فصلٌ من رواية “الرحلة البحرية إلى مملكة التبر والألماظ”

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
على أرصفة الميناء المراكب مسكينة لا حول لها ولا قوة، تتقافز رغمًا عنها مع الأمواج وتتخبط على حواف الأرصفة، وحين يسحبها الموج العائد للبحر، تمسك بها  الحبال الغليظة التي تربطها بأوتاد صلبة متينة على حواف الأرصفة. مركب من المراكب انقطعت حبالها، فسحبتها العاصفة لداخل البحر، وسرعان ما حملتها لأعلى وقذفتها لأسفل لتغوص في المياه اللُّجّية، وبعدها لن تظهر كما كانت، بل ستكون أشلاء وشذرات

حجاج أدول 

الليلة الأولى

مولاي شهريار!

 حكايتنا هذه طويلة عجيبة تقلباتها غريبة، ورغم أنها فوق منطق الأسباب، فهي ساحرة للألباب. حكايتنا عن مركب متينة فاخرة، عالية الصواري عريضة الأجناب مخازنها عامرة، وبكل صنوف الاشتهاء زاخرة. قامت برحلة بحرية جريئة خطيرة عجائبية، رحلة واكبتها المهالك، فليس لها طريق معتاد سالك. رحلة هدفها الوصول إلى شبه المستحيل، الوصول إلى مملكة التبر والألماظ! مملكة أكدت أقاويل بحار مغامر حكى عنها منذ مئة عام، فقد ذهب إليها في مركب كبيرة، مات كل من فيها فيما عداه. عاد وحكى مبهورًا عن مهالك الرحلة وما حدث لهم في مملكة التبر والألماظ، إنها حقًّا حكايات مثيرة، فقد أكد البحار أن ترابها تِبر وجبالها فضة وأحجارها من جواهر الألماظ.

المركب المتينة أطلقوا عليها اسم العنقاء، فخرًا وتباهيًا وثقة فيها، العنقاء أبحرت وعليها عشرون ملاحًا ممتازًا وعلى رأسهم كبيرهم رُبان السفينة واسمه “إيهابو” بجلبابه الأبيض بخطوط رأسية زرقاء وقبعته العالية، وخمسون من العساكر الأشداء وعلى رأسهم كبيرهم ضخم الجسم “خربوش”، ثم عدد من الشغالين أتوا بهم من السجون، ولما رفض أغلب المساجين التطوع في الرحلة الخطرة، مقابل إطلاق سراحهم، اضطروا لقبول سجين سمين اسمه “تخاين” ونحيف “جريدة” وأخرس “عاو”، وأيضًا حرامي مشهور بابن اللئيمة. ومن سجن النساء عشر مومسات وافقن على الانضمام للرحلة، بما فيهن القوادة “مَوَالِح”. العشرة أتوا بهن تحت بند نساء المتعة، مهمتهن الأساسية إمتاع ذكور المركب، فالرحلة طويلة وتتطلب تواجدهن.

الريس “أبو كتف” مساعد الربان “إيهابو”، لم ينسَ أن يغري بعض الرجال الأحرار ليوافقوا على الانضمام للرحلة، فأتى بحلاق يفهم في التطبيب اسمه “مشط”، وطباخ خبير اسمه “طبيخة”، و”طبيخة” اشترط أن تأتي زوجته “جَمَسة” معه لتساعده، وزوجته “جَمَسة” اشترطت أن يأتي ابن أختها الصبي معها. ولأجل ليالي اللهو، أتى بالمطرب الأعمى واسمه “المُحسس”، ولاعب الحركات القزم “شقلباظ”، أتى بهم لما وجد نقصًا في الشغالين، فالناس خائفة من تلك الرحلة المتهورة، أما أصغر الملاحين في تلك الرحلة الخطيرة، فهو الصبي “مسعودي” ابن أخت الطباخة “جَمَسة”. مجموع كل هؤلاء الشغالين ثلاثون.

المركب العظيمة مرتفعة الأجناب عالية الصواري، متحدية المقدمة التي تنتهي بوجه مقاتل غاضب شرس متوعد؛ انطلقت العنقاء لتشق مياه البحر في تحدٍّ وثقة وكبرياء، فلا مركب مثلها في القوة والمتانة. ولا مركب حُمّلت قبلها بكل هذه المؤن من قبل، فكل أنواع اللحوم والخضراوات والفاكهة في مخازنها، وبجوارها خزانان واسعان عميقان للمياه. كل هذه الاستعدادات لم تحدث من قبل، ولا نظن أنها ستحدث من بَعْد. وبهذا فالعنقاء مهيأة تمامًا لتجوب البحار ذات الأمواج الجبلية، وتصمد تجاه العواصف الشيطانية، لتصل لحاجز الجبال البيضاء، فتبحث عن المضيق المرعب، والذي تقول الحكايات عنه: مضيق العابر لن يعود، وفي هذا الممر يكون الويل والثبور وعظائم البلاءات وكوارث الأمور.

وسأبدأ تلك الحكاية يا مولاي شهريار، من قبل النهاية بخطوة، ثم نعود للبداية التقليدية، هذا لأشد انتباهك وأضع التشويق في بالك. سأبدأ بتلك الليلة العاصفة التي ضربت ميناء الصواري فأحدثت بمبانيه أضرارًا بالغة، وتلاعبت بالمراكب الراسية على الأرصفة، وأغرقت مراكب كانت آتية. عاصفة جبارة لم ترحم ولم تشفق ولم تتأثر بصراخ الملاحين على ظهر تلك المراكب التي حوصرت فيها، ولا بصراخ من سقطوا في خضم البحر. عاصفة عنيفة مزمجرة. هبوب هوائها يزداد ويتجبر، فجعلت الأمواج صفوف جبال مهولة آتية، تتوالى خلف بعضها، وتتصادم ضد بعضها، وتلتف لتكوّن دوامات هوائية ومائية رهيبة. الأمطار تهطل وكأن ألف ألف ألف قربة ماء في السماء، انفجرت فانهمرت المياه شلالات متوالية. ضربات الرعد نقول إنها ولا صرخات الشياطين والعياذ بالله، ومضات البرق لا توصف من شدّة بريقها الخاطف، سريعة مريعة، فتظهر لمحات من جبال الأمواج المتناحرة وهي تهشم فيما بينها مركبًا وكأنها لعبة أطفال من القش.

على أرصفة الميناء المراكب مسكينة لا حول لها ولا قوة، تتقافز رغمًا عنها مع الأمواج وتتخبط على حواف الأرصفة، وحين يسحبها الموج العائد للبحر، تمسك بها  الحبال الغليظة التي تربطها بأوتاد صلبة متينة على حواف الأرصفة. مركب من المراكب انقطعت حبالها، فسحبتها العاصفة لداخل البحر، وسرعان ما حملتها لأعلى وقذفتها لأسفل لتغوص في المياه اللُّجّية، وبعدها لن تظهر كما كانت، بل ستكون أشلاء وشذرات. ومركب صغيرة مشدودة على الرصيف بين مركبين كبيرتين؛ موجة قوية عالية تحملها لأعلى وتقذفها فوق الرصيف بإهمال وإصرار حتى إن حبالها تقطعت من أوتادها، فسقطت المركب بجوار مباني الميناء وتحطمت ثلاثة أجزاء، وبُعثرت أشرعتها وجوانب من أخشابها. أما ملاحوها الثلاثة الذين كانوا عليها، أطيح باثنين منهم مع الأخشاب، فبقيا حيث سقطا قتلى وقد وساحت دماؤهما سريعًا مع المياه المالحة التي تزحف على أرضية الميناء كله. أما الثالث فوجدوه ميتًا داخل المركب، وشظية خشبية بطول ذراع مرشوقة في بطنه.

قبل الفجر بدأت العاصفة في الهدوء. بعض عمال الميناء خرجوا من الأبنية الحجرية وهم ملتحفون بعباءات ثقيلة فوق جلابيبهم، وعلى رؤوسهم أغطية رأس مُحْكمة، ما زال الظلام سائدًا وبقايا رياح العاصفة تزوم والأمطار خفت كثيرًا. خطوات وشاهدوا المركب التي تحطمت فتبعثرت أشلاء، بحثوا فوجدوا الجثتين، حملوهما داخل أقرب مبنى. عادوا واقتربوا من حافة الرصيف. الهواء القوي يضرب ملابسهم ومياه الأمطار المستمرة تصعّب عليهم الرؤية. المراكب تترنح منهكة مع الأمواج التي تعبت وهدأت كثيرًا. صوت غريب يأتيهم من أعلى. ينظرون للسماء الملبدة ببقية سحب العاصفة. لا شيء يمكن رؤيته، لكن الصوت ينبعث من أعماق السماء. صوت يشبه هديل الحمام! لكنه هديل مفزع وكأنه يصدر من فم أسد يزأر! ينظرون ويتمعّنون رغم الظلام والأمطار التي تسقط على وجوههم. رأوا ما لا يصدقون.. غمامة ذات لون أزرق لامع، مترامية الجرم بداخلها وخارجها مصابيح منيرة، تهبط من أعلى وكأنها ترفرف بجناحين هائلين! يتدلى منها ما لا شكل له حتى يصل لطرف الأمواج، فتلقيه في هذه المعمعة. تسرع الغمامة الزرقاء اللامعة عاليًا وتبتعد مختفية هي وصوتها في لحظتين. فترة صمت ثم صوت بشري ينادي:

ــ يا ناس. يا هوووه.

          ينظرون من مسافة ضيقة بين مركبين.

– غمامة غريبة على الأمواج!

– وكأنها قارب وما هي بقارب!

– يقودها رجل!

          يتابعون شبه القارب الداكن المضطرب المقترب. الأمواج تضربه وهو يقاوم الانقلاب حتى ينقذف بين مركبين، يسقط الراكب في المياه ويسبح بإصرار حاملًا شيئًا ما والأمواج تتلاعب به. الرجل يقاوم ويقاوم باستماته. موجة مفاجئة تدفعه دفعة قوية فيصل لحافة الرصيف بين المركبين، يتثبت بالحافة ويستنجد:

  • أنقذوني يا ناس. أنقذوني، سأغرق.

يلحقه الرجال ويمدون أياديهم ويساعدونه على الصعود. إنه رجل عجوز أميل للقصر، غطاء رأسه وخُفه ضاعا في المياه، جلبابه مبلل تمامًا. الغريب أن جِوالًا صغير يحمله بحزام على ظهره، ويمسك بيده صندوقًا صغيرًا ملفوفًا بحرير ناصع البياض متين! تنفسه سريع متلاحق فهو خائر تمامًا. يحملونه هو وجواله وصندوقه لأقرب مبنى. فكوا الجِوال المربوط من ظهره ووضعوه هو وصندوقه جانبًا. خلعوا ملابسه فيما عدا ما يداري عورته. يرتجف بردًا، جففوه ولفوا جسده الضعيف ببطانية من رأسه لأخمص قدميه،  أجلسوه على برميل،  في سرعة أتوا له بكوب شاي ساخن أخذ يرتشف منه في شراهة.

زادت أعداد الملتفين حول الغريب، يتفحصونه في اندهاش.. عجوز هزيل في نحو الستين من العمر، البياض لون شعر رأسه ولحيته وشاربه. تجاعيد وجهه عميقة. ندوب على وجهه وعلى كل جسده. فمه يكاد أن يكون خاليًا من الأسنان، والأعجب أن رقبته وكأنها مكبوسة في بعضها! ووجهه متجه لأعلى لعيب في تلك الرقبة الغريبة. الكل ينظرون إليه في اندهاش حتى أتاهم رجل وقور خمسيني، أوسعوا له وقالوا للعجوز الغريب الذي أنقذوه:

ــ هذا هو مُفضال ريس الميناء والمسؤول عن كل شؤونه.

سأله:

– من أنت أيها الغريب؟ وما الشيء الطائر الذي أتى بك؟ وما الشيء الذي كنت فيه حين تدليت حتى البحر؟

– هذه حكاية طويلة ليس الآن وقتها، لكن يا ناس سريعًا يجب أن أقابل الملك عنان والملكة جيهان.

          ينظرون لبعضهم في تعجب. قال له الريس مُفضال في ضيق:

ــ من أنت أيها الجربوع حتى تتبجح وتطلب مقابلة الملكة جيهان؟

          قال العجوز الغريب:

– والملك عنان.

– الملك عنان مات من سنة. وجلس على العرش ابنه الملك صُوران بن عنان.

          جفل الغريب وبرقت عيناه وانفتح حنكه وبه سِنّتان وضرسان فقط. الحزن البائس بان على وجهه. لحظتان وهو مشدوه، قام من مجلسه وأخذ يلطم خديه حتى سقطت البطانية من حول جسده، ثم صرخ ملتاعًا:

ــ الملك عنان مات! رحمه الله. يا الله، نشاء نحن، ومشيئة الله هي التي تكون. رحمك الله يا عنان. كنت تنتظر عودتنا، ولم يعد منّا سواي. كنت تتلهف على قراءة يوميات “إيهابو” ويوميات “هرماني”.

          عاد للبكاء واللطم ومن حوله يصبرونه ويلفون الباطنية على جسده. أجلسوه فلم يجلس، بل سقط أرضًا مغشيًّا عليه. فتركه الجميع وذهبوا لمتابعة أعمالهم، فبعد العاصفة المهلكة، العمل كثير كثيف. بعد ساعة استيقظ الغريب من غشيانه، ينظر حوله في استفهام،  وجد عجوزًا مثله يجلس بجواره. تذكر الغريب شيئًا، بحث عن الجوال الكبير الذي كان معه. أشار له العجوز لمكان قريب منه حيث رأى الجوال والصندوق، اطمأن الغريب وسأل:

– العاصفة؟                                                              

– انسحبت.

– أنا في ميناء الصَواري. ميناء مملكة البرين والبحرين. أليس كذلك؟

– بلى.

– الحمد الله الذي أنقذني من المهالك. لكن.. لكن. يجب أقابل الملكة جيهان.

– من أنت؟

– أنا البحار “مسعودي”، وأنا الناجي الوحيد من العنقاء.

– العنقاء؟!

– نعم.

– تقصد المركب العنقاء؟

– نعم.

– المركب العنقاء التي أبحرت من حوالي.. حوالي.. عشر سنوات؟

– أي نعم.

– أنت كاذب.

– لا. اسمع. خذني لقصر الملكة.

          قبل أن يستمر حوارهما. دخل المبنى ثلاثة من العساكر بصديرياتهم المعدنية، وعلى رؤوسهم تلمع خوذهم الحديدية اللامعة، وكل منهم معه حربة معدنية وفي حزامه السيف. يسير معهم الريس “مفضال” الذي أمر بوضع بعض الملابس على مسعودي بدلًا البطانية، لكن تركوه عاري الرأس حافي القدمين. تقدم الغريب من العساكر ليرجوهم، وهم ينظرون إليها شزرًا، هيئته لا تدعو للتقدير، عجوز هزيل رقبته قصيرة مدمجة في نفسها، ووجهه به عيب ما وفوق كل ذلك هو أعرج! أمسك به اثنان كل من جانب وأوقفاه وسارا به خلف ثالثهما. صرخ مسعودي:

ــ الجوال والصندوق. الجوال والصندوق.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري، الرواية تصدر عن دار المحرر .. معرض القاهرة الدولي للكتاب 2025

مقالات من نفس القسم