الراهبة

أمل سالم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أمل سالم

عربة من الزجاج، يجرها حصانان، زُينت أركانها الأربعة الخارجية بتماثيل خشبية على صورة ملائكة، تلك التي تظهر في صور العذراء والسيد المسيح.

-السلام عليك يا مريم، صلّي لأجلنا نحن الخطأة، الآن وفي ساعة موتنا.

أنا طفل في السادسة من عمري، ألحقت السنة الماضية بمدرسة الراهبات الابتدائية، مدرستي جميلة ونظيفة. المدرسة ملحقة بكنيسة بها مستوصف لعلاج المرضى.

كل يوم نأتي في الصباح لنجد فصولها منظمة، كان عم شوقي الفراش ذا عين واحدة، عينه الثانية منطفئة؛ مغلقة الجفنين دائمًا، كما إنها غائرة بما يوحي أن جحرًا ما في وجهه. كثيرًا ما خفت أن تخرج فئران حجرة الفئران- التي كانوا يخيفوننا بها- من هذا الكهف المظلم.

في مرة تلكأت كي أعرف من الذي ينظف كل تلك الفصول، فقد ذهبت إلى حوض الشرب، وفي واقع الأمر لم أكن أشرب من صنابيره مطلقًا؛ فقد كنت أقرف من بصق الأطفال فيه! ثم عدت فرأيت عم شوقي الفراش وقد أزاح المقاعد في جهة، وبمكنسة كبيرة ينظيف الجهة المقابلة، مسكين عم شوقي ذو الجحر في وجهه!

في اليوم التالي تعمدت أن أتأخر في الفصل، وقمت بجمع الأوراق من على الأرض، وكلما سنحت الفرصة لملمتها.

كان جثمانها مسجى في صندوق بني مغلق، له أربعة مقابض تسمح للمشيعين بحمل الصندوق. وعند الوصول للمقابر، كنت أحد هؤلاء الأربعة لمسافة قصيرة. قيل إن جثمانها يصحب جميع ملابسها وأشيائها، فلا بد إذن وأن صورتنا معها- يوم نجاحنا في الابتدائية- في ذلك الصندوق، قلَّل ذلك من حزني. وعلى ضخامة الحدث-وجثمانها أيضًا- بدا الصندوق صغيرًا ونحيفًا.

كانت الراهبات يلبسن رداءً أبيض، وفوقه أردية بنية وسوداء، ويربطن أحزمة على خصورهن تتدلى من جهة اليمين. مديرة المدرسة راهبة سمراء اللون سمينة، بعض الراهبات جميلات؛ فبشرتهن ناصعة البياض، كثيرًا ما دعكت وجهي بالصابون جيدًا عله يبْيض مثلهن، لدى بعضهن عيون زرقاء.

-لماذا لا تكون عيناي زرقاوين مثل عيني الراهبة كرستين يا أمي؟

-الله خلق كل إنسان بلون للعين، وعينك بنية جميلة.

-ماذا لو وضعت حبرًاا أزرق بداخلها؟

-يؤذي عينيك، ولن تبصر بعد ذلك!

-هل وضع عم شوقي ألوانًا في عينه الغائرة؟

في الفصل أربعة صفوف من المقاعد، صفان للأولاد جهة يسار المدرس، وأخران للبنات. وقع نصيب زميلي عبد العزيز، الأقل مني في المستوى الدراسي، أن يجلس في أول الصف إلى جواري بحيث يقع على يساره أول صف للبنات.

-الحمد لله إنني لم أجلس جهة البنات يا عبد العزيز.

-لماذا؟

-رائحتهن مقززة، كما إنني أستطيع أن أتحدث مع الجالس من هذه الناحية (وأشرت إلى اليمين)، والجالس من هذه الناحية (وأشرت إلى اليسار).

-طب وأنا؟

-أنت مسكين؛ ستشم رائحة البنات المقرفة طوال اليوم، كما إنك لن تجد من تتكلم معه، ولن تستطيع أن تغش من جيهان، ستفتن عليك وتعاقبك المدرِّسة.

-نبدل المكان.

-أنا أرفض، لا … لا، لن أقبل.

نصف يوم وعبد العزيز هذا ساهمًا، في نهاية اليوم عرض عليَّ قلمه الحبر ذا الزجاج الشفاف مقايضة بتبديل المكان، وكنا جميعًا نكتب بالرصاص فقط، وافقت على الفور. في اليوم الثاني أبدلنا مقاعدنا، ولأنه بكى على قلمه؛ أعدته، ولم أعد له مكانه، ونلت غرضي.

(سيعود إلى زيزو هذا في قصة أخرى، فهو مدين له بالاعتذار، فقد سرق منه طابع بريد قديم؛ بأن أخفاه في حذائه).

جلست وعلى يساري جيهان، ذات البشرة البيضاء الصافية، والعيون الزرقاء مثل الراهبة كرستين، وفيما بعد ناقشنا سر الأزرق السماوي.

بيتي يقع قريبًا من المدرسة، أسمع بوضوح دقات جرس الكنيسة أيام الآحاد. اليوم سمعت دقاته المتقطعة، وعندما سألت عن المتنيح جاءني الخبر عن المتنحية، ففجعت!

لاحظت السيدة الراهبة سير كُولُتَّا، التي يبدو أنها عرفت بالمقايضة الرهيبة التي أدت إلى دخول أحد الأطفال في حالة من البكاء العميق. وعليه، فقد وضعت عينيها عليَّ واقتنعت تمامًا أنني طفل شقي يجب متابعته.

-يا أكثم أنت شقي، وبطل شقاوة.

-أنا هادي يا مس، أمي تقول هذا.

-قل لها أنها أنجبت عن دون قصد سخمت إله الشر. ثم تضحك هي والمدرسات والراهبات.

كانت العربة تسير ببطء، وخلف العربة سار حشد من الناس، تعمدت أن أقترب من العربة بالقدر الذي يتيح لي رؤية الصندوق.

 اصطحبتنا إدارة المدرسة في رحلة إلى حديقة قريبة، وعند عودتنا بالحافلة اقترحت سير كُولُتَّا أن تسأل كل واحد منا عن مقدار ما صرفه أثناء الرحلة وفيما صرفه. الحق أن أكثر واحد من التلاميذ كان قد أنفق قروشًا قليلة، لكن الأطفال تباروا في الكذب:

-أربعون قرشًا.

-نصف جنيه.

-ثلاثة وخمسون قرشًا.

-لا شيء، لم أصرف قرشًا واحدًا.

-لماذا يا أكثم؟!

-لأنني لم أحتج شيئًا أشتريه. أمي أعطتني مصروفي، ها هو. ولكنها أعطتني ساندوتشاتي، ها هي (وأخرجتها من الحقيبة) وهذه حلوى، وهذا لبان، يمكنك أن تأخذي واحدة سير كُولُتَّا (ضحك الجميع)، معظمهم كاذبون، لم يشتروا شيئًا (وضحكتُ).

-اسكت يا أبكم، أنت شقي، ولا تتصرف كباقي الأطفال.

وبالطبع انطلق الاسم كرصاصة أضحكت كل الأطفال، ورددوه، واستقرت الطلقة في قلبي.

-أبكم، أبكم، أبكم، أكثم أصبح اسمه أبكم، أبكم.

-اسم جديد لك.

-اسم لائق.

أسررتها في نفسي، وقررت أن أذهب إلى الكنيسة المجاورة للمدرسة وأشكوها هناك.

-أهلًا يا سيدنا.

-أهلا يا أبونا.

هكذا تقول الراهبات للقس طويل القامة الذي يرتدي الملابس السوداء وتكسو الطيبة وجهه، وأنا متأكد أنه سيعاقبها بالضرب، في نهاية التفكير قررت أن أنتقم من سير كُولُتَّا عندما أكبر. في اليوم التالي حذفت حرفًا واحدًا من اسمها، وكان ذلك كفيلًا بإضحاك التلاميذ كلما رأوها. يبدو أنها عرفت؛ فهي عندما تراني تكشر وتبحلق. في البداية كنت أخاف من ذلك، رويدًا رويدًا وأمام المرآة تدربت جيدًا على البحلقة، وقررت رد الفعل لكل فعل غير مستحب. بعدها بأيام وما أن بحلقت وكشرت سير كُولُتَّا لي حتى فعلت مثلها، فأدارت وجهها وضحكت مع زملائها، وتكرر الحدث. بعدها بأيام وجدت أن الراهبة ذات العينين الزرقاوين تبحلق لي وتكشر، ولأن عينيها جميلتان فقد ضحكت من أعماقي، ولم أستطع الثبات أمام نظراتها.

-لقد كانت قديسة.

تلك كانت كلمات السيد السائر، بجوار عربة حمل الموتى، مرتديًا قلنسوة سوداء وملابس سوداء، ويمسك في يده عصًا طويلة تحمل صليبًا.

في حصة الدين انصرف التلاميذ المسيحيون إلى الفصل المجاور، تنامى إلى مسامعي صوت موسيقى وغناء حلو، لم أستطع تفسير مخارج الكلام، لكن الموسيقى كانت جميلة علقت برأسي. سألت جيهان عندما عادت:

-لماذا كنتم تغنون يا جي جي في حصة الدين؟

-وانت مالك.

-أنا كنت عاوز أعرف بس، الغنوة جميلة، سأحفظها.

-انت ما تعرفش، هذه ترانيم، وليست غنوة.

في هذا اليوم ذهبت إلى البيت وصدى الترانيم في ذاكرتي، حيث انطلقت فرقة موسيقية بأكملها لعزف سيمفونية سمعها الجيران.

-ترررن تن ترررن تن تتن تن تررراررتن.

وانتهى الأمر بعلقة ساخنة تلقاء الصداع الذي أصاب رأس أمي.

لم تكن ثمة موسيقى في الموكب، كانت ثمة موسيقى جنائزية داخلي، كنت أسمعها كنوبة رجوع تعزف لشهيد في معاركنا الحربية، ومع كل خطوة كانت الموسيقى تزداد إلى أن غطَّت على وقع أقدام المشاة.

في الحصص التالية كان يجب أن أرى هذه الآلة التي تخرج الأصوات الموسيقية؛ لذا ما إن دق الجرس حتى انطلقت إلى الفصل المجاور، ودخلت، فشاهدت “الصاجات” وهي آلة نحاسية ارتبطت بالمصريات، ومسكتها ولعبت بها، جميل صوتها. نهرتني المدرِّسة وقالت:

-عندما تصل للصف الرابع ستحصل على دروس موسيقى، عد إلى فصلك.

تكرر الأمر كل حصة مع العود والربابة والسنطير، وبالطبع كان ينبغي الذهاب لحجرة الموسيقى، عثرت عليها أخيرًا، وكان بها أشياء جميلة: المزمار، والبوق الذي أحبته فيروز زميلتي، والناي، والدف، والمثلث، وكل مرة كان مدرِّس أو مدرِّسة ينهرني ويعيدني للفصل. بلغ الأمر سير كُولُتَّا فنادتني:

-يا أبكم لا تغادر فصلك.

وعندما علمت أنني لم أعر تنبيهها اهتمامًا أرسلت لأمي وأبلغتها.

-لا تغادر الفصل إلى أي مكان.

-أنا أذهب لحجرة الموسيقى، وهذه السير كُولُت كئيبة، هي ليس عندها أطفال كي تعرف ماذا يحبون وماذا يكرهون، كما أنها لا تغادر بيتها، أنا عرفته؛ إنه المبنى المجاور للمدرسة.

لم تكن تعرف شيئًا آخر غير تربية الأطفال، والإشراف على المستوصف، ومساعدة الفقراء؛ وهبت حياتها للخير، لذا كان عدد المشيعين يزداد كلما اقترب الموكب من المقابر.

في يوم، وأثناء خروجنا من المدرسة، كان الأولاد يصنعون ضجيجًا هائلًا، فجأة وجدت زلطة صغيرة قد انطلقت كالرصاصة تجاه عيني.

-(سأصبح بجحر فئران في وجهي).

لم يكن ثمَّة حل إلا أن أدير وجهي سريعًا، أصابتني في رأسي من الخلف، سال دم على قميصي وبكيت، أدخلني مدرِّس إلى المدرسة، هرعت سير كُولُتَّا فنظرت للجرح:

-جرح صغير، سأنظفه له. يا شوقي.

-نعم يا أم.

-اذهب إلى المستوصف وأحضر قطنًا وبيوتادين …

وأحضرت قطنًا، ووضعته على الجرح، وضغطته حتى عاد عم شوقي، عند ذلك جلست على كرسي، وأخذت في تنظيف الجرح والقميص.

-مالك عامل زي الكتكوت المبلول كده ليه؟!

-هو كده أنا هأموت؟

-(ضحكتْ) لا ما تخافش خلاص نشف.

ثم قربت رأسي من صدرها، وهي تضغط الجرح بقوة، فالتصق خدي بنهدها. كان دافئًا كصدر أمي وحنونًا، ثم ربتت على ظهري وهي تنظر إليّ بعينين أموميتين صافيتين تفجر حنانهما فجأة، مبتسمة قالت لي:

-خلاص هو هيخف، لا تقل لأمك كي لا تفزع عليك.

وجدتني أقول لها هامسًا: حاضر يا ماما. فتوهجت

– Promesse

-برومث.

في هذا اليوم لم أقل لأمي شيئًا مثلما وعدتها. في اليوم التالي، وبعد أن فحصت الجرح وحمدت الله، سألتني فأخبرتها أنه “برومث”.

وها أنا الآن أفي بوعدي وأسير في جنازتك؛ لأنك سيدتي، ولك عليَّ فضل عندما كنت صغيرًا. وفي أخر الحشد رأيتُ مجموعة من الراهبات يبكين أمهن، بينهن راهبة من سني بعينين زرقاوين.

أصدرت سير كُولُتَّا قرارًا لحجرة الموسيقي بالسماح لي بقضاء الفسحة، استأذنتُ مدرِّسة الموسيقى السماح لجيهان بالتواجد معي فقبلت، بينما كان الأطفال يلعبون في فناء المدرسة، كنا نعانق الأوتار والأعمدة الهوائية. وأعجبتني آلة، عرفت فيما بعد أن اسمها الكمان، وبدأت العزف عليها. في يوم أحضرت سير كُولُتَّا رجلًا لإصلاح الآلات الموسيقية، وبعد أن انتهى أحضرت كمانًا قديمًا أثريًا من عندها، قالت:

-هذه الكامنجا ملك خاص لي، أريد أن أصلحه.

-سيحتاج وترين لإكمال أوتاره الأربعة، وتكلفته …

-غير مهم، سيعزف عليه ابني، أحضر قوسًا جديدًا مناسباً له، وسأحاسبك عليه.

كنت أسمعها، ولم أكن أعرف أنني الطفل المقصود، أصلحتْ الكمان، وأهدتني أياه في حضور أمي.

والآن، بعد أن أوصلت جثمانها، أنا أعزف لها على “فيولاتها”، وأسند خدي على مخدة الكمان، وأغمض عيني فأسند خدي صغيرًا على نهدها.

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون