عدو النعمة.. ونصوص أخرى

محمد فيض خالد
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد فيض خالد

عدو النِّعمة

لم يكن على الهَيئةِ التي ترَكتهُ عليها آخرَ مرةٍ، تبدّى سمينا ليّنَ العود بعدَ جَفَافٍ، اعرف عنه البُخل والتَّقتير، وحُبّه القرش لدرجةِ العبادة، قالوا لقد انتفشت حاله بعد إذ تَحنّنَ عليِه المعلم ” عَزب”، فجعله ضمن حاشيته، والمعلم ” عَزب” لمن يجَهله، مُتَعهِّد حفلات كبير لا يُشقّ له غبار، يطوف شرقا وغربا في أفراحِ ومآتم وانتخابات، يعرفه عِلية القوم وأسافِلها، طَالعت سِحنَته التي تمشّت الحُمرَة فيها بعد احتراقٍ، فبَدت بَشرته زاهية تتَلألأ، إِذ ارتَوت من خَيراتِ المَوائد العَامرةُ وأطايبها.

تَشعّ عَيناه بوميضٍ مخيف ساعة يقَصُّ على جُلسائهِ مظاهر الأُبَّهة ولذائذ الأطعمة والأشربة التي صُفّت، وكيفَ تنَقُله بينها كَعصفُورٍ رشيق، يقَتطِفُ من خيراتها بلا حِساب، بيد أنّ طبعه يُغالِبه، فيتبع كلامه بنبرةٍ سَخيفٍة، يغلفها الكَمد يَعتصِر نفسه المُشتتَّة، يقول مُتنهِّدا:” حظوظ وأرزاق، ومال سايب زي الرز مع ناس ولا تسوا “، وكأنّه يَسترجعُ سَريعا سنوات عمره التي انفرطت مثل حَباتِ عقدٍ، يخبرني أكثر من واحدٍ أنّه جَشعٌ حَقود، يسَتكثرُ الزِّرقَ في العباد.

يحسب لوقع قدمه ألف حساب حتى ضاق بطباع نفسه، يلومها حين سماع أثر نعمة على صَديقٍ من أقرانهِ، يَظل على ثوَرتهَ واهتياجه يتَحرَّق، يُعنِّف قدره الذي أوكَلَ أمر الدُّنيا لأُناسٍ أنصاف، حِين بَخِلَ عليهِ وهو المُجِدّ الساعي، حاول أكثر من مرةٍ أن يلبس أسَمال الزُّهاد، يصبغ سِحنته بأصباغِ القانعين بقضاءِ الله وقدره، لكنَّه يفَشلُ في الأخيرِ، يَصرخُ مهتاجا:” الرزق أعمى “، يخيفك مرآه حين تعلو نبرته مُعنِّفا أولاده يَعدّ عليهم أنفاسهم، مبَدأه:” لا تترك ابنك يملأ بطنه من العيش أبدا، فذلك أنفع له وأحرى ألا يصاب بتخمة تضعفه “، في فترتهِ الأخيرة اعتلَ مزاجه، واختَلَ توازنه، لا تغَمض عينه إلّا لِماما، يَنامُ قَلقِا، لو استطاع لأغمضَ عين وفَتحَ الثانية، يقولُ في ثقةِ المُجرِّب:” إنَّ النَّوم فشل لا أؤمن به أبدا، هو حيلة البليد الذي لا يجد معه استكانة “، زُرته منذ أيامَ فوجدته مُعتلَّ الصِّحة، وصُفرة فاقعة تَفشَّت في جِلدهِ، فاختلط الأسود بالأصفر في هَالةٍ باهتة، تُنذر بانتكاسةٍ قريبة، إن لم تتَداركه رحمة الله، يتَهامس في وسوسةٍ حِينا، يُؤشِّر بيديهِ حِينا في لوثةٍ مُقلقة، يَهُبُّ واقفا يخطو بضع خُطواتٍ قبلَ أن يعودَ مَحله ثانيةً، تَعوّد الصَّمت اهملَ مُشاركة جُلساؤه، يكتفي بنظرةَ حَمئة، يتَفحّص بها الجَمع في تَوجّسٍ مُزعج، ثم يبدأ في وصلةِ ضَجره، صَحىَ رفِاقه يَوما فلم يعثروا عليه، وجدوه جَالِسا بينَ أكداسِ القمامة زاعِقا بصوتهِ مُتوعِّدا، أولئك الَخونة الذين سرَقوا حَظَّه من الدُّنيا، ولابُدَّ من تأديبهم، يَوما بعد يوم تسوء حاله، ليجد نفسه على متنِ طائرةٍ عاَئِدا إلى الدِّيارِ، وإلى جوارهِ مرافقهُ، يُخبِّئ إبرة المُخدِّر يَستعملها عند اللُّزوم.

**

ع النَّاصية

لمَحتهُ لأوَّلِ مَرّةٍ أصيل يَومٍ صَائف، يُمرّر كُمّ جلبابٍ صَعيديٍّ واسع، يَزيحُ في عَصبيةٍ عن وجههِ المُغضّن خُيوطا رفيعة من العَرقِ، يَضربُ كَفا بكف فيما يُشبه الهَوس، مُحوقِلا يتَعالى صراخه من فَينةٍ لأخرى، في زَعيقٍ مُخيف يُنبىء عَنْ أنّ صَاحبه فّي ورطةٍ مُؤكّدة، يَتحرّك مُهتَز العُود يَحترقُ غَضبا بِضع خطوات ٍ، قد امسكَ بَطرفِ جِلبابه تَرتعش يده التي تيبّست عليهِ، رَيثما يَعودُ سيرته الأولى مُستَظلا  تحتَ شٍجرةٍ هزيلة الظّل، يَرمي ببصرٍ حَاد بينَ طَبقاتِ الفضاء المُلتَهِب، يَقرضُ أنياب الغيظ، وكَأنّما يُطالِعُ شَبحا تَراءى يُخايله في اجتراءٍ، بيد أنّه في غربته تلك لم يسلم من فضولِ بعض المارة  الذين اغرقوه بتعليقاتهم السَّخيفة، وتلك عادتهم، حين تهافتوا عليه كالذباب، جذبتهم نبرة صوته وحركات تمثيلية اندمجَ فيها في عَفويةٍ، وأيمانٍ مُغلَظةٍ تتطايرُ يَمنةً ويَسرة، وهيئته التي جَعلت منه صَيدا ثَمينا لعَدساتِ هواتفهم المحمولة، وكَأنَّ مَخلوقا هَبطَ من كَوكبٍ آخر.

لم يجد مِن بُدٍّ إلّا أن يَندفع في عِمايةٍ، ليشرع فيّ وصلةِ سِبابٍ فاحش، بعد إد يَئس فيّ رَدِّ مهاتراتهم، وتْلك طَبيعة الجَنوبّي حين يشعر بالامتهانِ عندها ينتصر لكرامتهِ مَهما كاَنت الكُلفة، انصرفَ القومُ عنه بعد لأيٍّ؛ ليعود صاحبنا أدراجه حيث كان مُكفَهرّ الوجه يُكمل مكالمته وكأنَّ شيئا لم يحدث، من الوَهلةِ الأولى لم نكَن على وِفاقٍ، فتحياتي التي ألُقيها حَارّة عليه معَ كُلِّ مَرةٍ، لم تصنع منه ذلك الشَّخص الودود الذيّ يَردُّ سَلاما بسلام، جَاهدتُ طويلا في تنويعِ نغمات صوتي ومخارج حروفي، لكنّي فشلت، حتّى اللحظة لا اعرف سِرّ تصميمه المُخيف وترفعه، كيف لا يَرد السَّلام يا له من جِلفٍ سخيف، حاولت مرارا الاقتراب منه، صدقني لا اعرف مُؤتى تلك المغامرة فلم احسب لها حساب، لكَنّي تَوقّفتُ حينما اعتبرتها نوعٌ من المُخَاطرةِ، خاصة والرجل في هَيكلهِ يبدو كوَحشٍ ضاري، يتراقص شاربه الفِضيّ الطَّويل كقرونِ الجَاموس فوقَ شِفاهٍ سَمراء، نظره الَحادّ المُخيف، ووجهه العبوس الذي لم تبلّ جلده الابتسامة يوما، ناهيك عن جبَهتهِ العَريضة اللاَّمعة في تَوتّرٍ، خشونة الجنوبي ولكنته الجافة، عدم اكتراثه بالمحيطين مهما كانوا، كُلّ هذا الزمني الحَدّ.

زادَ هذا فيّ إصراري، اقسمت بيني وبين نفسي أن أَجِد يوما مكانا إلى جوارهِ مهما تكلفت، لماذا هذا كله لا اعرف، لا اعرف لماذا تركت أشغالي وجعلت من هذا الجنوبي شغلتي ؟!

في الآونةِ الأخير بدى واهِنا على غيرِ العادة، حتى صورته المرتسمة بقوة مزعومة، وصوته الجَهوريّ يخفي اضطرابا صريحا، نظراته المحتضرة لفتت انتباهي، حِدّته الزَّائدة عن المعقول زادت من ضعفهِ، تباطأت في سيري ذاتَ عشيةٍ، الملم بعض ما تناثر من حديثه، يعرك جبهته بيده مأخوذا في حديثهِ، ثم يغيبُ في نوبةِ صمتٍ طويل، يَطرقُ دقيقة وكأنّ قشعريرة تتمشّى في بَدنهِ، تضطرب يده في ضعفٍ وخوار، يُجيب مُحدِّثه بكلمةٍ واحدة تنتزع روحه معها:” يعني خلاص، انتهى الموضوع يا مرحبا به “، مررت يوما لم يكن صاحبنا مكانه، تريثت قليلا، تلهيت في ضَجرٍ اقلِّبُ هاتفي، إلى أن اقبلَ متثاقلا في مشيته، يجرُّ قدميه جَرّا، تجاهل حبات العرق التي تجمّعت فامتلأت بها نتوءات رقبته، تَقدّمت منه مُحيّيا، هالني ما سمعت، فقد رَدّ تحيّتي في شبهِ ابتهاجٍ، انصرفتُ عنه فيّ عُجالةٍ، تلهيتُ لأيامٍ لا احصيها، مررت ذات ظهيرةٍ، فلم أَجِده، تَكرّر انتظاري صَاحبّي، لكنَّه لم يأت، لم تعد لهُ من باقيةٍ، لاحِقا شَاعَ النَّبأ، كانَ ” صالحين ” طَريدا ثأر يَطلبه منذ سنين طويلة، قَضاها في غُربتهِ؛ إِثر مُناوشة بين جيرانِه في الحقلِ، سَوّلت له نفسه فيّ النهايةِ قتلَ جاره ” عوض” فأرداهُ قتيلا، انتظرت زوجة القتيل إلى أن يكبر ” سويلم ” أكبر أنجالها، فأرسلته يتعقّب قاتل أبيه ويَعودُ بخيرهِ وقد كان، تزاحمت سيارات النَّجدة قد تَراّص رِجال الإسعاف، وامتلأت النوافذ بسكانُ البنايات للفُرجَةِ، وشَابٌ فّي عُمرِ الزُّهورِ شَامخٌ بأنفهِ، مُتباهِيا فّي أصفادهِ..

بعد أسبوع مررت في ذَاتِ المَكان، لأجدَ ضَيفا جَديدا قد حلّ، لكنّي لا اعرف ما وراءه..

**

     فتاة الغروب

لا يَعرف أحَدٌ سِرّ خُروجها فّي هَاتِه السَّاعة من الغُروبِ، تتَرامى عشرات الأسئلة المُحيّرة في طريقها حِين الذِّهاب وحِين العَودة، ما جَدوى وقتها الذي تَقضيه مُنفرِدة شَاخِصة نحو الأُفقِ المُخضَّب بلحظاتِ الوَداع عند السّنطةِ، من فَوقِ ظُهوِر دَوابّهم يرمونها بنظراتهم المُفترسة، تَدور أحاديثهم في نَجوى مُقلقٍة، سَريعا تتَحوّل بجمجمٍة تَندفع فّي تَهورٍ لتنهش شرف الغافلة، وتَمسّ سمعتها دون تحفّظٍ، عَلِمت أخيرا ما يُحاكّ مِن حَولها فازداد تَغافلها، واسلمت فِكرها أسيرة َعوالم وردية من نوعٍ  خَاص، اشغلها عن سَخافاتِ ألسن السُّوء، لم يَسأل أحَد نفسه:” ماذا يُريد المُتربّصون من فَتاتهم الطَّريدة التي فجعتها الدنيا سنين طويلة، فالقتها في هذا الفضاء المُلتهب ؟!”، لكن صدورهم الحَرجة، تَعوّدت اقتحام خُصوصية أمثالها، فلم يتركوا لها من حُريةٍ أن تكون كيفما شَاءت، قيدوها بخيوطٍ جعلهم ليروا في ” زينات ” فتاة مُنفلتة لَعوب، لقد جنى عليها جمالها الأخاذ الذي تخطّفهم من أولِ وهلةٍ، لكنها لم تكن على درايةٍ بميزاتها تلك، ظنت وهي الغريرة أنَّها لا تزال تعيش في البندرِ في زِحامٍ البيانات الشَّاهقة، تختلط بضوضاءِ تُغالِبُ كُلّ شيء ٍ، تلك التي لا يعرف فيها الأخ أخيه، تناست هذا كله لكنها اصطدمت فَجأةً بِجدارٍ كثَيف لزَج، تَرصّدت الأقدارُ خُطواتها لُتلقي بها على الهامشِ في عُزبةٍ أشبه بيتٍ كبير، تَوهّمت فيّ نفّسها أنَّ الحَياة بسيطة، تَستوعِب الجميع لكنَّها أدركت شيئا وغابت عنها أشياء، هنا يفَتضحُ السِّر، لا شيء يَخفى فما لاتَطاله بالليلِ يُنشر أمامك تَحت شمس الغِيطان، تتَعالى صيحاته تحت ضَرباتِ الفُؤوس حينَ َتلتهِمُ الأرضَ في نَهمٍ، استقرت ” زينات ” في بيتِ عمها بعد رَحيلِ والدها، هُناك عَاشت سنواتٍ قضتها هانئة في البَندرِ، حَين كَان رَبّ الأُسرة يَعملُ في مصنعِ السُّكرِ، مَرّت عليها كَحلمٍ جميل سُرعان ما استيقظت منه بعد أن فُجِعت بفقدهِ،فلابُدَّ وأن تعَود العائلة الأم وأبناءها، إذ كيف للنساِء أن يعشن بلا رجَلٍ في هذا الزِّحام الذُّكوريّ المُخيف، هكذا يعتقد كُلّ قروي غَيور سَاذج، يرى فّي صَونِ عرضه وشرفه ولحمه أعزّ ما يملك، ولا طعم للحياةِ إذا فَقدَ المرءُ شَرفه، سَارعَ عمها فاحَضرَ العائلة الكئيبة على مضضٍّ، كانت القناةُ شهية كل نفس، حظيت بفتنة وغواية،  ليّنة العود، مُمتلئة ريّانة بماءِ الشّباب، تفورُ فورة أنثوية أخّاذة، غَطَى جمالها الساحر  كُلّ جمال، مُشرقة الطَّلعة، ذكية وقّادة الذِّهن مُذ داست القرية، وطيفها يَسبحُ في خيالِ شبابها المَشبوب، لكنّ أحَدا منهم لم ينل منها أبعدَ من تَحيةِ الصَّباح، تَشفعها بابتسامةٍ مَحزونة، لكنَّ كُلّ واحدَ رآها حَظيته الوحيدة، فسعى لها سَعيها، لم تكن تدري ما يُحَاكُ في زَوايا مَجالسهم ومراهناتهم المنصوبة من حولها، كانت دائمة التّمنع، لا يَستميل رأسها كلامهم المعسول، بل ظَلَّت هَكذا في عِنَادها تصدّ وتردّ، تردعهم إذا لَزَمَ الأمرُ، فتُثير حفيظة كثيرين راعتهم جفوتها وجرأتها غير المتوقعة، وفي صَبيحةٍ مموّهةِ السَّماء بلونٍ رَائقٍ جميل، وجدوا جثتها مُمزّقة بجوارِ السَّنطة، يَتدفّقُ دمها إلى أن ارتوت منه الشَّجرة، ورسالة مكتوبة بأحرفٍ مُختَصرة بجوارها:” لقد تخلّصتُ من حياتي بعد أن فقدت حُبّي الوحيد ” وحتّى اللحظة والقرية في شغل وحيرة، تتساءل من يكون حبيبها ذاك المجهول..؟!

**

  بداره

حَتَّى وإن حُرمت وضاءة الوجه، وحُمرة الخَدَّين، وتلِك مَقاييس الجَمال الرِّيفي الباهت، لكنَّها أُوتيت نَصيبا مُوفورا من جَاذبية، في جَسدٍ سَمهريٍّ طويل، وتفاصيل أنثى مُكتملة الإغراء، ردف صقيل، وصدر ناهد نافر، وخصر ضامر صلب، وشعر فاحم طويل في تَموِّج لافت، وفتنة مُشتعلة بينَ سوادِ عيَنين نَاعستين ضَاحكتين في جُرأةٍ ودَلال، يَتَناثر كُحلهما ويفيض من فوقِ أهدابٍ كنصلِ خِنجرٍ مسنون، وعنق مُشرع كما الإبريق، ودِفءٌ يتَطاير شرره من صوتٍ مُتغنّج شيطاني الرنين، وضحكات مُتفلّتة بغيرِ رَقيب، ومشية تَتخلّع  فيها سَاقين في ميوعةٍ وتوحّش، تَهتزُ في ارتجاجٍ مُخيف، وفوقَ هذا وذَاك خِفة ظِلٍّ، ونكتة حَاضرة، ولِسانٌ يَقطُرُ السُّكر، لا يتعطّل عن تَوزيعِ السَّلام في ذهابٍ وإياب، بيد أنَّها كلُما تذكَّرت أنَّ فورانها هذا لا يُمكنه أن يقَفَ دقيقةً، أمام مِسحةِ بياضٍ من وجهِ رضيعة، وتلِك مقاييسُ الجمال المألوفة، ما أشعرها  باليأسِ.

لم تكن والدتها بأقلِ منها حُزنا وكمَدا، وهي ترى الخُطَّاب يتَخطَّون بابها لأبواب غيرها من الصَّبايا، فيزداد ألم المرأة فأخشى ما تَخشاه أن تُفارِق دُنياها، من غَيرِ أن تَطمئن إلى مستقبلِ ابنتها البائسة، عاشت المرأة في حِيرة ٍلا تنقضي، لم يكن يعنيها من أمرٍ غير ستر هذه التَّعيسة مع زوجٍ، إلى أن أذن القدرُ وجَاءَ أول خاطب لفتاتها، لم يكن سوى هلفوت من هلافيت القرية، سِجله لا يخلو من التَّسكعِ نَهاره، والسَّهر ليلا في عَربدةِ لصٍ فاجر ومُقامرٍ حقير، اُغري بها بعدما شَاعَ عن طريدته أنَّها من ذواتِ القراريط، وصاحبة بيت كبير، ليسيل لُعاب الانتهازيّ ويَمضي في جُرأةٍ، مَشت الأمورُ حَتّى نهايتها ليجد الناس ” حسن ” زوجا يُساكِنُ ” بداره” ويلتهم قراريطها كما التهم جسدها من قبل، وخَيرا يَمرحُ فيهِ ويَغبُّ من سِعتهِ.

لكنَّ شيئا لم يتَغيَّر في حَياةِ ” بداره”، لم تشفع لها ثروتها ولا جسَدها اللَّدن، ولا ليونة العيش وطيب المعشر لزوجها الجديد، فما إن استقرَّت أقدامه في بيتها، حتَّى تمرَّدَ على وضعهِ الجديد، من يومهِ الأوّل اجتهد في سلبِ ما في يدها حتّى اجهدها، لتصبح مثار تندر عائلتها الذين لم يقترعوا يوما بهذه الزِّيجة، حتّى بعد أن رُزقت بابنتها، ومن بعدها ثلاثة من الذكورِ، لم  يُغيّر صاحبنا من طباعه، بل تزداد سواء، يعود مُترنحا مع الصَّباح، فينام سحابة نهاره وينشط عند المغيبِ، تطوّر الأمر بعد أن عَجَزَ عن تلبية رغباته، فتجرَّأ يُجرِّدها حليها عُنوة، لا ينفك يُردِّد في وقاحةٍ يُعايرها :” هو أنا كنت ليكي يا بوز البومة ؟!”، كتّمت آلامها، وانكفأت على أبنائها تربيهم، لتبقى وسط حيرتها بين غدرٍ مُوشك، وثروة مُستنزفة، وصغارا تمنَّت  لهم حَظَّا سعيدا، استَيقظت من نومها فزعة ذات صبيحة، على طرقاتِ الباب، لتجدَ ورقةً مُشرعة في وجهها، تناولتها من يدِ الخفير في صَمتٍ باكي، وكأنَّها تَعلم ما فيها، ليقضي البيت أيامه في مُعتركِ الحياة من غير الزَّوجِ الهارب.

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون