شريط ٌ تُرابيٌّ لشجرةٍ وحيدة

تشكيل
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد ممدوح

رأيتُ تلك الشجرة البعيدة بخطٍّ ترابيٍّ نحيل صاعداً بخفة تُحيط بهما حشائش ونباتات خضراء اللون علي ضفة النهر الغربيّة، والتي أجلسُ عليها مُتأمّلاً العالم وسط النهر: صنادل مُحمّلة بالرمال، أو بأحجار بيضاء لامعة تحت ضوء شمس ٍ قويّة، “وابور بحر” طويلٌ وضخم يشق وسط النهر بقوّة، يُزيح جانباً مويجاتٍ مُتتابعة تُدغدغ قدميّ، كأنّه، في لحظة مللٍ مُفاجئة، يطرد المويجات خارج النهر إلي الأبد.

الشجرةُ وحيدةٌ هناك تقف صامدة في وجه الزمن، وشريطها الترابيّ بلون القهوة يمتدُ إلي أفقٍ بعيدٍ لم أصل إليه بعد. 

تهتز أوراق الشجرةِ بفعلِ الريح وتتساقطُ، ليصلَ بعضها إليّ أثناء استلقائي علي العُشب مُحدّقاً في السماءِ، أو جالساً أنظرُ إلي نقطةٍ بعيدةٍ مُستدعياً الذكريات، أغسلُ ثلاث ورقاتٍ بماء النهر، أشمهم بقوة فلا أجدُ رائحةً مُميّزة، لكنّ نداءً ما يدعوني للذهاب إلي هناك.

الشجرةُ مغروسةٌ على الضفة الغربية للنهر التي أجلسُ عليها، تقعُ علي يساري في الشمال، فكّرتُ، إذاً أنا أجلسُ علي يمينها جنوباً.

 لن أستطيع الذهاب إليها؛ لأنّ عليّ أن أخوض مستنقعاتٍ عميقةٍ وعطنةٍ كوّنها النهر علي جنبهِ، لتصريف طاقاتِ غضبهِ التي تنتابه من لحظةٍ لأُخري، ولأنّ بيتي بعيدٌ بمسافةٍ تجلبُ الكَدر: خط أمانٍ ليس في متناولِ يدي لأُغيّر فيه ملابسي، المُتّسخة بطين النهر، وبأوراقِ نباتاتٍ لا اسم لها، دون أن أمرّ علي بقيةِ الناس في شُرُفاتِ بيوتهم ونوافذها، كمادةٍ لتسليةٍ حيّةٍ تسيرُ علي قدمين.

لم أرَ، من مكاني علي ضفة النهر، أحداً يصعدُ ذلك الشريط الترابيّ، هل أقول طريقاً تجاوزاً!؟، كأنه خُلِقَ ليكون هكذا، شاهدٌ وحيدٌ علي العزلةِ، علي الصمتِ والسكون.

ماء النهرُ لا يصلُ إلي الطريقِ الترابي، ولا إلي الشّجرة.

أتأمل مويجاتٍ، يدفعها “وابور بحر” أو “صندل” مُحمّلٌ بالبضائع يشقُ وسَط النهر، لكنها لا تصلُ إليهما، الشجرة والطريق، لا تسعف المويجة قوة دفعها لتتحرّر من النهر، ولتبدأ حياةً جديدةً علي اليابسة.

أتذكّرهما دائماً أثناء سيري في الشوارعِ المُزدحمة، وسط حشدٍ من الأصدقاء، أثناء قراءة كتاب، أو الاستلقاء أمام شاشة تلفزيون للفرجةِ علي العالم، الشجرةُ والشريط التُرابيّ، يظهران فجأةً أمامي من بين كل هذه الأشياء، كعزاءٍ، كطريقةٍ ما للتواصل تعود لأزمنةٍ قديمة. 

عندما ألمحُ المطر خلْفَ نافذتي، مُستمتعاً بدفء البيت، أتذكر الشريط َ الترابيّ في مكانه، وقد تحوّل إلي كُتلِ طينٍ موحلةٍ كبلادٍ بعيدة، تُسلّيها الشجرة بحكاياتٍ دافئة عن آخر ورقةٍ طارتْ من أحد أغصانها إلي مكانٍ مجهول؛ فيتوقف حينها المطر، وتختفي التجاعيدُ عن وجه الشريط يوماً بعد آخر.

 تظهر طبقة ترابه الناعم: سار فوقه ببطءٍ، ويإيقاعٍ موسيقيّ قطيعُ أغنامٍ صغيرٍ خلف صبيّ نحيل العود، كانت المرّة الأولي التي ألمح فيها أحداً تحت ظل الشجرة، أو فوق الشريط الترابيّ.

 حَزِنتُ بعض الوقت، كأنّ القطيع مرّ فوق وجهي وأسفل ظل عينيّ.

لكن عندما تذكّرتُ مشية الصبيّ الموسيقية بعوده النحيل، وبعصاه الرفيعة التي يوجّه بها قطيعه برفقٍ اختفي حُزني، فلا بُدّ للطريق من قدمٍ وللظل من جسدٍ يحتمي به.

 أحرصُ عند جلوسي فوق حجرٍ أبيض، أن يكون شاطئ النهر عن يميني، وصديقي فوق حجرٍ مقابلٍ في مواجهتي؛ لأستمتع وأنا أتحدثُ إليه بالنظرِ إلي الشجرةِ والشريطِ الترابيّ الواقعان خلف ظهره بعيداً.

قلتُ لصديقي، ومويجةٌ تداعب قدمي من مرور “صندل” نهر:

“المَشهد خلفك يُذكّرني بغلاف رواية ملحمية”.

 يرشني الصديق بالماء ويضحك.

عندما أصلُ إلى البيت مُمتلئاً بالمشهد ورائحة النهر في ملابسي، ألتقط منها ورقةً خضراء حملتها الريحُ إليّ من الشجرة، فأضعها أسفل رأسي مُبتسماً وأحلُم.

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون