رائحة الظلام

مبارك السعداني
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مبارك السعداني

        أسمع حركة في المكان الأكثر عتمة في درب أجدني ملزمة بقطعه مرتين كل أسبوع، في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل، لم تصمد خيوط النور النحيلة الشاحبة المتسللة من وراء ستارة غامقة من نافذة حجرة جار دائم الاختفاء، فتتكسر في مهدها، لتبيت بين فكي وحش مكفهر. 

       يتسرب الخوف إلى أعماقي كلما اقتربت من هذا المكان، وتخترقني، في الآن ذاته، رائحة غير مألوفة، اعتقدت لمدة أنها رائحة الظلام. أسمع دقات قلبي تتجاوب مع صوت احتكاك حذائي بالأرض الترابية، وأنا أجر قدمي، مخافة من أن يفاجئني مرة أخرى. بالرغم من قصر المسافة التي تفصل بيني وبين خرابتنا، فإن قطعها يتطلب مني جهدا ووقتا. أستنفر كل حواسي، أبحلق بعينين جاحظتين في ركام الظلام الممتد أمامي، أصيخ السمع لعلي ألتقط دبيبا صادرا من الجهة التي يكمن فيها. كعمياء أتحسس بكلتا يدي الفراغ الثقيل.

     عند مغادرتي صباحا، خرجت أمي من غرفة نومهما تتحسس طريقها، متحاشية كل ما يمكن أن يزعج النائم على سريرها، طرق أذني صوتها الهامس تأمرني ألا أنسى طلباتها.

 أعماقي ترتج من صراخي المكبوت.. لكنني أشفق عليها، لم يبق لديها من الطاقة، ما يمكنها من تحمل المزيد من الضربات الفتاكة. يكفيها ما عانت… من امرأة مزهوة بجمالها ووضعها الاجتماعي المميز في كنف زوج أحبها، وعمل جاهدا ليوفر لها طلباتها التي لا تنتهي، إلى امرأة ذوت قبل الأوان، تقبع وراء قضبان محابس داهمتها دون سابق إنذار. طاوعها والدي فامتدت يده إلى الحمى ترعى فيها. اشترى لها بيتا فخما وسيارة وفتح لها حسابا في البنك…

– أتركي لعمك بعض المال ندبر به يومنا حتى تعودي ليلا…

       افتضح أمر والدي، فصودرت كل ممتلكاته، ماعدا البيت والسيارة وما حافظت عليه في حسابها البنكي ومدخراتها من الحلي. حكم عليه بالسجن. فاجأته بطلبها الطلاق. لم تغير طريقة عيشها…

     تركت على الطاولة بعض النقود، وأنا أعلم أنه هو من سيستولي عليها، وسيتركها وحدها جائعة تبث كرسيها حزنها وهمها، وأوجاع قلبها..    

      عند باب مدام سوزان، وجدت ابنها مع خطيبته في انتظاري. بعد عبارات الترحيب المألوفة، سلمني  برنامج أمه اليومي، ذكرني بضرورة التقيد به بلا هوادة؛ الأكل والدواء، الحمام وحصة القراءة، حصة التعرض لأشعة الشمس لتعويض نقص فيتامين “د”…

     مدام سوزان عجوز في السبعين ظننت أنها عاشت سنوات قدرتها بالطول والعرض، وتعيش عجزها كما عاشت قدرتها… خمسة أيام تقوم على خدمتها ممرضة وفق برنامج مدروس… والسبت والأحد أعوضها وأخدمها سيرا على ما تتركه لي مدونا في ورقة.. قدمت وثائقي لشغل هذه الوظيفة، تحفظت الممرضة وابن مدام سوزان علي لأني لا أملك خبرة ميدانية، وتمسكت بي هذه الأخيرة لإتقاني للغتها ودرايتي الواسعة بقواعد الإتكيت، وقد تعلمتها أيام عزنا في المركز الثقافي الفرنسي،  وفي زياراتي مع والدي إلى فرنسا. سألتني وقصصت عليها قصة حياتي، وما نعيشه من ضنك في راهننا…

   كان شابا وسيما أصغر من أمي بكثير، ابن عائلة معروفة، بذَّر ثروة أبيه على نزواته، وبذرت أمي معه ما جمعت في حياة أبي قبل مأساته وغيابه الغامض في نهاية المطاف..

– اليوم ستقرئين لي من كتاب حياتك و حياة أمك وزوجها المبذر…

قالت مدام سوزان في لهجة حاسمة.

– ماذا سأقول لابنك والممرضة ؟ مريض الباركنسون لا يتحمل الانفعالات القوية!!

قلت لمدام سوزان متضرعة مخافة فقدان شغلي…

– حياتي كقلب توقف عنه النبض، أنعشي قلبي قليلا !!  

أردفت، وهي تتطلع إلي متوسلة.

– هل أفاجئ أمي وأعري زوجها أمامها وأفضحه؟ تساءلتُ في حنق.

– اكشفي لها عن وجهه القبيح..

– قلبها الضعيف لا يتحمل، فلأتركها تعيش الوهم !!

– وهم الحياة !!ذاك ما عشته وأعيشه الآن…

تنهدت بصعوبة وبدأ جسمها يهتز ويرتعش وصوتها يتلعثم:

–  ضبطته يخونني مع أعز صديقاتي، وضعت حدا لخيانتهما !!

– يا إلاهي!! قتلتهما؟!

– عشت في السجن ثلاثين سنة تحت رحمة جلادين قساة، وخرجت منه إلى سجن جلاده لم يغفر لي ما فعلت بأبيه وأمه !!

ما إن أتت على آخر كلمة حتى انهارت باكية.

نظراته إلي تخيفني، ترعى في  جسدي بوقاحة..( أنا موجود هنا من أجلك، العجوز سرقت مني أزهى أيام حياتي…)، هذا ما دون في الورقة التي وضع في يدي، وغاب كأن جدار منزل جارنا الذي لم أره قط ابتلعه..

هل رأيت وقحا مثله. أنا متيقنة أنه هو من يكمن لي في العتمة… حيوان نتن غدار!!

الليلة سأضع حدا لمهزلة طال أمدها، ولم يعد بإمكاني تحملها. سأنقذ أمي منه، لتواجه الواقع بصلابته.

في المكان ذاته، والرائحة ذاتها، أحسست بيده دافئة وهي تضع ورقة في يدي… خر على الأرض وهو يشخر كحيوان مذبوح.

جريت متخبطة في الظلام… وجدته بالقرب من أمي وهما يضحكان…

-يا إلاهي ماذا فعلت؟!

(من أجلك يا ابنتي العزيزة أنا هنا…أرجوك لا تخبري العجوز الخائنة بوجودي!!)

 

 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون