حسام المقدم
الجميع كانوا على عِلم بالحَظْر الليلي المفروض على كلّ المحافظات، ضِمن إجراءات أخرى مُشدّدة، في زمن وباء “كُورونا” الرّهيب. النّمل أيضا والكائنات الأخرى لم يُغامروا بالخروج من البيات الشّتوي رغم سُخونة الرّبيع البادئ.. إلا العفريت “زياد” ابني!
انقطع صوتي وأنا أُردّد أمامه: الحظر ليس لعبة، والحكومة لن تتهاون حتّى مع العيال! دلَّلتُ على كلامي بِعَرض مقطع على يوتيوب، يُصوّر رجال الشرطة وهم يهبطون من عربتهم، تجاه طفل يحبو وحيدا في الشارع الخالي بإحدى القُرى. بسرعة تَمَّ التقاط الولد الهائم، وتعقيم ملابسه ويديه وباقي جسمه بالكُحول، بعد ذلك حملَه أحدهم ومَشى خطوات مُتلفِّتا، ثم طرَقَ أقرب باب. خرجت امرأة ملهوفة ترى ابنها الرضيع في يد الشرطة. كلمات قليلة حاسمة، وسحبت نفسها وأغلقت بابها بصوت مُفرقع.
لا تخرجوا من منازلكم إلا للضرورة القُصوى، وُجوب ارتداء الكمامة في الأماكن العامّة، تعليم أولادكم سيكون عن بُعْد بتفعيل المنظومة الإلكترونية… كنا نُطالع، ونسمع النداءات، هنا في مدينتنا الصغيرة، وفي العالم كله، خصوصا تلك الدول التي أكلَ الوباء أرواح أبنائها بشراهَة تتزايد يوما بعد يوم. وفي الحقيقة جاء رَدّ فِعلنا غير مُتوقَّع، من شَعب يُطلِق النُّكات دائما على الحياة وأحوالها، وعلى الموت أيضا بلا حساسيّة.. (أنا شخصيّا صاحب النُّكتة، التي كانت مجرد بُوست صغير على صفحتي بالفيس، ثم انتشرت بسرعة كبيرة: نِداء إلى آخِر مريض بِكورونا.. قبل أن تموت، تَأكَّد من إغلاق النوافذ جيدا وأَطفِئ الكهرباء، ثم اترُك مفتاح الشّقة تحت الدّوّاسَة أمام الباب للأجيال القادمة!). أظنُّ أنّ حُكومتنا، وبعد أن جَهَّزت نفسها للبَطش بالمُخالفين، تفاجَأتْ بقُدرتنا على النِضال من أجل التحكُّم في طِباعنا العتيدة وألسِنَتِنا الحاميَة، وكيف استسلَمنا، رغم الأسَى الكبير، لحالة الإغلاق الكامل للكافيتريات والمقاهي العزيزة على مزاجنا، ابن المُدُن التي لا تنام تقريبا طوال الأربع والعشرين ساعة. وباستثناء قِلّة تحايَلتْ على الأوضاع الصعبة؛ تجاوَبنا مع الإجراءات، وصولا إلى المساهمة في حظر حركة كائنات نستطيع منعها نسبيّا، مثل القطط الشاردة وكلاب الشوارع.
تشاغَلنا بأي شيء يُنسينا العُزلة وخَيبَة القَعدة في البيت. أدركنا كميّة الطاقة المَهولة الكامنة في أولادنا، وعرفنا حقا حَجم الشَّر الذي تمتصه المدرسة من هؤلاء الشياطين، ومدى الانفجارات التي تحتويها وتُخمِدها الدُّروس الخارجيّة طول النهار. بدأت أرى “زياد”، ابن خامسة ابتدائي، كأنّه يكتشف نفسه من جديد، يُجرّب كل ما يُمكن من ألعاب وحركات في حيِّز الشَّقة المحدود. امتدَّ سَهرُه حتى الفجر، بعد أن اكتملَ فراغه بإعلان وزير التعليم إلغاء امتحانات آخر العام. في مرّة كِدتُ أن أرميه من البلكونة فعلا. أمسكتُه من رِجليه، تَدلَّى مرعوبا بعينين مفزوعتين، ليحلف مُرتجِفا بأنه سَيكفُّ عن المقالب الزائدة عن الحَدّ مع أخيه الصغير “عَمرو”. ظلّت الحرب تدور طول اليوم للسيطرة عليهما، وهذا تطلَّبَ عَصبيّة واستنفار دائم بيني وبين أُمهما. لكن ما صَبَّرنا قليلا، أننا رحنا نتبادل الفيديوهات والتعليقات في رسائل الواتس والماسينجر ومُشاركات الفيس. مقاطع كثيرة حَيّة، تجعلك تمطّ شفتيك في تَأثُّر، أو ربّما في لامبالاة.. في واحد منها يظهر ولد جالس بشكل عادي مع التابلت، وفجأة يَحدف أخاه بالجهاز في دماغه. بعد “آه” مُتوجِعة عالية، يقوم المضروب ويحمل اللاب توب فجأة ويَدشُّه فوق جسد شقيقه. في فيديو آخر يبدو أن الذي صَوّره هو الابن أو الابنة لذلك الزوج الذي يقبض على شَعر زوجته، صارخا بأنه طلبَ قهوة من ساعة، بينما ترد هي بصعوبة، مُحاولةً أن تتخلّص منه: “عَمَلْتها والله والفنجان جَنبك”! لم تكن المشاهد كلها عبثيّة، كان منها المُوجِع، مثل تجمهُر أهل قرية في الشوارع، ومُطاردتهم لعَربة الإسعاف، رافضين دَفن أحد الأموات المُصابين بكُورونا. هناك مقطع اجتذبَ كثيرين، فيه تنطلق مجموعة كبيرة من القُرود الهائجة في ساحة واسعة بإحدى المُدن الأسيويّة الخالية، يتلو ذلك مشهدا لخنازير بَريّة تَتشمّم الأرض في مدينة إيطالية. تعليقًا على الفيديو الفريد؛ ارتفعَ صوت أحد الدُّعاة: “انظروا إلى هذه المخلوقات وقد عادت تسكن الأرض كما كانت، اختفى الإنسان المغرور بماله وعِلمه، وجاءت الحيوانات تمشي بأمان وتعيش في مُدُنه ذات الأبراج والقصور. تأَمَّلُوا وتدَبَّروا: الزّمن يرجع بظَهْره إلى بداية الخَلْق”.
عشنا إحساسًا مُؤكَّدا أنّ العالم تحت نفس المَظلة. لم نكن نعلم أن شقتنا الصغيرة ستتخلَّى مُؤقّتا عن الالتزام الإجباري بالعُزلة، لتبحث عن الملعون زياد، الذي اختفى بعد أن نزل ليشتري طَلَبات البيت من السوبر ماركت المجاور!
بعد ثُلث ساعة من خروجه قمتُ ونظرتُ من البلكونة، تلفَتُّ في النّاحيتين، وعدتُ للجلوس في الصالة. تمَلملتُ في جلستي، ناديتُ على أُمّه الغائبة في المطبخ، قلت إن الولد لم يرجع من نصف ساعة. لم تهتم، قالت إنه سيأتي، وأين يذهب في هذه الدنيا المقفولة. ساعة إلا ثُلث ولم يعُد، أكلَني قلبي، لابد أن أتصرّف. لبستُ القميص والبنطلون بسرعة، ووضعتُ الكِمامة الزرقاء على وجهي. قفزتُ درجات السلّم اثنتين اثنتين.
الشارع في التاسعة ليلا يبدو كأنه في الفجر. بَرد مارس يلسع الأجسام، أغلقتُ زرار القميص الأخير. رفعتُ رأسي إلى بلكونتي في الثّالث، رأيتُ عَمرو وأُمّه واقفيْن في قلقٍ يُتابعانني. بعد خُطوات دخلتُ السُّوبر ماركت، كان عَمّ أحمد مُتوحّدا مع أخبار التليفزيون عن كُورونا، سألته عن زياد.. قال إنّه أخذَ الطّلَبات فِعلا، ومشَى ناحية الجامع الكبير.
لا ديناصورات ولا عفاريت، الجِنّ الأحمر نفسه لم يُقابلني طوال طريقي. عفريت واحد فقط سار هنا منذ قليل! فكرتُ في المحَلّات الأخرى التي قد يكون ذهب إليها لاستكمال ما ينقُصه. ظللتُ ماشيا أتلفّت، تجاوزتُ الجامع، ومدرسة التحرير، ولا أثَر لبَشَر. حقيقة مُوجعة أنني وحيد في الشارع، وأنّ كلّ هذه الشُّقَق المُضاءة ليس فيها ولد واحد يُضاف إلى المُتهوّر الذي أبحث عنه. هل انطمسَ مُخّه لهذه الدّرجة، ألا يسمعنا طُول النّهار نتكلّم عن الحظْر والعَدوَى والزيادة اليومية لعدد الحالات المحجوزة في العَزْل؟ انحرفتُ عابرا الساحة أمام مركز الشباب، تسمرّتُ في مكاني واضعا يديّ في وَسطي، أين أتّجه؟ رأيتُ شبحا قادما من بعيد، سرتُ ناحيته، حتى تقابلنا وتبادلنا نظرات التّوجُّس دون كلمة. أخرجتُ الموبايل: فاتت ساعة منذ خروجي للبحث، من المُحتمل أن يكون رجعَ إلى البيت من شارع آخر.
رجعتُ بخطوات أوسع. عبرتُ من شوارع جانبية، أفضَتْ بي إلى شارعنا مرّة أخرى. التفتُّ إلى أحد التّقاطُعات فرأيتُ عِدّة رجال وشباب تغيب وجوههم خلف الكِمامات. دار ذهني في أمور مشبوهة يفعلها هؤلاء، بوجودهم في هذا المكان المُتواري، رغم التعليمات الصّارمة بعدم التّجمُّع. لم أُصدّق عينيّ، خفق قلبي بقوة، حين لمحتُ زياد قادما من بينهم. لم يتفاجَأ برؤيتي، جرَى نحوي بِفَرحة رافعا أحد الأكياس. أمسكتُه من ياقته بعنف: أين كُنتَ يا ابن ال.. استمرّ في الضحك، محاولا التّخلّص من يدي. أعطاني الكيس، نظرتُ فيه فوجدتُ عُلبة كِمامات سوداء. قال إنه سأل عمّ أحمد فلم يجد عنده، وأن أحد الواقفين لحظتها أخبره عن مكان قريب يبيع كِمامات “قُطُونيل” الممتازة، التي تُغسَل وتُستخدَم أكثر من مرّة. باقي القصة الخائبة أنه ذهب ووجد زحاما على المحلّ الصغير، فوقف مع الآخرين المُنتظرين في طابور.
عُدنا لنجد أُمّه وأخاه في لهفَة أمام مدخل العمارة. أخذتُ الأكياس وتركتُه لها. أخذَتْهُ من أُذنه، وصعدتْ به وهو يَتلوّى.