درويش

كرم الصباغ
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 كرم الصباغ

يقع ضريح سيدي “دمين” في وسط باحة واسعة، تحيط به القبور من جميع الزوايا. ما إن تدخل المقام، حتى تشم بخورا يصعد من المباخر الفضية، ذلك البخور الذي أرخى على المقام دثارا من الوقار والمهابة؛ فتسري في بدنك القشعريرة. ولكن ما إن ترى الستان الذي يغطي الستر والمقام، حتى ترتع عيناك في حقل أخضر؛ فتسري في قلبك الطمأنينة. إذا رددت بصرك بين أرجاء المكان؛ فسوف تبصر طلاء لبنيا يغطي الجدران، وسوف تبصر مسابح بيضاء تزين الجدران، وقناديل متدلية كثمار يانعة، وسقفا خشبيا عتيقا تزينه النقوش والزخارف الملونة. في منتصف الضريح سوف تقف طويلا أمام صندوق النذور. سوف ترى عندئذ مكعبا حديديا ضخما يتكئ على أرجل الفولاذ، التي ثبتت في الأرض، بعد أن طرحت عليها قصاع الخرسانة. وسوف تبصر أقفالا صدئة تقبض على قطع الجنزير؛ كي تحكم إغلاق الصندوق في وجوه أصحاب الأيدي العابثة. الضريح مكتظ اليوم برواد وزائرين يدخلون ويخرجون؛ فترى دموعا تسيل، وتسمع فاتحة تقرأ، وتمتمات تنثال، ويخترق أذنيك صوت عريض جهوري يهتف بكلمة اسع؛ فيسارع الناس إلى الخروج؛ ليحل محلهم آخرون. حنجرة قوية، وصوت كطبل يطرقه درويش في ثياب رثة، رجل أشعث الشعر، يتطاير الزبد الأبيض من فمه. إنه الشيخ صديق، وارث الطريقة وخادم الضريح، رجل نسجت حوله الأساطير؛ لم يعرف أحد شيئا عن نسبه أوموطنه. نام الجميع، وفي غفلة انشقت الأرض أوفتح رتق في السماء؛ فظهر الرجل، ومنذ ذلك اليوم وهويلازم باب المقام، ولا يبرحه. أمن الشق خرج، أم من الرتق هبط؟! لم يدر أحد.

 

(٢)

خيول عربية تتبارى في دائرة الرمل الواسعة، وفرسان على صهوات الخيل يلوحون بالشيلان البيضاء، وجموع مبهورة تبعثر الصيحات النابضة بحماس، ومهرة عربية مزينة بالسروج الملونة تقتحم الساحة، وتنهمك في الرقص على انغام المزمار، وباعة احتلوا الطرقات المؤدية إلى الضريح، وعلى جانبي الطرقات ظهرت أكوام الحمص والحلاوة. وجر باعة آخرون عربات البطاطا المدخنة، والترمس وحب العزيز. النساء يتوافدن على فتارين الأساور، والسلاسل، والحلقان، وأعينهن من خلف البراقع تلتهم زجاجات العطر والطرح الملونة. والصغار التصقت أعينهم بفرش اللعب والطراطير. وأصوات الزمامير، وألوانها أشاعت البهجة في المكان؛ إذ أحدثت أصواتها صخبا مرنما، وتلونت أجسامها البلاستيكية بألوان الطيف السبعة، التي غازلت أعين الأطفال من بعيد؛ فراحوا يتذمرون، ويتعجلون الشراء. جموع هائلة من البشر، وفي قلب الزحام اندس حفنة من سارقي البهجة، راحت أيديهم الخفيفة تشرط الجيوب وتخلف الحسرات في القلوب. كما اندس فتيان تعمدوا الاحتكاك بأجساد النساء، ومغازلة بنات كالورد لوّنّ الساحة بأطياف من السحر والجمال.

 (٣)

 كان الشيخ صديق على عهده بالباب تلتهم عيناه الواسعتان أمواس المزين المسترسلة في ختان أطفال النجع الصارخين. المزين يجز أطراف القلف، والدرويش يستقبل المختون لتوه، فيطرح عليه ثوبا فضفاضا، ويتمتم بألفاظ هامسة، وفي نهاية الرقية، يمسح رأس الطفل بأصابعه الغليظة المتشققة؛ والأمهات يسرعن إلى أطفالهن، وينزعن ثيابهم المختلطة بالدم، ويستبدلنها بقفاطين بيضاء نظيفة، رسمت علي ظهورها أكف حمراء على هيئة (خمسة وخميسة). المختون يبدوفي أوج أبهته، لولا دموعه الغزيرة، والأمهات يطلقن الزغاريد، ويضعن المقسوم في يد الدرويش، ويغادرن المكان بأطفالهن الباكين.

 (٤)

 يوم كالعيد، ومع حلول المساء يأبى المولد أن يغرق في الظلام؛ فترسل مصابيح النيون الملونة هالات الضوء؛ فتبهر العيون، وتحول الليل إلى نهار. بجوار الضريح تمايل المداح، واصطف الحاضرون في صفوف، وراحت ألسنتهم تلهج بذكر اسم الجلال. مداح سكر بخمرة العشق؛ فالتمس حبال المدد الموصول بالسماء، وارتشف في شغف كؤوس صفاء، وتعنى بحب آل البيت الأطهار. ودراويش كفراشات أحرقها الوجد، تمايلت صفوفهم كأمواج راحت تعلو وتهبط مع ابتهالات المداح المحموم. غاصت ساحة المولد في بحر شفاف من الأنس، وسبحت أرواح الحشود في الملكوت. عيد، والحشود تخشى انقضاء الليلة الكبيرة العامرة؛ فراحت تستجدي من الليل البقاء، ولكن من فرط المتعة انفرطت حبات الوقت سريعا، فمرت الساعات كدقائق حالمة، وبزغ الفجر الخجول؛ فلملم الباعة بقايا بضائعهم، وغادروا الساحة، وعاد الناس، منتشين بخمرة المولد إلى الدور؛ فأسلموا أبدانهم إلى لذة النوم الطويل.

 ( ٥)

 مع وهج الضحى خرج الفتيان الكسالى بالمواعز والخراف والنعاج إلى ساحة المولد الفارغة؛ فراحت القطعان تتغذى على بقايا أطعمة الليلة الكبيرة. ولما أغوى الفراغ عقول الرعاة، توجهوا صوب الضريح، قاصدين التلهي بدرويش الباب. سيتوارون- بلا شك- بعيدا، وسيرجمونه بالحصى، وسيغرقون في سيل السباب المنهمر من حنجرة الشيخ صديق، وسيكتمون ضحكاتهم الماجنة، وسيقضون النهار في تعكير صفو الدرويش المستشيط غضبا. دنت جموع الفتيان، ولما صوبوا الحصى، لم يجبهم غير السكون؛ فأصروا على إيقاظ الدرويش النائم المتكور في ثيابه الرثة. أعادوا المحاولة؛ فانهمر الحصى من جديد على جسده، ولما لم تصدر منه أية حركة، سرت رعدة في أوصالهم، وأعادوا الكرة للمرة الثالثة، ولما لم يتحرك، ذهبت بهم الظنون إلى المنتهى، ووقع في خلدهم أن الرجل فارق الحياة؛ فاتجهوا صوب الجسد الهامد، عندئذ لطمتهم الدهشة؛ إذ وجدوا جلبابا رثا محشوا بالقش. ووجدوا عمامة محشوة بالورق، لكنهم لم يجدوا الدرويش نفسه. ونظر الفتيان إلى جوف الضريح؛ فأبصروا صندوق النذور مفتوحا وفارغا، أعادوا النظر؛ فأبصروا المقام عاريا منزوع الزينة. لقد سرق أحدهم كل شيء: المباخر الفضية، ومسابح الجدران، وقناديل السقف، حتى ستر الستان الأخضر، لم يسلم من يد السارق الآثمة. انسل الفتيان، وعادوا إلى النجع بأغنامهم، وراحوا يقصون الخبر على الأهالي الذين صدموا، وباتوا غير مصدقين أن يتحول الشيخ صديق في غمضة عين إلى متهم تحوم حوله الشكوك. ولكن سرعان ما ثبتت إدانته، عندما عاد رجال إلى النجع؛ فأخبروا الأهالي أنهم لمحوا رجلا أشعث في ثياب رثة يهيم على وجهه في الصحراء يجرجر جوالا منتفخا من الخيش. تفرق الناس، وعادوا إلى ديارهم بعد أن خيم الحزن على قلوبهم. مر نهار ونهار، وفي اليوم الثالث خرج الفتيان بمواعزهم ، ولما لجأوا في الظهيرة إلى ظل الضريح؛ ليتقوا شمس الهجير، صعقتهم رؤية الشيخ صديق وقد لزم الباب كما جرت العادة، وحينما تقدم الفتيان نحوه، قاصدين البطش به، تبسم ضاحكا، وأشار إلى الضريح الذي اكتسى من الداخل بحلل زاهية، والذي تزين بقناديل صافية، ومباخر فضية لامعة، ومسابح كفلق الصبح، وقماش أخضر جديد. عندئذ هدأت ثائرة الفتيان، ونظر بعضهم إلى بعض، ثم سلطوا أعينهم على صندوق النذور الذي أحكم إغلاقه مرة أخرى؛ فنهض الدرويش في صمت، وفتح الأقفال الصدئة بمفاتيح أخرجها من بين طيات ثيابه، وأزاح الغطاء الحديدي بتؤدة؛ فاندهش الفتيان من جديد؛ إذ أبصروا الصندوق ممتلئا بأوراق العملة المتغضنة.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون