الصغيرة التى تمتلىء بها حيواتنا جميعا، تحكيه بصدق وباقتصاد لغوى ينم عن دراية ووعى ونضج كبير  فى التعامل مع اللغة بعيدا عن التكلف والثرثرة.

قبضت "أمل رضوان" كذلك على لحظات إنسانية دافئة ومشاهد ولقطات حميمية جدا فى حياة شخصيات المجموعة، وأضاءت بأصالة وموهبة كبيرة نقاط معتمة، فى النفس الإنسانية بعد أن استطاعت بذكاء أن تقتنص وتحكى عن الإنسانى الذى يخص الجميع ولا يقف عند حدود شخوص حكاياتها.    

فالمجموعة التى تضم 22 قصة قصيرة تبدو للوهلة الأولى ومن خلال عناوينها مجموعة من القصص المستقلة جمعها كتاب، لكن الأمر عكس ذلك تماما، فالمجموعة ابتعدت عن كونها قصص قصيرة مستقلة لتقترب من عالم الرواية المتماسك والمترابط؛ فعالم القصص واحد مستمر ومتنامى وكذلك الشخوص؛ فهم أبطال حكاية واحدة طويلة أقرب إلى " نوفيلا" شاعت فيها رائحة السيرة الذاتية بقوة ولكنها ظلت سيرة مختبئة خلف الحكايات، وقد جاءت الحكايات أو الحكاية المتتالية كلحن واحد وجملة سردية طويلة لا اضطراب فيها ولا تفاوت مزعج، كأنها كتبت فى جلسة واحدة؛ استطاعت فيها الكاتبة الحفاظ على درجة حرارة الحكاية مستقرة وإيقاع السرد منتظم فلا نتوء ولا تعسف ولا مبالغات، وإنما اقتصاد لغوى واع تدرك صاحبته أن للسرد جمالياته المتنوعة وأقلها الزخارف اللغوية العقيمة.

ربما تورطت الكاتبة فى حكى ما حكى عنه كتاب آخرون بل وتناولته فنون أخرى كالسينما وغيرها بما يوحى بالتكرار، ففى قصتها الثانية ص 15 "مربى لارنج" تمركزت حكايتها عن علاقة بين أسرة مسلمة وجارتها المسيحية التى تسكن فى الشقة المقابلة، ورغم كون ذلك الوتر تحديدا قد عزفت عليه الكثير من الأصابع، لكن يظل سؤال الفن والأدب الرئيس هو كيف تقول؟ وليس ماذا تقول؟ وتظل قيمة المبدع وأصالته فى طريقة تناوله؛ فسرد أمل رضوان للقصة التى وصلت بنا إلى ما يشبه الحكمة المحفوظة بأننا كمصريين روح واحدة ونسيج واحد تجمعنا البسمة والمحنة وجه أصالته هو بساطة الحكاية وصدقها ودفئها الذى يمنحها القدرة على التجدد والبقاء.

مثال آخر يتجلى فيه ذلك المعيار وهو قصة "الليلة عيد" ص41 وتحكى فيه عن عذابات الختان للبنت وكابوسه المرعب لكنها ورغم استهلاك تلك القضية على أكثر من مستوى عبر الأدب والسينما، بل وإعلانات التوعية وغيرها، فقد استطاعت أن توحى لى بأننى أتعرف على ذلك العالم للمرة الأولى فى حياتى، حيث استطاعت بقدرة ومهارة غير عابئة بحساسية الحدث أن تسرده بطريقة مدهشة ، فضلا عما تمتعت به فى تلك القصة وغيرها من دربة فى تطويع لغة السرد لأجل استيعاب رغبتها فى المزيد من الصراحة المؤلمة، لتدل على كاتبة لا يشغلها حين تكتب إلا الهموم الجمالية فقط.

همومها كأنثى وهموم غيرها فى مجتمع يصنف الأنثى كإنسان ومواطن من درجة الثانية  لم تظهر فقط فى قصة " ليلة العيد" ولكن فى الكثير من قصص المجموعة، تجلى ذلك منذ القصة الأولى " مسحوق الزهرة .." ص9 وفيها سعدية بنت أم صابر الشغالة التى يغرر بها " سيدها " وتنجب منه ابنا تتخلص منه أمها بالتعاون مع " الست هانم " زوجة البيه  تلاشيا للفضايح ، وكذلك حملت العديد من القصص هموم الأنثى التى لا يترك الرجال فرصها إلا وتحرشوا بها ..وتكرر أمر عبث الرجال وقرصهم أثداء الصغيرات  كثيرا فى المجموعة فى غير موضع إشارة إلى التحرش بالفتيات والصبايا ، والحقيقة أن الكاتبة لم تسرده كحدث مهم أو لافت يجب التوقف أمامه أو لجلب المزيد من التعاطف أو كشف سوءات المجتمع أولفت الأنظار لأوضاع الفتيات أو النساء فى مصر ولكن وذلك هو الأهم على الإطلاق أنها بذكاء وموهبة وفى أقل مساحة من العرض والسرد طرحت المسألة وكأنها تحكى عن العادى والمألوف بشكل يقنعك بأن ليس ثمة ما يدهش فيما يدور فهذا هو الطبيعى وهذا ما يجرى لكل بنت فى كل لجظة ، وهى المفارقة التى تصطدمك وتصعد بالدلالة إلى أعلى مستوى من التأثير وذلك ما أشرت إليه آنفا من طريقة التناول التى قصدتها ، فعدد من تكلموا عما تعانيه المرأة والفتاة المصرية من مضايقات وتحرشات متواصلة وفى مكان تواجدت فيه لا يحصى لكن من منهم تركت أعماله التأثير المطلوب ؟

 اعتمدت أمل قاموسا خاصا بها ناسب حالتها جدا وانسجم مع تجربتها فى المجموعة ومع الجو النفسى الذى أحاط بالقصص من البداية للنهاية ، ومن أهم أوجه أصالة أمل رضوان اللافتة أن كتابتها لا تشبه كتابة أحد ولا تساير موجة أو طريقة ما فى الكتابات الجديدة ، فقط كتابة واثقة تدرك جيدا ما الذى تريد أن تحكيه كما ما تدرك كيف تحكيه ولماذا ؟

فيما طل حسها الساخر من حين لآخر كمرطب طبيعى فطنت إليه الكاتبة ليرطب ما جففته الحكايات التى غابت عنها البهجة  وكانت سخرية غير مفتعلة  وإنما استلتها الكاتبة من طيات الحدث تماما كما فى قصة " الشوكة والمعلقة ط ص71 وفيها تحكى عن " سيادة " التى طلقها زوجها لأنها " تأكل الرز بالشوكة " على حد وصف الكاتبة  ، كما طلت المفارقة برأسها غير مرة فى طيات القصص ؛ عندما استعانت بها الكاتبة لتكثيف معنى من المعانى متلاشية الثرثرة ومنسجمة مع الضرورة  الجمالية لفن القصة القصيرة وما آل إليه حيث صار من لوازمها  التكثيف والاختزال و الومضات التعبيرية التى تكتنز الكثير من الحكى وخاصة فى نهاية أو ختام القصص التى أصرت الكاتبة أن يأتى أحيانا موجز وصادم يشبه نهايات القصائد الشعرية  كما فى قصتها " ترتيلة الكاف " ص 27 عندما تختم القصة بكلمات مثل : " أمى مكومة على الارض وجلبابها مشلوح حتى الفخذين وبجوارها الديك الرومى الذبيح وقد توقف انتفاضه ونزيفه "، وكذلك قصة الليلة عيد ص49 " حيث تقول " كرهت اللون الأصفر ، واللون الأحمر ، وسيرة الأعياد ، وزوجة الأبواب ، وكرهت أمها " وهنا النهاية

وفى قصة قص ولزق تختم بقولها " فتحت نجاة فمها فيما يشبه الابتسامة لكننى لاول مرة لم أر غمازتيها"، أما فى قصة "حبيب العمر" ص 105 تقول عن الصبى صلاح المريض بالعته المنغولى " بدأ ينتحب بصوت عال مرددا "ابيب العم .ابيب العم " بنغمة جنائزية موجعة، وكلها كما يبدو نهايات شبه شعرية تعتمد التكثيف واللغة المجازية وكأنها تعيد تلخيص القصة بأكملها فى كلماتها الأخيرة تاركة القارىء فى أشد حالات التأثر عبر المفارقة الصادمة 

مقالات من نفس القسم