أبناء الجبلاوي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 102
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

 يقال أن كل دخان أصله نار، لكن احدا لم يستطع معرفة سر الجمرة التي أشعلت نيران الشائعات التي عمّت البلاد؛ عن رؤية شخصيات روايات نجيب محفوظ، في أنحاء متفرقة من القاهرة.

ردد بعض مطلقي الشائعات أنهم رأوا بعيونهم "كمال عبد الجواد"، ليس كما صورته أفلام حسن الإمام، وإنما كما وصفه محفوظ نفسه في الثلاثية. بينما انطلقت شائعات أخرى تناقلت أن "حميدة" كانت تظهر ليلا في "زقاق المدق"..

انتشرت شائعة أخرى عن تعالي صوت صراخ يقارب العويل، لإمرأة تقاوم الغرق في مياه النهر، في وقت متأخر من الليل، بجوار أحد الكباري المطلة على النيل. قال مطلقوا تلك الشائعة أنهم شاهدوا”نفيسة” تتخبط في النهر، لاهثة، تنادي على المارة أن يأتوا لينقذوها من مصيرها المروع. وتناسوا أنها قد غرقت منتحرة، وفقا لرواية محفوظ في “بداية ونهاية”؛ امتثالا لرغبة شقيقها الأصغر “حسنين” الذي القى بنفسه في النهر بعدها مباشرة، خلاصا من دنس العار الذي لحق بعائلتها بسبب تعهرها.

تناقل آخرون وصفا دقيقا لشخصية “السيد أحمد عبد الجواد”، يسير في شوارع وأزقة حي الجمالية ليلا، يتأمل أحوال الحي الذي عاش بين ربوعه، عمرا طويلا، ومنه أطلق، ولعقود، نموذج الرجل الشرقي، إيجابا وسلبا على السواء. أكدوا أنه بدا طويل القامة، حتى أن رأسه، في حي “خان الخليلي” كادت توازي ارتفاع الطوابق الأولى في البنايات العتيقة الموجودة في المكان.

إزاء هذا الوصف لتلك الشخصية العملاقة، انتشرت شائعات مضادة؛ أكدت أن ذلك العملاق ليس سوى “الجبلاوي”. لكن مجموعة من سكان المقابر نشروا في اليوم التالي إشاعة مغايرة تقول أن العملاق الذي شوهد في الجمالية، وخان الخليلي هو”عاشور الناجي“.

ولأن تلك الشخصيات، وفقا للحكايات التي ذاعت، لم تظهر إلا ليلا، فلم يكن ممكنا للكثيرين، التيقن من صحتها.

بمرور الوقت، اختلطت الشائعات، ولم يعد أحد يستطيع التمييز بين الحقيقة والخيال، خاصة بعد أن بدأت بعض المرويات تُقحم، عن جهل، شخصيات، لم يتناولها محفوظ في أي من أعماله، ومنها ما زعمه أحد المتطوعين بالشهادة، في مقابلة تليفزيونية، مؤكدا رؤيته لمن أسماها ” آمال”، التي جسدت دورها النجمة “لبنى عبد العزيز” في فيلم “الوسادة الخالية”، مع عبد الحليم حافظ

قدّم الشخص وصفا دقيقا لملامح النجمة الشهيرة التي كانت أحد ملامح فتنتها هي أنها سمراء، بعينين خضراوين. بينما أصر ثالث على أنه شاهد شخصية “ميرفت” ترتدي فستانا أحمر عاريا في أحد الشوارع الجانبية المتفرعة من “شارع الهرم” بصحبة شاب وسيم، في طريقهما إلى منزله. ثم أردف ضاحكا أن هذه الشخصية هي في الأصل اسمها “ناهد”، وأنها فتاة طيبة، لكن عفريتا يتلبسها في الليل ويحولها من فتاة رومانسية حالمة، إلى داعرة لعوب، تمنح جسدها بسخاء لمن تهوى؛ من عشاق تنتقيهم من الملاهي الليلية.

قاطعه المذيع قائلا أن هذه الشخصية لم تكن شخصية من شخصيات نجيب محفوظ، وإنما هي النجمة الراحلة “سعاد حسني” بطلة فيلم “بئر الحرمان” الذي أخرجه صلاح أبو سيف في نهاية الستينات، وموضحا أن القصة لإحسان عبد القدوس وليس لنجيب محفوظ. لكن المواطن أصر على أن ما يقوله هو الحقيقة، وأنه رأى السيدة اللعوب بعينيه، فاضطر المذيع للانتقال إلى شخص آخر.

آثرت القنوات الفضائية التريث في إذاعة البرامج الخاصة بالشائعات؛ خصوصا بعد أن بثت إحدى القنوات الفضائية مقابلة مع واحد من الجمهور، زعم أنه شاهد “ياسين عبد الجواد”، الإبن الأكبر للسيد أحمد عبد الجواد من زوجته الأولى.

شوهد ياسين، وفقا لشهادة الرجل، في منطقة الجمالية، يسير خلف امرأة، تلف حولها الملاية السوداء وتتمايل بدلال. قدم الرجل وصفا لياسين يختلف عن وصف “عبد المنعم ابراهيم” كما ظهر بالفيلم، فقال:”كان شأنه إذا سار أن يسير متمهلا في هوادة ورفق، مختالا في عجب وزهو، كأنه لا يغفل لحظة واحدة عن أنه صاحب هذا الجسد العظيم، وهذا الوجه الفائض حيوية وفحولة“.

ابتسمت المذيعة؛ إعجابا بذاكرة الرجل وفصاحته. ويبدو أن الرجل كان صاحب ذاكرة استثنائية؛ إذ كان يحفظ ما ورد على لسان ياسين في “بين القصرين”، كما كتب محفوظ، وليس كما جاء في الفيلم، فأضاف بسرعة؛ أنه سمع ياسين وهو يسير خلف تلك المرأة يقول:

اللهم لا تجعل لهذا الطريق من نهاية، ولا لهذه الحركة الراقصة من ختام.. يا لها من عجيزة سلطانية جمعت بين العجرفة واللطف، يكاد البائس مثلي يحس بطراوتها وشدتها معا بالنظر المجرد”. (بين القصرين ص80).

اختلط الأمر على المذيعة لوهلة، وتصورت أن الرجل يغازلها، ويتفنن في الإطراء على عجيزتها، فظلت صامتة تبتسم له بخجل، واستحال وجهها ذو البشرة شاهقة البياض إلى اللون الوردي، بينما حل صمت مرتبك لم يقطعه سوى تدخل المخرج بالقطع إلى فاصل إعلاني.

قبل الفاصل، مباشرة، وفي أثنائه، تشتت تركيز المذيعة، لأن ما اعتبرته غزلا من ذاك الرجل جعلها تستدعي عبارات الإطراء التي تلقتها من العشاق العارفين، ومن المارة العابرين على السواء، وبالتحديد ما اختص منها مدح عجيزتها؛ بالفجاجة التي تطلقها رغبة الانتهاك غير المبررة؛ في الشوارع والطرقات، من مكبوتين جنسيا، مقموعين، ومخصيين نفسيا ومعنويا؛ لا يشعرون برجولتهم المزيفة إلا إذا انتهكوا عرض امرأة.

في النهاية يبدو أن القناة الإعلامية الرسمية قد تلقت أوامر مباشرة بصرف اهتمام الناس عن تلك الشائعات؛ لأنها ركزت في الفترة اللاحقة على إذاعة برامج خبرية ومنوعة، محورها موضوعين أساسيين: الأول تعلق بامتيازات تحسين دخول الموظفين والعمال، في قطاعات الأعمال الحكومية والخاصة. أما الثاني فهو وقائع تحرش جنسي، وحالات اغتصاب تتعرض لها الفتيات في بعض أحياء القاهرة النائية، وعدم قدرة رجال الشرطة من الوصول لسفاح المناطق النائية، بسبب تعدد الأوصاف التي قدمتها الفتيات والسيدات المتحرش بهن، والمغتصبات، بما يثير الشكوك بوجود أكثر من سفاح واحد.

تراجع الاهتمام، مرة أخرى، بقضية اختفاء روايات نجيب محفوظ، والظهور الغريب لشخصيات الروايات ليلا في العديد من أحياء القاهرة، لصالح الشغف بالأحداث الجديدة.

لكن الأمور سارت على غير ما يشتهي المسؤولون، إذ تناقلت الهواتف المحمولة للأفراد واقعة، لم يتم بثها في أي قناة تليفزيونية، أو مطبوعة، عن رؤية شخصية تدعى “سناء”، وهي تتعرض لحالة اغتصاب جماعي في خرابة من الخرابات المهجورة، لكن سرعان ما انتشرت “إضافة” ألحقت بمضمون الرسالة التليفونية، تفيد بأن “سناء” كانت تغتصب بإرادتها، لأن كل من اغتصبها كان يفترض أنه من أصدقائها المقربين. ومنهم شخصيات أشارت الشائعة لهم بالأسماء وهم أحمد صادق، وجاء وصفه مثلما ظهر بطل فيلم “المذنبون” الأشقر الوسيم، وأنيس البحراوي، وممدوح فريد، وحافظ بك، وفهمي، وحسن، ود.تحسين.

ثم ألحقت بالرسائل المتداولة، لاحقا، “إضافة” زعمت أن “محجوب عبد الدايم” شوهد قريبا من موضع الحدث، وأنه ضليع بتدبير تواجد كل تلك الشخصيات مع سناء في تلك الليلة، لكن، عدم قدرته على تنظيم المواعيد، بشكل جيد، جعل الأمور تخرج من بين يديه، وتتحول المسألة إلى ما أطلق عليه حفل “اغتصاب” جماعي، بيما بثت رسائل أخرى، استبدلت فيها كلمة “جنس” بكلمة اغتصاب.

أصبحت هذه الشائعة، على نحو خاص، مثار اهتمام وتعليقات الجميع، في الجلسات الخاصة والعامة، وفي المقاهي والحافلات، بل وحتى بين الفتيان والفتيات، والأزواج والزوجات؛ الذين كانوا يرون في تفاصيل الواقعة ما يغذي خيالاتهم الجنسية، ويفعل بهم ما يفوق تأثير المنشطات، وهو ما جعل من هذه الشائعة واحدة من أقوى الشائعات على الإطلاق.

لم تنجح كل وسائل التشتيت الإعلامي التي مارستها أدوات الإعلام الرسمي كلها، في تقليل درجة الاهتمام بها وانتشارها، مزودة، من رسالة لأخرى، ببهارات متنوعة، بعضها أضاف أفعالا صريحة، أقل ما توصف به هو التهتك، بوصفها بعضا مما مارسته سناء في تلك الليلة، أو مواصفات خاصة لبعض الشخصيات، أو إضافة أسماء لم ترد في قصة محفوظ. وبعضها أسماء شهيرة في المجتمع، مما جعل من هذه الشائعة كرة ثلج مخيفة فقد الجميع القدرة على السيطرة عليها. إلا أن أحدا لم يستطع أن يعرف مصدر جمرة النيران التي أشعلت كل تلك الوقائع الغريبة، بالرغم من كل هذا الدخان الكثيف!

2

في المأثور الشعبي المصري اعتاد البعض، خاصة في المناطق الريفية والشعبية، أن يبدأوا عملهم، أيا كان، مرددين:”إستعنا على الشقا بالله”. وأنا مضطر لاستعارة المأثور الشعبي، في هذا السرد، لعدد من الأسباب أولها؛ أنه لم يكن في خطتي أن أقوم بهذا السرد على الإطلاق، ولم تكن لدي أدنى رغبة، لكني أصبحت مضطرا لذلك بعد اختفاء “كبرياء“.

نعم، اختفى “كبرياء”، بعد أحداث عاصفة مر بها، وتزامنت مع وقائع غريبة حدثت تباعا على خلفية اختفاء أعمال محفوظ. ولأنني كنت شاهدا على السرد الذي بدأه، إضافة لمعرفتي تفاصيل حياته كلها قبل اختفاءه، وجدت في نفسي هوى لاستكمال ما بدأه؛ رغبة في توضيح ما سارت عليه الأمور في الشهور التي سبقت اختفاءه.

قراري هذا يبدو مشبوها باغتصاب سلطة ليست من حقي، هي هنا سلطة السرد، وهذا صحيح إلى حد ما. لكني، بأمانة، لا أعتبر نفسي مغتصبا لسلطة، أي أن المسألة لم يسبقها صراع بيني وبين صاحب حق السرد الأصلي. كما أنني لم أقم بانقلاب ثوري لانتزاع هذه السلطة. تم ذلك بشكل، أظنه، أقرب ما يكون لانتقال سلمي للسلطة. ولعلكم لاحظتم أن لغتي نفسها تكاد أن تتطابق مع اللغة التي استخدمها كبؤياء في السرد.

ثم أن لدي الكثير من المؤهلات التي تضفي الشرعية على سلطة السرد التي انتقلت إليَّ توا؛ وبينها؛ أن مصيري مرتبط تماما بمصير كبرياء، وحتى اسمي يتشابه، أيضا، مع اسمه، باستثناء اللقب الذي يميزني عنه؛ “قرين“.

على أي حال، أنا لا أتولى السرد، هنا، لكي أتحدث عن نفسي. وإنما، يتعلق الأمر، بكشف حقائق، عن كبرياء، وعن لغز غامض، يخص إنجاز كاتب حاز تقديرا من الجميع، بينما اندثر تراثه من بين أيديهم فجأة، ولم يفعلوا شيئا.

*****

قبل أيام قليلة من بدء انتشار الشائعات الخاصة بظهور بعض شخصيات أعمال نجيب محفوظ، تسربت أخبار اللجنة إلى الكثير من العاملين بالشأن العام.

فبالرغم من السرية المفروضة على عمل اللجنة، والتعهدات التي التزم بها كل الأعضاء بالحيطة والسرية، إلا أن الكثير من التفاصيل المتعلقة بإجراءات العمل داخل اللجنة بدأت في التسرب تدريجيا، على هذا النحو:

بدأ عمل اللجنة على محاور عدة؛ فقد اختصت مجموعة من المتخصصين في مجال السينما، بمشاهدة دقيقة لكل الأفلام السينمائية التي اقتبست أعمال محفوظ، وكلف أكثر أعضائها موهبة في الكتابة بمحاولة نقل النص السينمائي إلى نص مكتوب. وتمكن بعض أعضاء اللجنة، بالفعل، من تحويل النص السينمائي إلى نص روائي متقن. لكن، عندما تم عرض النص على المتخصصين في أدب محفوظ، تبين أنه لم يتضمن المميزات اللغوية التي تميز بها نص محفوظ، كما أن المقاطع السردية الوصفية عانت من مشكلات عديدة، أقلها غياب الدقة التي ميزت الوصف في النص المحفوظي.

قامت مجموعة أخرى بمحاولة إعادة تعريب أعمال محفوظ المترجمة للإنجليزية والفرنسية. بدأوا برواية “بين القصرين”، آملين أن تكون الثلاثية أول ما يحاولون استعادته. عملوا بجهد وحماس كهنة صارمين، وبدأب ودقة وإخلاص حراس الفنون العتيقة المتوارثة جيلا لجيل. لكن النتيجة كانت صادمة لهم جميعا.

المختصون في اللغة وأدب محفوظ قرأوا النصوص بسعادة، لكنهم أحسوا غياب روح النص الأصلية. مفردات محفوظ الفصيحة، وبلاغته، والروح المصرية التي تتدفق بها نصوصه.

كانت تلك ضربة موجعة للجميع، خصوصا أعضاء اللجنة، لكنهم لم ييأسوا، وبعد قليل من التفكير قرروا إضافة اللغة الألمانية أيضا، ثم مقارنة التعريب من اللغات الثلاث بالفيلم، وتكوين ورشة كتابة لتحرير النص في شكله النهائي.

في الليلة نفسها عقدت اللجنة اجتماعا مطولا امتد لليلة بكاملها. كانوا يريدون إيجاد حل حاسم وناجع. خاصة وأن عملهم كان محل مراقبة من مستويات حكومية عليا، وجهات ثقافية غربية، وفضول جماهيري لم يكن أحد يتصوره، بالإضافة لضغوط المثقفين.

صباح اليوم التالي نشرت الصحف إعلانا عن مسابقة رسمية، كما بث إعلان مصور آخر في القنوات الإعلامية الرسمية. تضمن الإعلانان رصد مكافأة كبيرة لأي شخص ممن يتمتعون بقوة الذاكرة ويحفظون أي فقرات سردية من أعمال محفوظ.

بنفس الحماس تكونت على الفور لجنة فرعية مهمتها فحص طلبات المتقدمين للجائزة وإجراء مقابلات معهم، في حضور بعض الكتاب والنقاد والأكادميين الذين يذيع صيتهم في المعرفة الدقيقة بأعمال محفوظ، وأسلوبه اللغوي؛ للتأكد مما إذا كان المتقدمون يحفظون، بالفعل، بعض أجزاء سردية من نصوص الرجل، أم أنهم مجرد مدعين.

توافد عدد كبير من المتسابقين، على عكس توقعات أعضاء اللجنة، حتى تجاوز المئتين وخمسين متسابقا. دخل المسؤول عن المسابقة إلى مكتب رئيس اللجنة، وحياه، بينما ترتسم على وجهه ابتسامة واسعة، وهو يحك يديه ببعضهما البعض بحماس.

لكن مدير اللجنة استقبل ابتسامة الرجل بفتور. كان يعلم بحكم خبرته أن الناس تتشبث بأي فرصة من هذا النوع، طالما أن الفوز في المسابقة يقتضي حصولهم على أموال نقدية، حتى لو لم تكن لهم أدنى علاقة بموضوع المسابقة. وكان على صواب.

في قاعة واسعة بمبنى تابع لهيئة المخطوطات، تحلق أعضاء اللجنة حول منضدة طويلة. بينما جلس المتسابقون على عدد من المقاعد المتراصة في صفوف، وبحيث يتقدم كل منهم من منصة يعلوها كرسي وثير، تعلوه إضاءة قوية مباشرة ليقرأ ما شاء. وعلى الجدار الخلفي للمنصة علقت صورة ضخمة لنجيب محفوظ التقطت له في سنوات حياته الأخيرة، ملتحيا بلحية خفيفة، ومبتسما ابتسامة دمثة محملة بوطأة سنوات العمر المديدة.

من بين المتسابقين جميعا ثبت أن من يحفظون شيئا من أعمال محفوظ لا يتجاوز عددهم إثني عشر شخصا فقط. أغلبهم لا تحتفظ ذاكرتهم سوى بفقرات محدودة، وبعض المقاطع في نصوص محفوظ كلها، خاصة” أصداء السيرة الذاتية”، “أحلام فترة النقاهة”، وبعض المقاطع الأولى من “الحرافيش”، و”بين القصرين“.

في النهاية لم يستثر اهتمام اللجنة المشرفة على المسابقة سوى متسابق واحد فقط. كان يغمض عينيه ويصمت لنحو ثلاث دقائق قبل أن يبدأ في السرد من الذاكرة، بسرعة، وبلا وقفات من أي نوع.

قرأ المتسابق، الذي بدا شابا في منتصف الثلاثينات، مقاطع متباعدة من “الحرافيش”. بلا ترتيب، ليس عن قصور، إنما ليستعرض إمكانياته وقدراته الفذة في الحفظ على أعضاء اللجنة.

المراقبون وأعضاء اللجنة الذين شهدوا تلك اللحظات وصفوها بأنها كانت الأكثر تأثيرا وحماسا في تاريخ اللجنة على الإطلاق.

فقد تخلى رجال اللجنة عن وقارهم وهدوئهم المعتادين. تركوا مقاعدهم ووقفوا جميعا، وقد تجيشت مشاعرهم، وشرعوا في التصفيق بحماس كبير، وهم يحيّون الشاب، ويطلقون أوصاف النبوغ والتقدير عليه، بينما تطغى عليهم فرحة انتصار وبهجة، استعادت لدى بعض منهم مشاعر اليوم الذي أعلن فيه عبدالناصر تأميم قناة السويس، والبعض الآخر استعاد نشوة انتصار مصر التاريخي في حرب 1973 على إسرائيل.

فتح الشاب عينيه الرماديين، كأنه استيقظ لتوه من غفوة أغرقته في حلم غريب. مسح على رأسه الخالي من الشعر، ونظر؛ فاغرا فاه، إلى أعضاء اللجنة. لكنه سرعان ما استعاد سيطرته، ورباطة جأشه، وابتسم لأعضاء اللجنة بامتنان.

لم ينتظر أعضاء لجنة التحكيم سوى دقائق قليلة بعد انتهاء الشاب من قراءته. كما أنهم لم يولوا البروتكولات المرعية شأنا، وأعلنوا فوز المتسابق فور انتهاء المسابقة، وخولوا رئيس لجنة التحكيم لإعلان النتيجة، رغم تنافى ذلك مع القواعد العامة التي اتفقوا عليها لإدارة المسابقة وبينها سرية عمل لجنة التحكيم.

لكنهم فوجئوا بمفاجأتين: الأولى أن اسم المتسابق صاحب الرأس الأقرع لم يكن موجودا في كشوف المتسابقين. أما المفاجأة الثانية فقد فجرها المتسابق الأخير، وبدا من مظهره مراهقا لا يتجاوز عمره خمس عشرة عاما، يرتدي “تي شيرت” أبيض، تتصدره صورة ملونة للملكة الفرعونية “كليوباترا” عارية على فراش موتها، وبنطلون “جينز” أزرق باهتا.

قال لهم بعربية فصحى، وبصوت أجش، قوي، لا يناسب ملامح وجهه ولا عمره الصغير:”أنتم تتجاوزون كل القواعد”. وقبل أن يرد أي منهم رفع صوته قائلا:”أنتم تقعون في خطأ كبير بهذا التجاوز. الشخص الذي ألهبتم أياديكم تصفيقا له، قرأ ما يحفظه من كتاب واحد، وأخطأ في النحو والتشكيل عدة مرات، ولم ينتبه أي منكم لذلك. كما أنكم وقعتم جميعا أسرى خداعه، فأغشاكم، فأنتم لا تبصروني. لكن عماكم هذا، لا يعني أنني لست موجودا، ولا ينفي قدراتي، التي يخجلني كثيرا أن أنوه عنها مضطرا، بسبب تقصيركم في أداء واجبكم على الوجه المبتغى“.

أصيب المكان بما يشبه السحر. زاغت عيون أعضاء لجنة تحكيم المسابقة جميعا، وهم يتأملون وجه الصبي، فبدوا كأنهم فقدوا القدرة على إبصار أي شيء سوى ملامح وجهه الأسمر المتناسقة؛ بأنفه الصغير الدقيق، وشفتيه الصغيرتين، وذقنه المدببة برقة، وشعر رأسه الغزير والحليق في الوقت نفسه.

انتهز الفتى الحالة التي سيطرت على أعضاء اللجنة، وبدأ يقرأ “أولاد حارتنا”، بفصولها المائة وأربعة عشر كاملة، بلا توقف، وبصوت جهير، لا تخفى طلاوته، يعرف متى يتوقف، ومتى يستعير أنفاسا من رئتيه حتى لا يعيق تدفق السرد، وبرع في تلوين صوته بلون كل شخصية من شخصيات الرواية بدءا بـ”الجبلاوي” ومرورا بابنه العاصي “إدريس”، وخليفته “أدهم”، وزوجته التي زينت له ولوج الغرفة التي كان الجبلاوي قد منع عليهما دخولها في قصره المنيف، وغيرها من الشخصيات والأحداث.

عندما انتهى، كانت عيناه تفيضان بدموع لا تسيل، وأغشى على أعضاء اللجنة، ليس من التعب، كما ظنوا، خاصة وأن هذه القراءة استغرقت يوما كاملا، وامتدت إلى منتصف الليل، إنما، تأثرا بصوت الفتى، وبالنص، ولم ينتبهوا إلى توقف جهاز التسجيل، الذي استثمروه في تسجيل كل كلمة نطق بها المتسابقون في ذلك اليوم.

مر الفتى من أمامهم، فلم يبصرونه، وخرج، وهو يرسم ابتسامة ساخرة، ظلت عالقة بأذهانهم جميعا لفترة طويلة جدا، كأنهم رأوها في حلم من أحلام نومهم العميق.

عندما استيقظوا كان الإثنان، قد اختفيا من المكان، ولم يبق لأي منهما أثر، سوى “تي شيرت” أبيض تزينه صورة ملونة متقنة من إحدى اللوحات التي صورت “كليوباترا” عارية على فراشها بعد وفاتها، بجسدها القمري الفاتن ونهديها الكاعبين، بينما جثت بجوار الفراش؛ جاريتها التي بدت متمزقة بالألم والحسرة.

………….

فصل من الرواية

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون