يوم عادي جداً طبعاً

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 34
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

صفاء عبد المنعم

 فى ميدان التحرير

بالأمس ذهبتُ إلى نادى القصة، وكنتُ لم أذهب إليه منذ سنوات طويلة، وأنا فى طريقى إلى هناك، مررتُ بميدان التحرير، وتحديدا أمام المجمع، وسمعتُ عن بعد صوت أم كلثوم تشدو برائعة بليغ حمدى( ليلة حب) كنت أود ان أجلس بجوار بائع الشاى والذى قام بذكاء شديد برفع صوت المسجل عاليا، فملأ المكان بعبير رائحة الشاى بالنعناع، وصوت أم كلثوم يجلجل يملأ الفضاء، ولحن بليغ حمدى كان هذه الليلة من أروع ماسمعت، أخذتُ أتلكأ فى خطواتى كى استمع إلى أكبر جزء من الأغنية، وبهاء الصوت وجلاله، وكلما أبتعد، كان الصوت ينغرز أكثر فى أذنى ويداعب مخيلتى، مرقتُ من بين فتحة الباب الحديد الذى أقيم فى أول شارع القصر العينى منذ ثورة 25 يناير 2011، مازالت المتاريس الحجرية الضخمة قائمة، تحجب الشوارع الأنيقة والمصالح الحكومية عن أعين المارة، وأخذتُ أبحث بعينى عن صور الجرافيتى والتى كان يرسمها الثوار على حوائط الجامعة الأمريكية، فوجدتُ أنه قد تم إزالة المبنى بكل الصور التى كانت عليه.
هنا وقفتُ قليلا، وأخذت أتذكر أحداث شارع محمد محمود، وقرأت الفاتحة فى سرى على أرواح الشهداء، وأنصرفتُ بعيدا، بخطوات مهزوزة حزينة ، لقد بعد صوت أم كلثوم كثيرا عن أذنى، وأقتربتُ أكثر وأكثر متوغلة فى شارع القصر العينى، ومازال صوت الثوار فى أذنى بهتافتهم العالية “أرحل، أرحل”.

لقد تبدل واحتل المساحة التى كانت تشغلها كوكب الشرق بصوتها الصداح، أخذتُ أتأمل واجهات المحلات والمبانى الحكومية، بداية من الجمعية الجغرافية إلى مبنى روزليوسف، ومسرح السلام، خطواتى البطيئة المتأنية بدأت تخزلنى، فشعرت بجوع شديد، بحثت بعينى عن مكان مناسب فلم أجد، دخلت سوبر ماركت أنيق وأشتريت باكو بسكويت أنتاج شركة بسكومصر، لماذا دائما أحن لكل ماهو ماضى وقديم؟ وأخذت أتذكر طفولتى المرحة، فقررت أن أسير بخفة ورشاقة برالينة معتزلة، وأخذت أشوط الطوب فى الشارع بطرف حذائى، وأنا أستعيد بداخلى صوت أم كلثوم الذى ملأ ميدان التحرير منذ لحظات صادحاً بليلة حب.

*******

كان علىَ

.  كان علىّ أن أقول له : لقد تأخرت كثير..!.
وأغنى بحماس شديد، أغنية جورج واسوف(أتأخرت كتير ياحبيبي).

كانت دموعها الحارة والتى تجرى على خديها مجرى النيل، وكادت أن تصنع أخدودا صغيرا على خديها، لم تستعطفه. وهى تمد يدها تودعه برداءها الأسود الحالك والذى أعتادت عليه كثيرا فى الفترة الأخيرة.

كانت كلما فتحت دولاب ملابسها، وجدت الألوان القاتمة، تبحلق فيها(الأسود، الأزرق، البنى).
أف!

أغتاظت كثيراً.
وأغلقت دلفة الدولاب غاضبة، ثم عادت إلى كوب الشاى الكبير الذى على المنضدة الصغيرة، ترشف بإستمتاع قليل. والبرد يحيط بها، إنه برد ديسمبر القارص، وليل الشتاء الطويل.
جاء صوت نجاة الصغيرة معاتبا(متى ستعرف، كم أهواك..)
صمتت.
وهى تدير مؤشر الراديو باحثة عن أغنية أخرى.
قد تذيب البرودة التى بداخلها.

******

كيف؟

كيف لم أرها تلك البنت الواقفة على حافة السقوط، تفتح مظلتها لترقص التانجو مع حبيبها فى الفراغ الرهيب؟
وهو فقط ينظر إليها، ويشعل سيجارته بحماس، وبهمة غير متوفرة لدية، ويقوم صانعا بيديه فراغا أكبر، كى يقبض على الدخان الطائر حوله.

عندى قطة بيضاء، وسلحفاة صغيرة، أخشى أن يكونا قد أتيا من زمن سحيق، كى يحفرا لى قبرا رومانسيا مثل أحلامى.

*********

للجميلات فقط

.. ستأتى إلى جوارى قطتى البيضاء.
وسوف تنونو نونوات صاخبة، كى أترك مافى يدى، وأضع لها الطعام، وأنا اسمع صوتها  الجميل : نونو..
أتركها، وأدخل حجرتى، وأدعى النوم، لأنها منذ عدة أيام قامت بهبش كتفى بمخالبها القوية، وأنا أحملها حتى لتستحم.

ظلت طوال الليل تجلس إلى جوارى صامتة، وأنا أنظر إليها بعين العتاب، هى تدرك كم أخطأت فى حقى، وأنا أحملها مسؤلية ذهابى إلى المستشفى لعدة مرات، كى أتلقى العلاج..
أنا أحبها كثيراً، ولهذا أنظر نحوها بعين غاضبة، وعين صامتة، وهى تفهم كل رسائلى المرسلة لها عبر مساحة الصمت التى بيننا.

*************

عباءة

تحت عباءة الوحدة.

أخبئ جسدي المترهل، وخطواتي البطيئة. خرجت من البيت مسرعة، كي ألحق بأخر قطار سوف يمر من تحت شرفتي. ولكنني بعد الخروج أكتشفت أنني لم أسق أصص الزرع.

فعدت مهرولة من جديد إلى الداخل، أختبىء بين الجدران الصامتة.

*********

لا أحب

لا أحب أحدا يعاتبني. مهما كانت مساحة الود بيننا. جسدي ترهل. بفعل متعمد لتركه وحيدا. أصبح يشبه جسد سلحفاة عجوز. أخبئ يدي عن المارة. حتى لا يدركوا كم أنا وحيدة. وأعاني من مرور السنوات الكثيرة على قلبي. لن أسامح جميع من أغلقوا قلوبهم عني. وتركوني في عراء الصمت، أغزل شالاً أسودً بمحبة مفرطة. قلبي المرهق والذي يطالبني الآن بالراحة أو السفر أو الترحال. تشقق جبنا في سنواته الأخيرة. أي راحة يدركها؟ وهو المفطوم على الألم. لقد يأست ياصاحبي من حشو المسافات الواسعة في الحلم بالمحبة، وملء حياتي بكل صور البهجة المصنعة والمزخرفة بورود بلاستيكية عديمة الرائحة. أنا الآن على حافة الخروج إلى المعاش من صفحة الحياة، ومازال قلبي يطالب بحقه في السعادة الواجبة.

************

فى الصيف

سيفتخر رب أسرة فقير. بأننى أدرس لأبنته الصغيرة مبادئ الحساب والعد حتى رقم عشرة.
وستفتخر أم لأربع أطفال أيتام، بأننى فى كل يوم أختص طفلا من أطفالها بجنيهاً كاملآً كى،   يشترى من المقصف كيساً من الشيبسى.
وستدعو لى العجوز التى تقف على ناصية الشارع، أننى كل يوم أمر عليها مبتسمة، وأقول لها ضاحكة : صباح الخير ياأمى.
وكل صباح سوف أدس فى يد صديقة طيبة، ساندوتش من الفول وأخر من الطعمية الساخنة.   وتضحك ملىء شدقيها وهى تداعبنى بصفو نية : ياأبلة هو المنية إيه النهادر؟
وأنا أضحك حزينة من ضيق اليد.

كنتُ أتمنى أن املأ حافظتى بأنواع الكثيرة من العملات، كى أستطيع كل يوم أن أنفق على    أحبائى بما يشتهون، وأشترى لأبنتى شقة جميلة فى حى راقى، وأدفع أشتراك الجيم لأبنتى   الصغيرة..
ولكننى رغم هذا أضحك دائماً، وأنا أعاتب نفسى بصدق، لماذا لم أصبح مثل الأخرين، وقبلت الأعارة أو السفر إلى دول النفط؟

. كى أحقق لهم مايحلمون به..
.. ولكننى أخر الليل أمسك ورقة بيضاء، وأكتب فيها بداية قصة جديدة!

*********

بنت جميلة أتت

بنت جميلة أتت.
لم يمسسها بشر، مرت من هنا، منذ دقيقة، بعد أن أخرجوا الغريق من البحر،
وسألتنى : هل رأيتى الغريق؟
بنت لم تخط السنون على وجهها خطوط. رفيعة، نهداها فهدان نافران أمامها
كنتُ أحاول أن أعطى قبلة الحياة للجسد المسجى أمامى بشيخوخته، وطحالب البحر تغطى صدغيه.

أقتربت البنت أكثر وواجهتنى : من يكون هذا الغريق ياسيدتى؟
رفعت عينيى نحوها بضعف وكلل : لا تبال ياصغيرتى.
فهذا يحدث كل يوم، إنها امرأة غريبة مرت من هنا، كانت تحاول أن تقبض على شىء هاربا منها، فوقعت من فوق الطحالب الزلقة.
ابتسمت البنت فى تعجب، وهى تقارن بعينيها بين الجسد المسجى على الشاطىء وبين الجالسة تدخن فى صمت.
وأنا ابتسم فى خجل، وأحاول أن أتذكر ما كتبته وطار لحظة سقوط الجسد فى الماء من فوق الصخرة..
أحاول إعادته من جديد، من ذاكرتى، ذاكرة جسد فتاة مرت من هنا من قبل، ووقفت تتأمل الغريق وتحدثنى.

******************* 

العصافير تزقزق

سمعتْ صوت ضحكات فرحة، وندائات بأصوات ضعيفة تنادى عليها من بعيد، وكلما تقترب من مصدر الصوت، تسمعه أوضح، نظرت بعينيها المجهدتين ناحية المصدر الذى يأتى منه الصوت. كان هناك داخل عربة فان كبيرة بها بعض الأطفال الصغار يتقافزون، ويهللون فرحين، وبأصواتهم الضعيفة الفرحة ينادون : ياميس، ياميس.
أقتربت أكثر من العربة، ودققت النظر طويلا.
أخيرا تعرفت عليهم، أنهم مجموعة من الأطفال الصغار، يتكدسون داخل عربة صغيرة، وينادون نداءت متكررة ضعيفة.
عرفتهم، أنهم تلاميذها الصغار، تلاميذ المدرسة السابقة والتى كانت تقوم بإدارتها فى العام الماضى.
أقتربت أكثر وأكثر، إلى أن أصبح وجهها ملاصقا لشباك السيارة.
أخرج الأطفال الصغار رؤسهم، وأيديهم، وأخذوا يسلمون عليها الواحد تلو الآخر، وهو مبتهجا  ويخرج فمه الصغير من بين الفتحات، ويقبلها قبلات حارة ومتوهجة، وجميعهم فى صوت واحد : وحشتينا ياميس، والنبى تيجى عندنا تانى ياميس.
بعد أن أخذت منهم جرعة حنان ومحبة مفرطة.
أنطلق السائق بهم، وهم مازالوا ينادون، ويلوحون بأيديهم الصغيرة، ويزقزقون مثل العصافير الفرحة المبتهجة على الأشجار، وأصواتهم تبتعد، وتخفت : مع السلامة ياميس، والنبى تبقى تيجى عندنا تانى.

*********

الحكايات

الحكايات التى راوتها، والحكايات التى لم تروها بعد!

 لن تشبع لديها رغبة الاستمتاع بحضور الكائن المثالى، أو الممكن المستحيل الذى تنتظره على مسرح حياتها، المتوقفة منذ العرض الأول لنص قصير.

**********

صديقة

أتعامل مع نفسى الآن على أننى فى فترة نقاهة!
وخارجة من حالة عزلة طويلة، أمتدت لأربع سنوات تقريبا
بدأت بحالة من الأنسحاب، وتطورت إلى الغثيان، ثم أكتشاف الورم وأستأصاله، ثم الدهشة من النجاة، ثم محاولة الأستشفاء، وعلاج الروح.
من وقت لآخر الجرح يعن علىَّ، ولكن الروح هى التى تراوغ ولا تريد لى السلامة، ولأنها روح حزينة، والشيطان العاصى يسوقها أحيانا، فهى تبتعد، وتنسحب كثيرا، لإثار السلامة، وتردد فى داخلها البعد عن الناس غنيمة.

ولكن على غفلة، ومكالمة غير متوقعة، حدثتنى صديقة قديمة من الزمن الجميل، وذكرتنى بأنها تريد رؤيتى يوم الخميس.
وأندهشت كثيرا : لماذا يوم الخميس؟
ضحكت بحب مشوب بالسخرية، عيد ميلادك ياحبيبتى، أنت نسيتى؟
ضحكت بقوة، وتعطش للحب الصادق.
ياالله!
أنت جميلة بجد.
ضحكت هى بعمق وصراحة.
ياصافى أنت الصديقة الوحيدة اللى طلعت بيها من الأكاديمية..
ياالله!
هذا منذ سنوات طويلة..
والآن تذكرنى، يالها من رائعة، ويالها من روعة، ودفء فى ليالى ديسمبر الباردة، أن تتذكرنى صديقة بعيدة، تحمل لى كل هذا الحب.
منذ متى؟ لا أذكر، أنقطعت كل صلتى بالعالم، ونسيت نفسى، وأنغمست حتى أذنى بالإدارة والمدرسة، ودخلت فى دوامة الأوامر والنواهى، وسلسلة طويلة من العطب الروحى والجسدى والفكرى.
أربع سنوات لم أمسك القلم، ولا أشعر بآدميتى إلا الآن.
مكالمتك ياصديقتى، حركت الحب الكامن فىَ، للحياة والحرية.
فشكرا لك.
ودمتى صديقة جميلة.

********

شجرة عيد ميلاد

                                                           

دموع!

 دموع، وقلب واقف على عتبة الذكرى.

يالها من وحشة، أن تستيقظ من النوم فجراً، على صوت عاشق يناجيك سراً.

غنيت مع المحبين، وبكيت مع العاشق..ونسيت أن أنام فى وداعة طفلة مستقرة.

كم من الذنوب غفرت اليوم ياالله؟

وكم من ذنوب تركت للأستغفار بألسنة مستغفرة، وقلوب وجلة.

أنا الوحيدة الواقفة، أتأمل صعود وهبوط الملائكة المرتلين فى ساعة التجلى العظيم.

عشت أمنح أوسمة للمحبين، ونسيت أن أشفى قلبى من عثراته المتكررة.

رأيتكِ تبدين أمتعاضاً ياطفلتى كلما سألت عنكِ الطفلة التى بداخلى.

أحاياً أكون غنية فى حبك.. ولكن لماذا كثيراً يشح اللقاء؟

جرح وراء جرح.

وقلوب صدأت من كثرة المعاتبة.

قالوا: الحب مات.

قلت: ولماذا إذاً تنبض قلوب المحبين فى ساعة رجفة الأشتياق والعناق.

فى القلب جرح، أصر أن ينزف طويلاً. وأنا كل يوم، أضمد جروح المحبين.

يقول الناس أنكَ هجرت ودى..وأنا أصر على البقاء خارج التغطية.

دائماً تحدثنى البنت التى ركضت خلف السحب، أن هناك قمراً مختبئاً خلف الغيوم، فصدقتها.

وركضت مثلما ركضت، ولكننى وجدت المشوار طويلاً، وصحتى بدأت لاتقدر على الهرولة.

أنا الديسمبرية التى تكره البرد، وتحب أغسطس..إلى الذى آمن أن(للبحر ضفة واحدة). أوحشتنى.

أوحشتك!

البنت التى قاربت على الستين، ترسل للبنت الصغيرة الجالسة فى الشرفة المقابلة، رعشة برد مفاجأة حتى تفيق من عزلتها.

ذات شتاء.

سيلقى الدفء عبائته على صدرى، وأشعر بحنين جارف إلى حضن دافىء وحار فى شهر ديسمبر.

كانت تلك البنت الصغيرة، تتمنى أن يحضر لها الورد فى العام الجديد، ويقول لها(كل عام وأنتِ حبيبتى) ولكن هذا العام سوف يختلف كثيراً، لأنها ربما تكون مشغولة فى لقاء مع الرئيس، أو فى تدريب للموهوبين من الأطفال، أو ربما تكون فى أدغال أفريقيا، تبحث عن رجل حكاء عجوز يشبه العماليق أو الأقزام فى الحكايات القديمة، فيحكى لها حكاية سعيدة، عن بنت كانت هنا يوماً، تبحث عن طفل ضائع، أو ربما تكون خائفة من شبح رجل ملثم يطاردها، كى يقتل، ويدمر، ويحرق البراءة فى داخلها، لأنها تشكل خطراً وجودياً على وجوده بحكاياتها الغرائبية، والمسلية للأطفال.

****

كوب يانسون ساخن

كانت يداها باردتين، لدرجة لا تقارن بأيام الشتاء السابقة. حينما وضعت كوب اليانسون الساخن أمامها على المنضدة.

وكم من مرة جلست هكذا تحتسى كوبا من اليانسون الدافىء فى ليل الشتاء البارد، وخاصة فى شهر طوبة وهى تحاول أستعادة الذكريات القديمة منذ سنوات هاربة.

كان لديها طموحاً طاغياً، أن تصبح صاحبة مشغل كبير، وحولها فتيات جميلات يشبهن زهور النرجس، يلتففن حولها، يتعلمن منها سر الصنعة ودقة الخياطة والتمكين، ومن مجرد نظرة يتم التعرف على الموديل والمقاس المناسب للأحجام أو الحجم الذى أمامها، وكم من ليلة جلست تفكر وتخطط وتدرس وتتعلم لهذا اليوم.

وهاهو صوت فيروز يملاءالحجرة نغماً، وأنساً، وهى مازالت تتابع جميع المشاهد التى أمامها على شاشة التلفاز(فى أمل ..هيه فى أمل).

جلست تفكر وتفكر.

وفجأة يتناهى إلى أذنيها صوت فيروز الناعم بأغنية(بأكتب أسمك ياحبيبى..) كم من مرة سمعتها طوال عمرها الطويل؟ وهى صغيرة، وهى مراهقة، وهى شابة، وأم وزوجة(الكل باطل وقبض الريح) ماالذى جاء بهذه الجملة فى هذا الوقت تحديداً، وهى الهادئة تستمع، وتستمتع بالصوت الهادىء؟

لابد أن هناك فى الجو كائنات وأشارات حولها!

مدت يدها، رفعت صوت التلفاز، كى تسمع صراخ الأم الملكومة واضحاً، والذى ظهر فجأة على الشاشة.

لم تقل الأم شيئاً، فقط قالت : عوض عليك، ياصاحب العوض.

وهى تسير خلف جنازة أبنها المهيبة، والتى خرج فيها جميع أهل القرية.

إنها جنازة عسكرية.

هكذا قالت لنفسها وهى تغلق الصوت، وتترك الصورة تتحرك أمام عينيها.

تذكرت كم من مرة قال لها : ياأمى.

وكم من مرة، وضعت يدها على رأسه بعد كل صلاة، ودعت له بطول العمر؟

رفعت رأسها عالياً نحو السقف، رأت صورة أبنها، بالشيط الأسود، معلقة عالياً، وهو يبتسم أبتسامته الخفيفة الصادقة.

دمعت عيناها بعض دمعات قليلة، ثم عادت تفكر : ياالله كم أضعت من عمرى، وأنا فى هذا المكان، اسمع نحيب الأمهات الثكلى، وأرى دمعوهن الغزيرة، تنهمر من عيونهن الحزينة.

جاء صوت آذان الظهر من المسجد القريب، قامت من مكانها نحو الحمام، وهى تسير بخطوات ثقيلة، وتمسح دموعها بظهر يدها، وهى تستعد للوضوء لصلاة الظهر.

دخلت الحمام، وأغلقت الباب عليها بأحكام شديد، ومالت برأسها أسفل صنبور الماء وفتحته وهى تستغفر، وتواصل دعائها لأبنها الذى رحل وتركها وحيدة منذ سنوات طويلة.

وبعد أن أنتهى الآذان، وأختفى صوت المؤذن، فتحت الباب، وخرجت غارقة فى دموعها التى لا تنتهى.

**************

فرجينيا

فرجينيا تلك المرأة النحيفة التى عشقتها المرة تلو المرة، وظللتُ أهيم بها لسنوات طويلة منذ عرفتها، لماذا أتذكر هذا التاريخ تحديداً؟ عندما أقترب منى فرحاً وهو يمد لى يده بكتاب صغير، قد وجده فى المكتبة، وقال لى وهو يضحك سعيداً : هذا الكتاب يناسب أسلوبك تماماً ياحبيبتى، فأنتِ تكتبين مثل هؤلاء. ثم وضعه أمامى على المكتب، وخرج مسرعاً من الحجرة، يشعل سيجارة جديدة، ويدخن فى شراهة واستمتاع.

فتحت الكتاب بتوجس شديد، وبيد مرتعشة من أثر غسل الأطباق بالماء البارد فى فصل الشتاء.

كانت من بينهم(فرجينيا وولف) ببساطتها والتى تشبه نصل السكين الحاد الذى ينغرس عميقاً، عميقاً فى القلب، فيحدث ثقباً صغيراً، ويظل ينزف ولا تستطيع أن توقف الدم المتدفق خارجاً من ذلك الثقب الصغير، مهما حاولت إيقاف النزيف، يزاداد تدفقاً وأندفعاً، هكذا فعل بى أسلوبها فى الكتابة، فصارت نبراساً لى منذ ذلك العهد.

حتى لو كنتُ قد تمردت على هذا الأسلوب فى مرات عديدة، وقرأت كتباً جديدة وحديثة ومختلفة، وأكثر تطوراً وحداثة من ذى قبل، ولكن يظل هناك الحلم،  الحلم بالمجد العظيم يراودنى، وظللتُ بين لحظة وأخرى، أبحث لها عن كتاب هنا أو هناك، وكلما وجدت كتاباً جديداً مترجماً لها، أفرح مثل طفلة صغيرة، بقطعة شيكولاتة كبيرة من المفضلة لديها، ولتكن شيكولاته(كورونا) وظللت حالمة بهذا المصير المأسوى، والذى أضاف إلى تجربتها بعداً مصيرياً مفعماً بالأسى والسواد والعظمة.

(ياألهى) كن رقيقاً، ورفيقاً، فقلبى الضعيف لا يحتمل كل هذا العذاب، كانت هذه هى جملتى التى دائماً أرددها كلما ألمَ بى ألمٌ شديد، أو مأساة!

وكلما قرأت فرجينيا وولف، أشعر أننى طفلة تحبو فى مرحلة الكتابة.

منذ خمسة وثلاثين عاماً وأنا أقرأ وأكتب، وأدون، وأصدر كتب، ولكن كلما توقفت أمام المكتبة المتخمة بالكتب، ومددت يدى، وأخذت كتاباً لفرجينيا، أشعر بمشاعر طفلة مراهقة، تقف فى الشرفة العالية، تنظر إلى ساعتها بتوتر فى أنتظار، حركة يديه وهو يمر من أسفل النافذة ويحيها تحية المساء، تلك الفتاة التى تقف أمام المكتبة الآن، كانت قد تعودت فرجينيا أن تفعل بى هذا الفعل، تردنى إلى طفلة النافذة، إلى البراءة الأولى، والترقب والمحبة المفرطة، والزمن الذى مر سريعاً دون أن أدرى، كيف مر هكذا؟ وأنا على مشارف الثامنة والخمسين تحديداً، لازلت أذكر تلك المرأة المراهقة، لقد تعرفت عليها لأول مرة فى عام 1984 ، عندما قرأتُ لها قصة قصيرة، كتبتها بيد مرتعشة، وقلب صغير محب، مع مجموعة مشتركة من جيل كتاب القصة الحديثة، وكانت أكثرهن جذبا لى، بأسلوبها وطريقتها البديعة فى التعبير عن مخاوفها ومشاغلها، لقد عشقتُ تلك السيدة(دالاوى) وكم من مرة ملأتُ جيوب معطفى بالحجارة، ووقفت أمام النيل، أتخيل صورتها وهى تلقى بنفسها فى الماء.

لقد ذكرت ذلك سابقاً فى رواية(قال لها ياإنانا) وكلما خرجت من مبنى التليفزيون عند ماسبيرو، كلما تذكرت هذه الصورة بوضوح، وأشتقت كثيراً إلى تلك الجيوب المثقلة بالحجارة، وحجرة تخص المرء وحده، يالك من ساحرة كبيرة، أيتها الجميلة المعذبة المراهقة.

*********

الآخر

بالتأكيد كلانا مخطئ فى حكمه على الآخر!

أنتَ ترانى تلك الدابة الصبور التى تحتمل الشدائد دون كلل.

وأنا أراك ذلك الرجل الأنيق الذى جذبنى من أول نظرة، وهو يقف أمامى لأول مرة، وأنا أفر هاربة من بائع المناديل السمج الملح الذى ظل يطاردنى منذ كنت داخل الأتوبيس العام إلى أن وصلت إلى هنا فى هذا المكان الهادئ الراقى، كنت ذاهبة فى ذلك اليوم لزيارة عمتى الكبيرة فى حى المعادى. وظل هذا البائع يرقبنى بعينيه الزائغتين الجاحظتين فى وقاحة، وهو بين لحظة وأخرى، يمد يده لى بباكو المناديل الورق، وأنا واقفة فى هدوء على الرصيف، أنتظر الباص الذى سوف يقلنى من ميدان لبنان إلى ميدان الحرية. صعدت. صعد ورائى، وظل يفرض ذكورته الوقحة علىَ، وأنا صامة، خشية الفضيحة بين الراكبين. ظل هو يلتصق بى، داخل المسافة المحصورة بين المقعدين، وكلما هربتُ من عينيه وفحولته، وأنفاسه الساخنة. كلما زاد هو عناداً وألتصاقاً، إلى أن قام شاباً صغيراً، وأجلسنى مكانه. ظل هو واقفاً بكل برود، ومتبجحاً، يبحلق مرة فى وجهى الخجول، ومرة فى شعرى الناعم المسدل على كتفى، ومرة إلى يدىِ الساكنتين فوق حجرى، وهكذا طوال الطريق، هو يبحلق وينظر ويتبجح، ووقح. وأنا أصمت.

إلى أن نزلت من الأتوبيس فى نهاية الخط، كانت المسافة طويلة، طويلة، والوقت يمر بطيئا، بطيئا مثل سلحفاة عجوز قديمة.

ونزل ورائى.

وإذ فجأة وجدتكَ أمامى، بجوار سيارتك الفارهة، تغلق بابها بهدوء وعظمة الهادئ المستقر.

وأقتربت منكَ، ومددت يدى أسلم عليكَ فى لهفة، كمن وجد مخرجاً سريعاً له بعد طول جهاد.

ظل هو بعيداًعلى الرصيف الآخر، يرقبنى بعينيه الجاحظتين، وهو يتلمظ غيظاً مثل قط جائع.

كنتُ لم أراكَ منذ خمسة عشرة عاماً كاملة، منذ كنا أطفالاً صغاراً، نلهو ونمرح داخل بيت جدنا الكبير.

وعمتى تضحك سعيدة. وأنتَ تقدم لى باكو الشيكولاتة كاملاً، قبل أن تفتحه، وتفض غلافة الرقيق.

يومها قالت عمتى لأبى بفرح شديد : إيه رأيك ياأخويا، نأخذ تماضر لتوفيق.

ضحك أبى بملىء شدقية مبتهجاً، وقال : البنت بنتك ياحبيبتى.

كنا صغاراً، وحمرة الخجل لم ترهقنا بعد.

ومات أبى. وظلت عمتى الكبيرة وفية على عهدها. وها أنا ذا بعد خمسة عشرة عاماً أخرى من زواجاً، أقول لك بكل ثقة وقوة، وغير عابئة بحكم الآخرين(بالتأكيد كلانا مخطئ فى حكمة على الآخر) عليك أن تختار من تريد من الآن، وأنا غير غاضبة منكَ.

******************

مطر من السعادة المفرطة

خوف وراء خوف!

وشتاء وراء شتاء!

أزرق لون البحر، السماء تسقط أمطاراً غزيرة، يضطرب البحر ويتخبط الموج متلاطماً، كأنه طفلاً حزيناً يريد أن يصرخ على صدر أمه.

الحياة المضطربة بسبب الشتاء، وهطول المطر، جعلت البنت الصغيرة تخرج يدها من زجاج النافذة وهى تصرخ ضاحكة : الله مطر.

ثم ظلت تغنى طوال الطريق(يامطرة رخى، رخى..) سمعتها ريح لعوب صغيرة كانت تدور خلف ورق الشجر، فدخلت مسرعة من النافذة، وأخذت تتلصص على البنت الصغيرة وهى تغنى فرحة، فأخذت تلعب بشقاوة غير عادية بجميع الأوراق التى على الأرض، ورفعتها وأسقطتها داخل السيارة، فكانت البنت مسرورة من دخول الريح والأوراق، وقليلاً من البرودة المنعشة. ظل الأب يضحك سعيداً، والريح تلعب معه لعبة(الغميضة) فهو بين لحظة وأخرى يغلق عينية قليلا، ثم يفتحهما ثانية كى يرى الطريق.

وهطول المطر يتزايد، والريح الصغيرة تلعب، والبنت تصرخ وتهلل ضاحكة.

قبضت الأم بقوة على ذراع أبنتها وجذبتها إلى داخل السيارة، وأغلقت النافذة بقوة وعنف وغضب شديد.

أنقطع المطر فجأة، بعد هذه الحركة العنيفة من الأم.

نظرتْ السماء نحو الأرض بغضب شديد، وجذبتْ أبنائها الصغار من حبات المطر المتساقط فى زخات مرحة، وجمعتهم داخل جلبابها الكبير ورحلت. خرجت الريح الصغيرة المشاغبة من النافذة المجاورة للأب، وأخذت أخواتها ورحلت بهم بعيدا نحو مكان آخر، يكون به أطفالاً صغاراً يغنون للمطر.

نظر البحر، نحو المطر الصاعد إلى السماء، وتوقف عن بث سعادته ومرحه، وأرسل أمواجه الكبيرة العنيفة نحو الشاطئ، تلعب وتجرى فى مرح خلف بعضها.

نظر الأب بغضب نحو الطريق، وبرك الماء العميقة، وأخذ يسير بحذر شديد وخوف واضح.

نظرت الأم نحو أبنتها الحزينة المنكمشة داخل نفسها على الكرسى الخلفى، ومدت يدها تربت على شعرها بحنان وحب. بكت البنت الصغيرة، فتساقطت دموعها مثل اللؤلؤ المنثور على فستانها الأزرق الجميل، فصنع بركة صغيرة. مدت الأم يدها، وحاولت بمنديل ورقى أن تجفف تلك البحيرة الصغيرة المصنوعة من دموع أبنتها المحبة للمطر.

علمت الريح بما حدث، فجاءت ثانية وأخذت ترسل بعض قطرات المطر الصغيرة على الزجاج، محدثة بذلك موسيقى صاخبة. فرحت البنت ثانية، وأخذت تغنى وهى تصفق بيديها الصغيرتين : يامطرة رخى، رخى.

 فرح المطر فرحاً شديداً بعودة البنت للغناء، وأخذ يرسل المزيد من القطرات الضاحكة المرحة لها.

*********

الجميلة والوحش

“يالها من ليلة جميلة”

يوم زارنا خالى المجند فى الجيش، فى تمام الساعة العاشرة مساءً من عام 1969.

كانت أمى على وشك الوضع. وجاء مع خالى الكبير كى يطمئن عليها، يومها ضحكت أمى خائفة وقالت : عامل إيه ياقلب أختك؟

يومها ضحك بملىء شدقية الكبيرين، وجذبنى من أمام التليفزيون، وأنا أشاهد فتاة صغيرة تلعب على الرمل مع الوحش الكبير، وتغنى له أغنيات جميلة.

ثم مد يده على رأسى الصغير وهو يضحك : الله يارحمة شعرك جميل.

ضحكت أمى، وهى تحاول مدارة دموعها التى تنهمر بسرعة، وتجرى على خديها بكل قوة.

– ياحبيبى طمنى عليك.

ظل خالى الصغير يملس بيديه الحانيتين القويتين على شعرى وهو صامتاً. وأنا مازلت أتابع بعينى عن بعد صورة الجميلة والوحش، ومازالت الفتاة الصغيرة تغنى له بصوت رخيم محب.

وبعد إلحاح متواصل من أمى المرهقة بسبب الحمل، وأعبأ البيت الثقيلة على كتفيها، قال خالى بنفاد صبر : خير، خير، كله تمام.

نظرت أمى نحوه بعينين حزينتين وخائفتين على شقيقها الصغير، وهى تسمع كل يوم عن أخبار الحرب على الجبهة مع العدو، وزاد خوفها أكثرخصوصاً بعد ضرب مدرسة بحر البقر ومصنع أبى زعبل. قال خالى الكبير مهدأ أمى بكلمتين طيبتين : الحرب هى الحرب ياأختى!

وحش كبير يلتهم أرواح الشباب!

ثم قام واقفاً، وهو يحاول أن يربط رباط حذاءه المفكوك. وخالى الصغير مازال يملس على رأسى بكل حب وحنان. وأنا مازلت أتابع الوحش الضخم على الشاشة، والبنت الجميلة تغنى له أغنيات طيبة. وأثناء ماكانت البنت تغنى للوحش وتهدهده بصوتها، سمعنا صراخا متواصلاً : طفى النور.

 طفى النور.

مدت أمى يدها الكبيرة، وكتمت الصوت، كتمت صوت الغناء. فظلت الصورة صامتة.

والوحش الكبير رابضاً يملأ الشاشة، والبنت ترتجف فى رعدات صغيرة. لقد لمحتُ عن بعد، بعض الحركات الصغيرة المرتجفة فى جسدها، بعد أن غاب الصوت، ظللتُ لدقائق معدودات أتابع حركة الجسد المرتجف.

وخالى الصغير مازال يداعب خصلات شعرى الناعم، وأنا جالسة فى صمت فوق ركبتيه أراقبُ حركة الوحش، وصوت البنت.

بعد صفارة الأمان أنطلق خالى خارجاً من البيت، وهو يمسك بقوة بيد خالى الكبير.

رأيته يرتجف، يرتجف بشدة.

بعد أيام قليلة، رأيتُ أمى ترتدى ملابس سوداء، وهى تحاول كتم صراخها، وتردد بصوت كتوم حزين : ياقلب أختك ياحبيبى.

********

نقطة ضوء

لا تقف فى الظلمة بمفردك!

لأن المسافة قاسية.

كان النور شحيحاً، شحيحاً جداً، عندما حاولت العبور من المنطقة المظلمة فى الروح إلى المنطقة المضيئة، ولكنها حاولت، وحاولت بكل جهدها، أن تعبر ذلك النفق المظلم، وتتوجه مباشرة إلى الضوء، إلى نقطة الضوء التى كانت تشع هناك على بعد عشرة أعوام، عندما تركها على الطريق بمفردها، وفر هارباً.

تركها وحيدة، تقابل بكل يأس وتعاسة العواصف والرياح والظلمة. يالها من مسافة طويلة، قطعتها بنور داخلى! كى تعبر من ظلمة النفس والقسوة، إلى نقطة ضوء بعيدة، كانت تشع شعاعاً خافتاً.

 ياالله على الجمال الذى بداخلك ياسيدتى.

*****

قلب

أنحدرتْ الدمعة الساكنة فى عينىِ منذ مدة.

كنتُ أعتقد أننى أصبحت غليظة القلب، فاترة المشاعر، لمجرد أن الدموع توقفت وتحجرت فى عينىِ.

ولكن فى هذا اليوم الشتوى تحديداً!

 وجدت الدموع تنهمر، تنهمر بغزارة، وأنا أرى طفلاً على كتف أمه يبكى فى صمت، وهى تحمله وتهرع به  مزعورة ومسرعة نحو المجهول.

لحظتها!

 لحظتها فقط، عرفت كم المشاعر المتباينة داخل قلبى المرهف الباكى.

****

هى 

عبثا حاولت إقناعها بأن تغير من نفسها طالما هى تقدر على فعل ذلك.

وتملك زمام وشكيمة أمرها.

ولكنها فى كل مرة، كانت تفر من أمام عينىِ، وأراها خارجة من بين الضباب، وكتل الثلج المتراكمة فى وحدتها والتى صُنعت ببطْ وبدون وعى منها، وأخذتْ تزداد تراكما يوما بعد يوم فوق قلبها الضعيف.

وصبى المقهى يقدم لها فنجان القهوة المضبوط، والذى تحبه بعد عناء يوم كامل فى العمل.

حدثتْ نفسها، لماذا أنا تعسة هكذا؟ ومحبطة إلى أقصى درجات الإحباط؟

مدتْ يدها، وأخذتْ ترشف من فنجان القهوة ببطء شديد، وممل، وهى تتذوق بقايا البن الثقيل، المتبقى فى قاع الفنجان.

إذ فجأة.

 جاء سرٌب من الطيور البيضاء وحلق حولها، وهى لا تعرف من أين جاء هذا السرب؟

وكيف أخترق كل هذه الحواجز والمبانى العالية المحيطة بالمقهى.

كل ماعرفته أن هناك رسالة ما، تحاول الطيور أن تخبرها بها.

رحلة، سفر، مال …

فتذكرت موعداً قد فاتها منذ لحظات، فطلبت فنجانا أخر من القهوة، وجلست تتلذذ بالطعم المر الشهى، وهى تعد نفسها بلقاء آخر فى يوم ما مع الطيور المهاجرة.

***

صوت

قطعة كبيرة من الثلج أشعر بها فى صدرى، وأنا أستقبل كل يوم هواء النيل البارد، بداية من محطة العجوزة، مرورا بالزمالك، وأنتهاء بأبى العلاء ببولاق.

وبرغم كل هذا البرد فى الشتاء.

 كنتُ دائماً أشتاق إلى صوتك، والسير طويلا فى هذا الجو الشتوى المنعش كل صباح.

فكنتُ أترك السيارة، وأنزل هابطة على قدمى، وأسير بخطوات بطيئة هادئة، وأنا أنظر نحو النهر الممتد أمامى. يسير متبخترا منذ ألاف السنين، وفى أحيان كثيرة كنتُ أجلس على شاطئة، أحدثه، أو أقف أعلى الكوبرى، وأشكو له ضعفى وقلة حيلتى من تدابير الدنيا ومؤمرات البشر، وكم من مرة بكيت بحرقة أمامه فى صمت.

ربما ولأول مرة فى حياتى، فى شهر يناير من هذا العام تحديداً، أجلس على شاطئة فى الليل هادئة، اسمع وشوشات أمواجه، وهى تسرُ لى بسرٍ جديد، وتحكى لى على مهل ذكرايات كثيرة، وتذكرنى بدموع جدتى إيزيس.

ليلتها جلستُ ما يقرب من الساعتين فى البرد، وأنا أنصتُ باهتمام إلى الصوت الداخلى، وإلى وشوشات الأمواج البطيئة.

ثم تحدثتُ ببطء شديد مع نفسى(إلهى لقد تركت كل شىء ورائى، فأعنى على فقدها) وأنا أبحث بدأب عن صوتى الخاص، تعثرت به وهو خارجاً سعيداً من داخلى.

****

زاوية

كانتْ فى الفندق دائما تختار الزاوية المطلعة على البحر.

وتجلس فيها بمفردها، تتأمل صمت البحر وصخبة، ووشوشة الأمواج لبعضها البعض، بأسرار كثيرة، أى كان المكان الذى هي فيه، وإذا لم تجد بحراً، كانت تنظر إلى السماء بعمق وشغف، وكأنها تحدثها، أعتادت على هذه الأفعال منذ كانت صغيرة، تجلس طوال الليل تنظر نحو السقف العالى فى بيت جدها القديم، وتتمنى أمنيات كبيرة، تتمنى أن تطير، أو تصبح فراشة مبهجة الألوان، أو طاوساً جميلاً، وعندما كانتْ لا تتحقق أحلامها ورغباتها بمرور الوقت، كانتْ تحزن، وتذبل وتصير مثل ورقة جافة تذروها الرياح، وتمنتْ فى يوم بعيد، أن تكون نجمة مضيئة فى السماء.

وفى يوم، جاءتْ نجمة كبيرة وخطفتها، ووضعتها بين النجيمات الصغيرة المتلألئة، وأصبحت بينهن تضىء، هناك فى الأفق البعيد.

 وقد كان ماتمنت بالضبط، لأنها كانتْ تتحرك بثقة وإيمان نحو حلمها الذى لا ينطفىء.

***

سفر

تتحرك خلفى مثل أوزة سمينة هبطت توا من فوق الرصيف.

أخاف من ظلها الذى يتحرك خلفى فى ضبابية الفجر.

كان الندى مازال ناعساً فى غيمته فوق الأشجار، لم تسقط قطراته الندية بعد؟

تُرى ما الذى جعلنى أخشى الوشوشات الضعيفة التى تسير خلفى، وأنا قابضة علي يدها بكل قوتى.

كان صوت صراخها الحاد الصادر منها عن الأحتكاك بالأسفلت يطربنى، ويبعث بداخلى نغماً لا أحسه، إلا فى لحظات السفر معها، والذى يأتى على فترات بعيدة.

صوتها يشبه، صوت أنين طفل صغير، وأمه تجرجره خلفها فى متعة واستمتاع.

إنها اللحظات المدهشة من المحبة والأزعاج، إنها لحظات السفر الممتعة، وأنا أجرجر (شنطتى) حبيبتى خلفى فى ضبابية الفجر، إنها طفلتى الصغيرة المدللة، وأسعد بصوت أحتكاك عجلاتها بالأسفلت فى الصباح الباكر دائماً.

***

ألق

أطلقتْ لعنانها حرية الحركة، فخرجتْ كل الجنيات الخبيئة من مخدعها.

كيف لامرأة كهذه أن تكون على هذا القدر من الجمال والروعة؟

 ياليتَ عمرى يطول حتى أراها محلقة فوق السحاب، وقد تصل إلى السموات العلا، حيث الملائكة السجد الركع، وحاملى العرش.

ياأبنة هذا الزمن.

كيف لكِ أن تعبرين عن هذا الألق الخاص بكِ؟ وتتوسمين الشجاعة والقوة، وكل الخيوط الضعيفة تصنع شباكاً لمحو رقم هاتفك الخاص.

وأنتِ لا تستسلمين، ولكن ربما تتقطع بعض الخيوط الثابتة فى منعطف الطريق.

***

قلعة

وقفتْ ترنو بعينيها بعيداً إلى الجبل القابع هناك منذ ألاف السنين. يتحدى بصمته كل الغزوات والفتوحات، والهزائم والأنتصارات، ويطعن بصمته الأحبة العاشقين فى لهفة المنتصر بعد فراق.

سحابة سوداء تكلل كل الأفق.

ينظر الجبل نحو الكتل الصخرية الشامخة على هيئة قبور وعروش وتيجان.

يجف النيل لسبع سنوات عجاف.

فكيف بربك كانت تجود الأرض بسخائها ونحن عزل؟

وتبنى الأهرامات، والمعابد والمسلات العالية.

كنتُ طفلة ألهو خارج القطيع، أتأمل ضوء القمر الزاهر فى ليلة النصف من شعبان، حيث جاء شيخاً عجوزاً وأقام فى حينا.

 فهدمت كل الصروح، وسكنت كل الأرواح الخاشعة، داخل جلباب فضفاض، وخمار أسود كبير.

****

غربة

لأول مرة أراها بهذا الشكل الذى كانت عليه!

لحوحة، تريد أن تأخذ كل شىء كاملاً وفى عجالة.. وعندما تحصل على ماتريد تختفى تماماً لبضعة أيام.

وفى هذه المرة غابت كثيراً، بعد أن أخذتْ قلب عاشق، وروح مقاتل، ودموع خليل، أنصرفتْ وهى تلوح بيديها الصغيرتين المكتنزتين، وأصابعها القصيرة للجمهور الغفير الذى جاء فى الليلة الختامية لمشاهدة العرض.

وقفتْ على خشبة المسرح الكبير، وألتقطتْ الميكرفون من يد مذيع الحفل، وقالت : أحبائى إننى سوف أغادركم لوقت طويل هذه المرة، وربما لا أعود ثانية، حسب الظروف والأحوال، والملابسات الكبيرة.

وأنطلقتْ فى حرية تعدو سريعاً، بخطوات رشيقة، وروح شفافة. لقد تركت وراءها كل شىء، خشبة المسرح، أدوات المكياج، الصبية الصغار، الأرواح الهائمة. أخذت تعدو، وتعدو، فرحة بإنفلاتها، إلى أن خرج قلبها الضعيف، ووقف على الرصيف فى ليل القاهرة، منتظراً سيارة تقله إلى حيث مسواه الأخير.

**********************

طائر

طائر أبيض جاء وحط على الشرفة.

كنتُ لا أعرفه!

ولكنه كان يعرفنى.

وضعتُ له بعض فتات الخبز. فأكل حتى الشبع.

ثم أرتوى من دموع عينى المنهمرتين.

 *****

شتاء يناير

إهداء إلى / صديقتى الكاتبة إبتهال سالم

“هناك من يحبك فى صمت دون أن تدرين”

رزاز خفيف يتطاير فوق رأسى فى السادسة صباحاَ، الجو مشبع ببخار الماء، والضباب الكثيف يحجب الرؤية، فلا تبين الأشياء إلا عند أقتراب الناس الذين يسيرون فرادا، فى هذا الصباح الشتوى الجديد.

أو أحيانا كثيرة أشعر، كأننى أسير بمفردى فى هذا الجو مبكرا.

الجو يشبه زجاجة الكوكولا المشبرة، ضحكت فى داخلى وأنا أضع يدى داخل جيب المعطف الأخضر الثقيل، ولكن نغزات خفيفة ومتتالية، تخترق وتدخل إلى عظامى فى هذا الصباح الباكر.

بالأمس بلغ عمرى الخامسة والخمسين!

ضحكت ورددت بينى وبين نفسسى(عام جديد) أضيف إلى عمرك ياوزة،  كم مرة جاء، وكم عام مضى؟

دائما ما أحدث نفسى كثيرا، وأحيانا أهننها وأهدهدها مثل طفل صغير عصى. بالأمس فى الثامنة ونصف مساءً، خرجتُ من مبنى التليفزيون العتيق بماسبيرو. كان الجو دافئا لا أعرفُ لماذا؟

هل بسبب الحفاوة البالغة التى يستقبلنى بها العاملين منذ دخولى المبنى، بداية من موظف الأمن وأنتهاء بالمذيعة والمخرج ومهندس الصوت .

للمرة الثانية، أحضر إلى المبنى وأكون ضيفة على الهواء مباشرة، وعبر الأثير أهدى بسماتى وأمنياتى للسادة المستمعين.

أنا أجهل تماما من يسمعنى.

ربما يكونون قلة، وربما يكونون كثر ..! وربما لا يكون هناك أحدا بالمرة، ولكن هناك دائما هاجس خفى يزن فى أذنى ويقول لى بفرح شيطانى : من يسمع إذاعة ثقافية فى هذا الجو البارد، أنك حالمة؟

أضحك فى سرى، وأغلق باب الشيطان سريعا، لأننى إذا سمحت له أن يعضعض فى أذنى ويتحث طويلا، فلن أفعل شيئاً . أغادر مبنى التليفزيون فى أطمئنان العاشق الواثق الذى بذل كل ما فى وسعه كى يحتفظ بمعشوقته، ولكنها دائما لا ترضى عنه.

هكذا أنا!

أتعامل مع نفسى على أنها المعشوقة المتمردة، وأنا العاشقُ المتيم الذى دائما يحاول أسترضائها بكل السبل مهما تكلف من متاعب ومشقة.

ودائما ما أردد مقطع صلاح جاهين ..

(أيه يانفسى تطلبى فوق كل ده .. حظك بيضحك وأنت متنكده)

النفسُ أمارة بالسوء.

نعم.

ولكن نفسى مختلفة تماماً، فهى عشيقة، تدربتُ على عشقها منذ سنوات طويلة، هى لا تحرضنى على فعل السوء أو الشر، بل على العكس تماماً، هى ذات إنسانية لأبعد الحدود وتحثنى على الفضيلة، كأنها واعظ تقى فى مسجد أو دير، ولكنها لا ترضى بالقليل من العمل، والعطاء والمحبة، ومهما فعلتُ، لا ترضى أبدا عن مستوى الأداء، أو تشكرنى على جهد الوصول، ولكن دائما تلومنى، وتشدنى من أذنى، بأن هناك الكثير، والكثير، ولم أفعله بعد .

فأبدأ من جديد، وكأننى فى حالة لهاث مستمر، أفعل.

أفعل.

أفعل.

كأن هناك شخص ما قوى، يمسك بيده سوطاً طويلا، ودائما يلهب ظهرى به، ولذا دائما ظهرى يؤلمنى بقوة وعنف، لدرجة البكاء .

أحدثها : ياحبيبتى كفى، لقد تيبست أطرافك، وثقل قلبك، وقل جهدك.

مهما حدثتها لا ترضى، بل تغضب وتتركنى وتذهب بعيدا عنى شاردة فى أشياء مبعثرة، وأخرى مهملة فى صندوق ذاكرتى البعيد، تدعبث فيه بذاكرتها وأطرافها عن أشياء قديمة وجميلة وصعيبة قد فعلتها من قبل، ثم تخرج علىً ضاحكة وهى تقول لى سعيدة : شفتى، ياما فعلنا وعملنا وتعبنا..وبنقع، وبنقوم، ونكمل من جديد.

أصمتُ، وأسير وراءها بكل طيبة وود مثل كلب يلهث من الحر، وهي تربتْ على ظهرى. أحيانا قليلة، أشعر كأنها أمى الرؤوم!

 هذه هى نفسى.

فى الأحد الماضى أتممت الخامسة والخمسين، واحتفلت بى المذيعة المتألقة على الهواء مباشرة، مع السادة المستمعين بعيد ميلادى على الهواء. واسعدنى الحظ، وسمعتُ صوت صديقة لى، كنتُ أفتقدها من الزمن الجميل، ولم أراها منذ سنوات طويلة، وأرسلت لى تهنئة رقيقة عبر الأثير.

هل سمعتْ الإذاعة مصادفة صديقتى ؟ أم أن الأرواح الطيبة تتلاقى، فنادت روحى روحها فحضرت، كان يوما جميلا.

قضيته مع المستمعين، نتحدث عن أحتفال المصريين برأس السنة.

المصريون شعب محب للحياة، ويعشق الفن والغناء، إنه شعب صاحب حضارة عريقة ونادرة ، ولكن كما قال أستاذى جلال أمين(ماذا حدث للمصريين؟)

حدث للمصريين مثلما يحدث مع أى شعب يترك هويته الحقيقية، ويرتدى عباءة غيرعبائته، لقد أحتار المؤرخون فى هوية مصر.

هل هى عربية؟ أم قبطية؟ فرعونية؟أم شرق أوسطية؟ أم بحر أبيض متوسط؟

هل هى زراعية؟ أم صحراوية؟

لقد أحتاروا جغرافيا، ومناخيا وتاريخيا وثقافيا، إنها كل هذا وأكثر، كوكتيل نادر الوجود.

وأحبها بكل تناقضاتها، وطيبتها، وضجيجها، وأرضها السمراء، والصفراء،  والحمراء. عشقها (جمال حمدان) فكتب عنها، وعشقها (سيد عويس) فهام فى حبها، وعشقتها (أنا) مثل كل العاشقين السابقين وأكثر.

من يأخذ لا يعطى، ومن يعطى لا ينظر إلى ماذا أخذ؟

مصرُتعطى الكثير، مثل الأم الرؤم، ولا تطالب إلا بالحب، إنها معشوقتى المدللة، هى أمى، وابنتى، واختى، هى كل شىء بالنسبة لى.

هى كما قال صلاح جاهين(على اسم مصر يقول التاريخ ماشاء، أنا مصرعندى أحب وأجمل الأشياء).

     الآن الساعة الثامنة ونصف مساء.

 أسير فى هذا الشتاء البارد بمفردى. اليوم هو الثالث من شهر يناير، والعشرون من شهر (كهيك) أحد الشهورالقبطية الباردة، أيام قليلة ويأتى شهر طوبة، البرد القارص، والماء العذب. كانت جدتى رحمها الله تطوب ملابسها فى هذا الشهر، وتستحم من ماء الزير حتى تعيش عمرا أطول وبصحة جيدة.

وكانت أحيانا تضحك عندما تمر طوبة بسلام دون أن تمطر وتردد جملتها الأثيرة من خلف دراديرها : روحى ياطوبة، ياللى مبلاتى ولاعرقوبة.

جدتى مثل الفلاحات المصريات القديمات، تحب المطر، وتحب أن يسقط، لأنه من وجهة نظرها يمثل الخير، يروى الأرض، ويسقى الزرع، ويفيض النيل، ويدفىء الجو، وفى اليوم الثانى عشر من شهر طوبة(يوم الغطاس) كانت تطهو لنا القلقاس، فنأكله على مضض وهى تضحك بشدة وحنو(غطست يانصرانى صيفت يامسلم بعد أربعينين) فنعرف بعدها أن الصيف قادم وأن البرد إلى زوال.

وهى تجلس على المصلى الكبيرة فى الحجرة الداخلية، تقول لأمى : بعد شهر طوبة، يأتى شهر أمشير، فتزم شفتيها وتخفى ضحكتها الخبيثة وتقول : (أمشير أبو الزعابير) تقضم جدتى رأس البصلة بدراديرها وتهمس : أمشير يعفر يعفر ومهما يزعبب فيه روايح من روايح الصيف.

فتضحك أمى فى صمت.

     نحن الصغار كنا نحب الشتاء ليلا، حيث نجتمع جميعا فى حجرة جدتى الداخلية البعيدة الدافئة، فهى تقع فى مكان قصى، وبعيدة عن يد البرد لا يطولها، بيده الطويلة التى تقرص الأطفال بشدة فى بطونهم الصغيرة. وتخرج لنا أمى الملابس الصوفية الثقيلة، وتصنع لنا المشروبات الساخنة اللذيذة مثل (الحلبة والسحلب والقرفة باللبن).

كنتُ أحب السحلب، وأخى يحب الحلبة، وأمى تفضل كوب القرفة، وأبى يفضل الجنزبيل. وتصنع أمى كوكتيل المشروبات، وتضعه أمامنا، وكل منا يختار مايحبه فى صمت، وبهمس تدور الأحاديث الشيقة، عن القرية، وجنية الساقية، وأم الشعور، والحكايات تدور مع الأكواب الدافئة، والضيوف والحجرة البعيدة.

وفصل الشتاء البارد / الدافىء بالحب واللمة والصحبة والأصدقاء، وأبى الذى كنا لا نراه إلا نادرا، كان يأتى فى فصل الشتاء مبكرا، ويجلس معنا فى حجرة الجدة البعيدة.

وتبدأ الحكايات القديمة، ونصطادها نحن الصغار، وننام نلهو فى أحلامنا مع الفراشات والقمر والنجوم العالية فى حكايات الجدة عن (ست الحسن والجمال والشاطر حسن) والماضى البعيد البعيد، وذكرياتها وهى تحكى لنا عن ثورة 1919 وهى طفلة صغيرة تسمع الحكايات من أبيها عن هوجة عرابى فى 1881 والتى حدثت قبل ميلادها، وعن جدها الكبير الذى أخذته السلطة فى حفر قناة السويس، ثم هرب، ولا يعرفون مكانه إلى الآن.

هى تحكى، ونحن نسمع، ونخزن فى ذاكراتنا الصغيرة، فتتسع، وتتسع، وتكبر مع الحكايات، ونطير مثل العصافير محلقين، نرفرف على أغصان الحكايات القديمة.

وكان ياما كان ياسعد ياأكرام، ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى، علية الصلاة والسلام، بنت جميلة اسمها ست الحسن والجمال .. وتبدأ الحكاية وتنتهى، ويكون الجميع نيام وفى حالة ثبات. وأظل أنا الوحيدة أنتظرالشاطرحسن على حصانه الأبيض، كى ينقذ ست الحسن الجمال من بيت أمنا الغولة.

فى هذا الوقت تحديدا من الليل فى ينايرلا يعرفنى أحد.

ولا أحد فى أنتظارى. تعبت من السير طويلا، فقررت دخول المقهى والجلوس قليلا.

فقط أنا أقتل الوقت داخل المقهى، وأنظر إلى المارة بعينين شاخصتين جاحظتين غير محددة الهدف.

الصمت يلف المكان، وأنا وحدى أدندن مقاطع من أغانى مختلفة ومرتجلة، وتأتى ذاكرتى الممتلئة ببعض الأشعار المتناثرة والمتداخلة القديم منها والحديث.

     وكان وجودى فى هذا المكان صدفة، دلفت إلى المقهى كى أحتمى من قطرات المطر المتاسقطة بشدة فوق رأسى.

اليوم علىً أن أنجز بعض الأعمال المهمة نهارا، وفى الليل علىً أن أقرأ الصفحات الأخيرة من كتاب(الحالة دايت) لصديقى المبدع سيد الوكيل.

فى البيت توجد بعض الأطعمة الجافة، وقليلا من الشاى والسكر، فى الفترة الأخيرة ذهدت فى كل شىء، الأكل، والملبس، والمشروبات، حتى الشاى الذى كنت أعشقه، زهدته.

الفوضى أمامى وحولى فى كل مكان، بعض من المارة جاءوا إلى المقهى للأحتماء من المطر

الجرسون النحيل وضع أمامى كوبا من الشاى وزجاجة مياة غازية.

شكرته بهزة من رأسى، فأنصرف فى أدب وتواضع. سألته عن اسم أحد العاملين فى المقهى، رد على بجفاء قائلا : ياه لسه فاكره، ترك المقهى من زمن.

 مازالت عيناى حائرة بين المقهى والشارع والعابرين القلائل فى هذا الجو المشبع برزاز المطرفى شهر يناير، ورائحة أوراق الشجر التى حولى لها رائحة العطن والأتربة المبللة، تركتُ المقهى الطارد لى بسرعة، وخرجتُ إلى الشارع، وظللتُ أسير بمفردى فى هذا الجو، حتى تعبتْ قدماى من السير طويلا.

أين يقع هذا المكان بالضبط، لا أعرف.

ولكننى وجدتنى مدفوعة تجاهه دون سابق معرفة، مكان منعزل وهادىء، ورغم صغر مساحته إلا أنه مكانا نظيفا وجميلا، والشاب الذى يقف أمام النصبة فى آخرالمقهى، يبدو أنيقا ونظيفا. جلستُ أنتظر قليلا، حتى جاء الجرسون، وطلبت كوبا من الشاى. حتى الجرسون الذى وضع كوب الشاى أمامى منذ دقائق، تبدو على ملامحه بعض الطيبة، ربما يكون من أبناء الطبقة المتوسطة المنهارة المكافحة من أجل البقاء.

رن الهاتف الذى فى الحقيبة المعلقة إلى جوارى على يد المقعد، فتحتها وأخرجته، كان رقم غير معلوم بالنسبة لى، وعندما أخرجت الهاتف من الحقيبة كان قد توقف الرنين، فنظرت إليه ووضعته على المنضدة أمامى، وأخذت أنظر إلى المارة المتناثرين هنا وهناك.

مازلت أبحث فى ذاكرتى عن اسم المكان الذى أجلس فيه الآن، والذى قادتنى الصدفة إلى التواجد فيه، لا فائدة.

الجاكت الصوف الذى أرتديه الآن، أكتشفت أنه خفيف جدا بالنسبة لحالة الجو فى هذا الوقت، أو فى هذا الشتاء البارد تحديدا.

آلام حادة!           

 نعم.

أعانى من آلام حادة، ومتعددة ومنتشرة فى مناطق كثيرة من جسدى.

جسدى الذى تحمل مشقات السفر والترحال والأحمال الثقيلة، وأكياس الرمل، وقدماى متعبتان الآن من حمله، ولهذا دائما ما أبحث عن أى مقهى قريب، وأجلس عليه لبعض الوقت كى أستريح، ثم أواصل السيرمن جديد.

أصبحتُ أدمن المقاهى المنعزلة، والمنتشرة على الأرصفة.

أجلس فى مكان منزوى وبعيدا، أراقب الناس والمارة بشغف، أفعل مثلما فعل (باربوس) فى روايته(الجحيم). أنظرعلى الناس من خلال ثقب صغير فى الحائط مثله، ولذا أسميته ثقب باربوس، أتابع الناس وحركاتهم أمام عينى، وأصبح الصمت يلازمنى كثيرا.

فقدت العام الماضى، ومنذ شهور تحديدا، أعز صديقة لدى، كانت هى بمثابة(الخل الوفى) فقدتها فقدا سريعا، لدرجة أننى إلى الآن لا أصدق ماحدث.

كيف حدث هذا ياحبيبتى فى غفلة منى؟

أخذنى غيابك على غفلة، وفجأة إلى هوة عميقة، وجدت نفسى هكذا بمفردى وحيدة، أسقى فى شقاء دائم ومتصل بعض الزهرات الذابلات من تاريخ صداقتنا الطويل والممتد منذ ثلاثين عاما أو أكثر.

شقاء دائم ومتصل!

كانت رفيقة عمر طويل وممتد منذ رأيتها أول مرة فى عام 1987 بصحبة الشاعر(مجدى الجابرى) بشبرا الخيمة، وصرنا بعدها صديقتين حميميتين مهما أفترقنا، نفترق ونلتقى، على فترات قريبة أو بعيدة حتى وفاتها.

تركتنى أكمل الرحلة بمفردى، وحرمت على قلبى المتعب دخول صديقة جديدة عليه، مهما حاولت الأخريات.

أخذتْ مفتاح قلبى ورحلت بعيدا.

كانت تفهمنى دون حديث، وتواسينى دون كلل. هل أنا خائنة لصداقتنا؟ وضعيفة إلى حد الهزال، كى أتركها بمفردها هكذا، ترحل فى صمت ودون وداع؟

قلبى الحزين المتعب يلومنى كثيرا، وكأننى أنا المذنبة أمام نفسى، لماذا تركتها فى آخر مرة على الرصيف المواجهة للجامعة الأمريكية بميدان التحرير ليلة الأحتفال بأفتتاح قناة السويس الجديدة فى أغسطس 2015؟

يومها كنا فى أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب، بشارع الأنتيكخانة بوسط البلد.

وسرنا معا من ميدان طلعت حرب حتى ميدان التحرير، ونحن نغنى ونضحك فى عظمة وشموخ، ونحن فارحات بليلة جميلة من ليالى شهر أغسطس الحار، ونحلم معا بأيام جميلة قادمة بعد ثورتين كبيرتين كما قيل، وبعد حكم الأخوان  لمصرلمدة عام واحد فقط .

كانت تسير معنا صديقة مشتركة، كنا ثلاثة سيدات ضاحكات، فارحات، مازحات، نرفع أصابعنا بعلامة النصر، والتقطنا أخر صورة لنا معا، هل حقا كانت أخر صورة؟

أنا وهى والصديقة.

وقفنا نلتقط صورة تذكارية فى ميدان التحرير، المزين بالأعلام واللافتات، أستعدادا للحفل البهيج غدا.

قالت لنا بضحكاتها المعتادة المبتهجة : إيه رأيكم يابنات، ننزل تانى بكرة ميدان التحرير ونحتفل معا بقناة السويس الجديدة.

ضحكت أنا وأعتذرت لها بأننى لن استطيع الحضور.

وقالت الأخرى : وأنا كذلك.

أما هى فقالت بإصرار عنيد : أنا سوف أأتى، وأحتفل مع الناس الفرحين بالنصر، وبهذا الحدث السعيد.

وقفنا كثيرا على الرصيف نلتقط الصور التذكارية، كنا نضحك، نضحك، حتى أغرورقت عيوننا من كثرة الضحك، وامتلأت بالدموع.

وأصابنى صداع نصفى فجأة من شدة الحر والتعب، فاعتذرت لهما ونزلنا السلم سويا تجاة محطة مترو الأنفاق.

وأفترقنا كل مننا فى طريقها إلى البيت.

ولأول مرة، ومنذ مايقرب من ثلاثين عاما تقريبا تكون معى ونفترق كل منا فى طريق مختلف، عكس ما أعتدنا عليه دائما، أن تذهب معى إلى البيت ونقضى عدة أيام معا.

كنت أنا وهى وعلى مدى سنوات طويلة، وخاصة فى الفترة الأخيرة، وبعد وفاة زوجى تحديدا منذ عام 1999، كانت لا تتركنى بمفردى طويلا، خاصة عندما نكون فى وسط البلد، أو فى سهرة من سهراتنا فى الأتيليه أو فى ندوات، نظل معا، ونسقط على الجريون، نحتسى زجاجتين من البيرة المثلجة، وهى تدخن، وتطرد الألم والحزن من داخلها مع دخان السجائر، وأنا أضحك بشدة، وأحيانا كثيرة كانت تطلب شيشة تفاح، نسهر ونحكى ونضحك ونتألم ونصمت، وأحيانا تنزل بعض الدمعات الرقيقة غاسلة كل الهموم، وتعود معى إلى البيت نكمل السهرة وحوارتنا الطويلة عن الأدب والثقافة، كانت تسمعنى أحدث كتاباتها، وأنا اقرأ لها آخر أعمالى الأدبية، ونسمع أغانى فيروز والشيخ سيد درويش ومرسال خليفة والشيخ إمام، ونضحك، نضحك، ونحن نأكل سويا الطعام الذى أحضرناه من السوبر ماركت قبل صعودنا.

ودائما فى آخر الليل، كانت تضحك فى حزن وهى تربت على ظهرى بيديها الصغيرتين وأصابعها المكتنزة قليلا : دايمن عامر بحسك ياوزة.

أضحك وأنا أمد يدى لها بكوب الشاى الساخن : تسلمى ياحبيبتى، ربنا مايحرمنى منك.

تقبل رأسى فى حنو أم وهى تملس على شعرى الأسود الناعم : ياسلام ياوزة، أنا مابحسش بالراحة دى غير فى بيتك ده.

أضحك ثانية بفرح طفولى وسعادة بالغة، وأنا أفتح كتاب الأعمال الكاملة لسعدى يوسف واقرأ لها بعض المقاطع التى أحبها واعشقها من قصيدته الجميلة(الأخضر بن يوسف يكتب قصيدته الأخيرة)

(مقطع وراء مقطع من سعدى يوسف)

تقوم من مكانها منتفضة وسعيدة وهى تصفق بيديها مثل طفل فرح، وفى بهاء لا يقاوم تدخل إلى المطبخ، تصنع لنا كوبين من الشاى جديدين.

وتأتى حاملة الصينية بين يديها مثل مراهقة وهى تهلل : تعرفى ياصفصف  أنا بعشق بتكم ده، بحس فيه براحتى، كأنه بيتى.

أضحك وانا أبحث فى المكتبة عن كتاب جديد أكون قد أشتريته حديثا حتى أريه لها : ماهو بيتك ياقلبى، تحبى أعمل لك نسخة من المفتاح.

تضع صينية الشاى على المكتب، ثم تخرج علبة سجائرها الكليوباترا من شنطتها، وتشعل سيجارة، وتدخن فى صمت وحبور، ثم تصرخ فىً هاتفة : أيه رأيك ياوزة، عايزة اسمع مقطع من رواية(فى الليل لما خلى) أنا بعشق الرواية دى، فيها مساحة صدق عالى، وصفاء نفس، بحس أنها حتة منك بجد ياصفصف.

أمد يدى أخرج الرواية من بين الكتب المرصوصة فى المكتبة بعناية بالغة، وأجلس أمام المكتب، أنا اقرأ، وهى تسمع فى صمت، وتدخن بشراهة، وتشرب الشاى فى استمتاع وتلذذ.

(مقطع وراء مقطع من رواية فى الليل لما خلى)

بعد أن أنتهى من القراءة، وتنتهى هى من شرب الشاى، وإشعال مايقرب من الخمس أو الست سجائر، تصمت فى استرخاء غريب، ثم تذهب فى النوم، وتغط فيه بعمق وهى جالسة مكانها على الكنبة أمامى فى حجرة المكتب.

ألاحظ أنا ذلك، أخرج من الحجرة على أطراف أصابعى، وأتركها تنام، وتستمتع بأحلامها. تكون الساعة قد تجاوزت الثالثة أو الرابعة فجراً، أدخل حجرتى، وأضع رأسى على المخدة، وأذهب فى النوم، فى ثبات عميق،أحلم أننى طفلة صغيرة بضفيرتين معقوصتين خلف رأسى، وجدتى تحكى لى حكاية من حكاياتها الجميلة، وأنا أنصت فى اهتمام شديد، ثم أرى كل الراحلين دفعة واحدة.

جدتى وأمى وزوجى، وشخصيات أخرى بعيدة، رحلت منذ زمن سحيق، ربما أكون قد رأيتهم وأنا طفلة، وربما أكون قد سمعت عنهم من حكايات الجدة ولم أراهم من قبل، ولكننى كونت عنهم فى مخيلتى صورة صادقة ومقربة لهم، وأحيانا أذهب فى أحلامى إلى أماكن عديدة ومختلفة واستحالة أن أكون قد ذهبت إليها من قبل، أصعد جبال، وأهبط وديان، وأغوص حتى أذنى فى بحر عميق، واستيقظ مفزوعة وأنا على حافة الغرق. وهم مازالوا  يضحكون، يضحكون بشدة، ويذهبون بعيدا عنى.

أجلس مكانى صامتة، أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أنظر إلى الساعة فى الموبايل أجدها قد تجاوزت الثانية عشر ظهرا.

أقوم من مكانى، وأخرج من حجرتى، أجدها قد استيقظت، وتجلس بمفردها تشاهد نشرة الأخبار، تنظر نحوى وهى تضحك : أنا صحيت من بدرى، وخفت تقلقى، ووطيت صوت التليفزيون.

أدخل الحمام، أغسل وجهى، ثم أتجه نحو المطبخ، أصنع كوبين من الشاى، وأأتى إلى جوارها نجلس سويا ونشاهد نشرة الأخبار، ونتبادل التعليقات على الأحداث الجارية.

     طوال أيام الثورة فى 25 يناير 2011، وفى 30 يونيه، وطوال فترة حكم الأخوان لمصر  والذى لم يدم طويلا أكثر من عام واحد فقط، ونحن نادرا ما نفترق سواء فى البيت أو فى الشارع، أو فى ميدان التحرير، وكم من مرات تفرقنا وسط الزحام، ثم نعود فنلتقى.

كان الزحام يبتلعنا مثل الدوامة، هى تجد نفسها فى ميدان التحرير قرب مجمع التحرير وشارع القصر العينى، وأنا أجد نفسى فجأة فى ميدان عابدين، وسط جموع هادرة ومختلفة، ولا أعرفهم، يستبد بى الخوف والفزع، وأخاف، أخاف مثل طفل صغير فقد أمه، وضاع منها وسط الزحام، أجرى، أجرى، وأهرول، أريد أن أصرخ، لكن صوتى يذهب بعيدا عنى، وسط الحشود الهاتفة.

من شدة الخوف….

أبلع ريقى الجاف، يخرج صوتى مشروخا، كأن طفلا ابتعدت عنه أمه وتاهت وسط الزحام، أفتح الموبايل، أهاتفها، لا تسمع صوتي من وسط صراخ الجماهير.

ولكن فى لحظة أجد من ينادى علىً من الأصدقاء، وكأن العناية الألهية فى هذه اللحظة أرسلته لنجدتى، ولكى يكون إلى جوارى أنا الحزينة المتعبة التى لا تكترث كثيرا بالموت، ولكن مازال الله يرعاها، ويحنو عليها فيرسل لها ملائكته من البشر فى أخر لحظة وقبل السقوط تحت أقدام الجموع الهادرة.

أنا نعجة ضالة ياالله، فخذ بيدى.

إنه الفزع الرهيب، رأيته بأم عينيى مرتين أو أكثر أثناء أندلاع الثورة، المرة الأولى كنت بالقرب من شارع محمد محمود، أنخلع قلبى يومها وغاب عنى وسقط تحت قدمى، والمرة الثانية كنت بالقرب من مبنى التليفزيون أثناء أندلاع أحداث ماسبيرو، كانت صديقتى مريضة ومحجوزة بمستشفى معهد ناصر لأجراء عملية المرارة لها، وخرجت بعد زيارتها، ورأيت ما رأيت، كان يوما تشيب له الولدان، النار فى كل مكان، والصراخ، وطلقات الرصاص، كنت بالقرب من مبنى التليفزيون فى بولاق أبو العلا، أقف على الرصيف المواجه أتابع الأحداث بعينين جاحظتين وخوف لا ينتهى، وكأن الله أرسلنى كى أرى، وأكون شاهدة على مايحدث، هرج، ناس تصرخ، وناس تهرول، وطلقات مدوية، ونيران مشتعلة.

يالله .. كيف نجت عبدتك الفقيرة الطيبة فى المرتين؟

رغم أننى كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت، وخفت أن أحدث البنتين أو أبى أو أخوتى عن ذلك، حتى لا تزداد مخاوفهم علىً.

لقد رأيت الموت.

لا أحد يصدق.

لأننى لا أتاجر بالأحداث والمواقف، ولا أدعى البطولة، ولا أربى عداوة مجانية، ولا أضمر الشر لأحد.

أنا الأستاذة مديرة المدرسة التى تقع فى شارع 26 يوليو والمجاورة لمبنى وزارة الخارجية، ورأت الأحداث منذ بدايتها فى أول يوم لها، يوم 25 يناير 2011 يوم عيد الشرطة.

فى يوم 27 يناير الخميس واليوم الثالث لأندلاع الثورة، سألنى بعض الزملاء سؤالا عابرا : تفتكرى ياميس الثورة هتستمر، وهتنجح؟

صمت قليلا مثل عرافة عجوز، ثم قلت لهم مثل خبيرعسكرى : لو استمرت ليوم واحد كمان، أعرفوا أن الثورة مستمرة، وهتنجح.

لا أعرف لماذا كنت على يقين بهذا القول؟

ولا أعرف أن الأمل كان يبث مشاعره الطيبة والقوية فى قلوب العاشقين الثوريين.

النبؤات.

من أين أتتنى الحكمة، وأنا السلحفاة العجوز والتى مرت بتجارب عديدة وكثيرة منذ طفولتها وإلى الان؟ إنها حكاياتك ياجدتى عن التاريخ والمواقف والأبطال الشجعان.

أذكر منها على سبيل المثال هزيمة 1967، وحرب الأستنزاف، وحرب أكتوبر 1973، وأحداث 17و 18 يناير1977وأتفاقية كامب ديفيد، وزيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات للقدس، وأتفاقية السلام …الخ ..الخ.

أحداث، وراءأحداث، وراء أحداث.

وكأن ذاكرة الطفلة الصغيرة والتى كانت تختبىء خلف جدتها من صوت المدافع والطائرات أثناء حرب الأستنزاف، وتبكى خائفة من صوت الرجال القوى فى الشارع : طفى النور طفى النور. وصوت سفارة الغارة،  ثم بعد ذلك سفارة الأمان.   

كانت تتسع لكل هذا وتخزنه فى مخزن بعيد وعميق من مخازن الذاكرة.

ولكن لماذا تفاءلت بإستمرار الثورة ونجاحها؟

ولماذا خفت فى المرتين السابقتين على نفسى أثناء أحداث موقعة الجمل الشهيرة فى 28 يناير 2011 (جمعة الغضب)؟

كنت فى البيت، أتابع مثل الكثيرين مايحدث عبر شاشة التلفاز، وأنا أجلس على كنبة الأنترية الصغيرة فى صباح يوم الجمعة، وأصرخ بصوت مرتفع : هتقتلوهم ياولاد الكلب، الشباب هيموت ياولاد الكلب.

من القاتل؟

ومن المقتول؟

كنت أرى الجمال تهرس الشباب فى الميدان، وكأننى أشاهد فيلما سينمائيا من أفلام الأبيض وأسود، فيلم عنترة بن شداد مثلا، أو فجر الإسلام.

أختلطت الصور، وتشوشت الرؤية، وأصابنى الدوارالشديد من كثرة البكاء والصراخ، وحزنت حزنا جما وعميقا من قلبى، ولا أعرف مصدره أو أتجاهه(لمن الملك اليوم؟).

هل قامت القيامة؟

ثم بعثت؟

سمعت كثيرا عن ساعة النحس فى يوم الجمعة.

ولكن لم أكن أخمن أننى سوف أراها هكذا متجسدة أمام عينىً بهذا الشكل الفظيع.

حتى عندما قرأت رواية ماركيز(فى ساعة نحس) كنت أدرك تماما وبشكل واعى ومنطقى، أننى أقرأ رواية.

رغم رداءة الترجمة.

ولكنها فى النهاية رواية من صنع خيال مؤلف.

حتى فى رواية(الجرينال فى متاهته) لنفس الكاتب، كنت أعرف بالوعى الكلى أنها عمل أدبى مهما أضفى عليه المؤلف من وقائع وحقائق تاريخية، رواية كتبها مبدع فرد، خلق أحداثها، ورسم شخصياتها بكل دقة.

ولكن أن أرى وأسمع وأشاهد مايحدث هكذا، هذا تجاوز للواقع بكل إبداعاته السابقة.

من يستطيع أن يكتب عن كل هذا وبدقة فى يوم من الأيام، لقد وقعنا فى الفخ، ومات شباب كثيرون..(الورد اللى فتح فى جناين مصر).

************* 

عام جديد

 مر عام آخر.

وأنا مازلت أعانى من حالة لخبطة مريرة، لم أمر بمثلها من قبل.

طوال حياتى وأنا أعانى من مواقف فلسفية بسيطة وعادية وعابرة، ولكن لماذا أصبحت الحقيقة غائبة الآن أمام عينىً؟

فأبحث عنها داخل الخيبات الصغيرة والمواقف الإنسانية المتعددة والتى مرت بحياتى وعشتها عبر خمسة وخمسين عاما مضت.

الحالات الأنسانية هى أكثر الأشياء حزنا وأصابة فى قلبى الطيب الحنون.

أتعاطف كثيرا مع كل ماهو إنسانى وعميق ويشدنى من أذنى حتى أظافرى وأعافر.

أعافر.

فى محاولات كثيرة فاشلة للخروج.

أعشق شهر يناير برغم البرد القارص، والذى يجعل عظامى تؤلمنى بقسوة.

منذ أيام وأنا أعانى من توتر شديد، وألم حاد فى العمود الفقرى، وخاصة الفقرات القطنية.

قال لى الطبيب وهويبتسم ببرود دمث : مرض المثقفين ياأستاذة.

والجلوس على المكتب لفترات طويلة.

وبدأت الذاكرة تنشط، وكل يدلو بدلوه فى الصراع الدائر بين الثورين من الشباب ورجالات الدولة والرئيس، وأرتفع سقف مطالب الثوار.

ونزل جميع الشعب المصرى بجميع طوائفة وإتجاهته وتياراته، وما كان يحسبه البعض(لعب عيال) أوطيش شباب، أصبح حقيقة واقعة، أصبح واقعا ملموسا أمام الجميع.

أنا مازلت إلى الآن فى المقهى، أحتسى كوب الشاى الساخن، ولا أنتظر أحد، والجو بارد، وقطرات المطر تسقط بغزارة وقوة، فى اليوم الأول من شهر يناير الجديد.

دلف إلى المقهى أناس عديدون، يحتمون من البرد والمطر.

فى النهاية جاءت امرأة عجوز تحمل طفلا رضيعا، وبيد مرتعشة تحمل بعض المناديل الورقية ، تمدها إلى رواد المقهى فى استجداء وعطف، نظرت نحوها، كان الطفل نائما على كتفها فى استرخاء شديد، وهى بيد مرتعشة تضع باكو المناديل أمامى على المنضدة، أمد يدى لها بمبلغا صغيرا من المال، تتركنى شاكرة وتنصرف، وأظل أتابع حركاتها داخل المقهى بعينين متعبتين

دقائق وتدخل أخرى بعدها، امرأة أكثر شبابا وقوة، تضع على المنضدة أمامى بعض حبات من الفول السودانى الطازجة، وتتركنى وتذهب إلى المناضد الأخرى المتناثرة هنا وهناك.

أرها تتحدث مع المرأة العجوز والتى تحمل طفلا رضيعا فى همس وغيظ، تخرج المرأة مسرعة وتترك المقهى، وتعود المرأة الشابة تجمع النقود من زبائن المقهى والذين بدأوا فى تقشير الفول السودانى ومضغة مع الشاى الساخن، وعندما حضرت إلى منضدتى، جمعت لها حبات الفول ووضعتها فى يدها، أنصرفت من أمامى صامتة، وخرجت من المقهى مسرعة.

جاء الجرسون، ورفع الكوب الفارغ من أمامى، وأعطيته زجاجة المياة المعدنية، وقلت له بصوت شديد اللهجة : من فضلك فنجان قهوة مضبوط، وكوباية مياة من الحنفية بعد أذنك.

سار من أمامى وهو يكظم غيظه بعض الشىء.

جلست فى أسترخاء المستمتع، أتابع حوارات الناس القليلين فى الشارع، وسقوط المطر المتوالى بشدة.

بعد دقائق جاء الجرسون ووضع أمامى فنجان القهوة، وكوب الماء كما طلبت منه بالضبط.

**********

صيف 99

    ثمة أشياء تثير مخاوفى الليلة، بعد أن غادرت معهد الأورام القابع هناك بلونه الباهت على ضفة النيل أمام المنيل، على الفرع الكبير من النيل، كانت العربات فى هذه الليلة تسير ببطء مملل يزحف إلى رأسى ويجبرها على الإنحناء والأنزواء أحيانا، فى هذه الليلة تحديدا، قررت أن أسير من معهد الأورام بنهاية شارع القصر العينى حتى منطقة أم المصريين بالجيزة، حيث ينتظرنى الجميع كى أطمأنهم على حالته، فى هذه الليلة تحديدا والتى أسير فيها بمفردى على كوبرى عباس وأنحرف يمينا تاركة ورائى معهد أبحاث العيون على اليمين وكازينو الحمام على اليسار بشارع البحر الأعظم، كنت أسير وسط الشارع فى الواحدة ليلا غير عابئة بأصوات السيارات ولا نداءات المارة : أنت ياست، يامدام.

أسير على مهل، كأننى مسحورة ومنسحقة، أريد أن أبكى، ولكن الدموع جفت، لقد بكيت طوال ثلاثة أشهر كاملة، أريد أن أصرخ، لقد كتمت الصوت بصدرى، وقررت أن أسير فى صمت، صمت يشبه الوجع، يشبه الضجيج، يشبه أنسحاق قط بأس تحت عجلات عربة كبيرة فسوته بالأرض تماما.

صمت يشبه صمت القبور، وصمت الملكوم فى عزيز لديه.

سرت وأنا مازلت أسمع صوته وكلماته تأتينى من بعيد.

ياالله .. كيف فجرت كل هذا الكلام الليلة؟

ياالله!

كيف لى أن أحتمل كل هذا العذاب، وأنا أسير بمفردى فى الواحدة ليلا وسط العالم الواسع.

كل هذا حكيته لها وهى تطبط على ظهرى بحنو الأم : طول عمرك بطلة.

منذ سبعة عشر عاما أو يزيد لم أمر من هذا المكان ولو صدفة، وإذا تصادف وكنت أستقل سيارة أجرة، ومر السائق من هنا، أشير له بيدى أن يسير من مكان آخر، ياأما أدفس رأسى فى المقعد الأمامى وأغمض عينى حتى يمر شكل المبنى من أمام عينيى. حتى لا تصطدم عيناى بذاك الشارع، وذاك الطريق، وذاك المبنى، وأعود محملة بالألم من جديد، وأتذكر تلك الأيام التى لم أنساها مهما مر من أعوام، ولكن فكرة المرور من أمام مبنى معهد الأورام ولو مرورا عابرا كانت تجعلنى فى حالة هياج عصبى شديد، وأريد أن أفرغ ما فى معدتى، وحتى لا أشعر بتعاظم هذا الألم كنت أبكى خلسة فى ليالى الشتاء الباردة أمامها.

بعد كل ليلة من ليالى الوحدة الطويلة، أغلق على نفسى الباب بالمزلاج جيدا، وأتأكد مئات المرات أننى أغلقت الباب جيدا، وأحيانا فى بعض الليالى فى منتصف الليل تقريبا، أقوم وسط الظلام أتعثر وأحسس بيدى المرتعشة النائمة أن المزلاج مازال مكانه، وأن الباب مازال موصدا بشكل جيد.

وفى أيام كثيرة كنت أتناول القليل من الطعام وخصوصا اللحم، لا أعرف لماذا بالضبط ذهدت فى الطعام.

اليوم كرهت كل مايمت للماضى بصلة.

بات قلبى يخفق بشدة كلما تذكرت تلك الأيام البعيدة. 

وأصحاب الأسنان البيضاء المغسولة بعناية يضحكون بصخب فى وجهى ولا تهزهم أى مشاعر حزينة، لا يحترمونها وهم يقهقهون فرحين متحلقين حول زجاجات البيرة الباردة.

لذا كرهت الضحكات.

كرهت أن أكون واحدة فى حظيرة هؤلاء السادة الضاحكون، المنفشون، المزهون. 

كيف فعلتها ياقلبى وصبرت كل هذا الصبر؟

كيف نهضت ونفضت التراب العالق بجسدك؟

كيف قاومت بسرعة؟

كيف أصبحت عنيدا / ضعيفا تبكى على بكاء أى طفل ضال فى الطريق تائها من أمه، فتأخذه من يده وتمسح له دمعاته الصغيرة، وتطمئن قلبه الصغير ببسمة حنونة، وتشترى له بعض الحلوى كى يصمت، ثم تواصل البحث عن أمه التى يفتقدها بشدة.

    وأنا طفلة صغيرة ظل هذا المشهد عالقا برأسى ولا أنساه  أبدا، وكلما تذكرته أو ورد على فكرى، تذكرت جدتى لأبى وهى تجلس أمامنا مع أمى تقطع اللحم ثم تمد فمها الكبير وتميل برأسها وتقضم قضمة كبيرة من اللحم النىء ثم ترفع رأسها فى أنتشاء وفمها الواسع به بعض قطرات الدم، كانت تشبه الهولا التى حكت لنا عنها فى حكاياتها وهى تضحك وتشير لى بيدها أن أجرب، وأأخذ قطة لحم نيئة وألتهمها، أن أفعل. مثلما فعلت. كنت أراها تشعر بلذة لا تضاهيها لذة أخرى وهى تحرك لسانها يمنه ويسره وتمصمص شفتيها بحب وشهية، وتلعق بقايا الدم حول فمها.

وأنا أشعر بدوار وغثيان، وأرفض رفضا قاطعا أن أكون مثلها، وأفعل ذلك، وأمى تنظر نحوى بعينين ثابتتين وهى خائفة أن أأكل اللحم نيئا مثل جدتى.

(لو رأيت عربة مائلة على وشك أن تنقلب فأنهض لتقيمها على الوجه السليم)

هذه الجملة ظلت عالقة بذهنى منذ أن قرأتها، وأنا أقاوم ذلك الوحش الخرافى الذى بداخلى، ونظرات جدتى الحادة تصوب تجاهى وتؤنبنى وتستعطفنى أن أرث فعلتها والتهم اللحم النىء مثلها حتى أكون شريكة فى الميراث.

 22 مايو!

لفظ زوجى أنفاسه الأخيرة والطبيب يحاول أن يوهمنى أنها أغماءة وسوف يفيق بعدها، وأنا ماسكة بيده وأصرخ فيه بغضب : دا مات يادكتور، مات وأنت مش عارف حاجة.

كنت أتمنى فى هذه اللحظة أن أميل على كتفه والتهم من لحمه النىء قطعة لحم كبيرة، وأفعل مثلما فعلت جدتى من قبل.

  فى 15 أغسطس! 

كنت أهرول فى شارع القصر العينى بخطوات واسعة، وسط العربات والمارة ولا أبالى بما يحدث فى السابعة صباحا.

كان أمامى هدف واحد فقط أن ألحق بصديقتى التى علمتُ من صديق لى أنها ماتت، وأنا لا أصدق، ولكن أريد أن أتحقق من صحة الخبر، وأن أكذبه من داخلى.

التواريخ تلعب دورا مهما فى حياتى، وكأنها تريد أن تقول لى :

 “أنتبهى إلى الإشارات والدلالات”

دائما ما كنت أنتبه، وأرتعد من الأصوات التى تبعث من داخلى، وخصوصا الصوت الضعيف الذى يأتى إلى أذنى ويهمس داخلها بصوت ضعيف وواهن وإلى الآن لا أعرف مصدره، لكننى دائما أخشى هذا الهاتف الضعيف(الوسواس).

صديقتك ماتت أنتبهى!

صديقاتى!

إلى الآن لم أسلم يوما برحيلكن.

ضاقت بى سبل الحياة.

صار الأبيض مغبرا.

صارت الطرقات وعرة.

كيف تحملتن محنة الوحدة؟

وكيف صار القلم طيعا يطوى المسافات البعيدة ويملأ ندوب الروح بضحكاتكن ؟

كيف كنا نختال يوما على مقهى البستان نضحك، ونعبىء الضحكات داخل أكياس من البلاستيك، ونوزعها عنوة فى حديقة الجريون والأتيلية وحزب التجمع ومقاهى وسط البلد وخصوصا مقهى الحرية؟

كيف كانت الثورات النفسية عنيفة، وكن نتدرب على هجر الأحبة معا داخل قاعات الندوات، وسندوتشات الفول والطعمية من فلفلة، ونصحو مبكرا كى نقول : صباح الخير ياوطنى؟

كيف صار الألم كتابة، والحزن فرحا، والقمر لا يضىء إلا لو كنا محبوبات، لطيفات؟

كيف صارت الأيام موحشه وأنتن مازلتن تغازلن المساء والصباح بالقصائد والقصص، وتقطفن الورود فى دلال محبب، وأنا أطهو بمهارة صينية البطاطس وحلة محشى  ورق العنب بمهارة شيف عجوز، وأذوب عشقا فى بقعة صغيرة من الشيكولاته، رغم تحذيرات الطبيب؟

وأنتظر حبيبا يأتى كى يصافحنى بيدين طيبتين مثل السرخس، ويعرفنى عليكن واحدة تلو الأخرى.

أروى صالح.

سناء المصرى.

نعمات البحيرى.

إبتهال سالم.

كيف كانت الدنيا فى حضوركن؟

كيف كنا صديقات نبدل الأيام مع بندول الساعة؟

ونطوى الأيام كما نطوى صفحات الكتب.

ونسهر حتى مطلع الفجر على مقهى السكرية فى ليالى رمضان الماضية، ولا كنا نخشى عسكرى المرور ولا رجال الوردية، ونحن نضحك ضحكات طويلة وبريئة.

**********

النار

كنت فى المطبخ صباحا، أعد طبقا من الفول بالزيت والليمون، ولحظة، هى لحظة، أو ربما تكون إغفاءة، نظرت خلالها إلى شعلة النار المنبعثة من عين البوتجاز، ورأيت ما كان يجب أولا يراه غيرى، وسمعت ما كان يسمعه أحد، ربما سمعته قديما، أو صدر من شخص أعرفه .أو أكون قد قلته، أو كتبته من قبل..
أو قالته امرأة ما غيرى، فى زمن ما غير هذا الزمن، المهم أننى سمعت حوارا كاملا دار بين امرأتين من زمنين مختلفين، كنت أنا طرفا فيه، سمعت الأولى تقول لى : لالا أنا أقول لها. والثانية تزمج بغضب : لالا، أنا أهم.

 لا أعرف من تحدثت أولا.
ولكن ما عرفته جيدا، هو أنه كان حديثا طويلا، وشيقا، بين أثنتين مختلفتين، وأنا طرفا ثالث فى اللعبة. ..
إنها الرواية! ..
كنت لا أريد أن أكون شخصيا فى هذا المستوى من الخطاب.
ولم أكن أريد أن تكون لى علاقة به.
من شطب، وحذف، وقطع. ..
كنت لحظتها شفافة، وهادئة، ومطيعة، ومفتوحة بلا نهاية على العالم، وتاركة كل الخطابات السابقة على وجودى.
وأحاول أن أبحث عن خطاب غير سلطوى فى حديثى معها، ولكننى وجدتها أمامى ..
امرأة كاملة وعاقلة تمسك بيدى، وتربت برفق وتقول لى : لا تخافى من أية سطوة أو تعنت أو تلاشى، فأنا بشكل ما وضع مؤقت، لحظة متواترة فى الوجود، لا توجد حقيقة مطلقة، ولا هناك حكم نهائى.
ولكن عليكى ألا تخافى منى هكذا.  ا
فأنا مثل الكلمة أستمد سلطتى من سلطة الأخرين.
ثم قامت بتضميد يدى من الحرق الذى أصابها. لن أنسى صرختها الإنسانية وهى تقول لى : ياحبيبتى إيدك أتحرقت.

كانت تشبه تماما صورة ميرام التى صنعتها داخل رواية(قال لها ياإنانا) ومعبرة تماما عن تشنجات وجهها التى تحدث عندما كنت أشعر بالألم تجاهها وهى تعطى الدواء لنفسها كى لا تنام أمام الأخرين.
الوجه الذى أمامى الآن ليس وجهى، ولكنه الوجه المتمنى / الحلم ،…الاتحقق.
حاولت رسم صورة لها وهى تخرج من النار، واسميتها صاحبة اليد المحترقة، ولكننى بعد ذلك اكتشفت أننى رسمت صورة لنفسى، اكثر تعقيدا من الصورة السابقة، وأكثر إنسانية من صورة الماضى البعيد.
لم أكن أعى جيدا أى وجه هذا الذى أمامى؟
خطوط متشابكة ومتداخلة، وألوان كاتمة وحزينة، ومصير غامض وعبثى فى نفس الوقت.
والأخضر بدرجاته يلعب دورا بارزا ..
وعندما وقفت أمامها، وهى ترشف من فنجان الشاى، قالت بود : هذا وجه امرأة معطاءة ..
ولكنها تعطى بحزن.  ..
ولا حظت أن هناك لهباً ما يتوارى خلف الألوان .. ضعيفا وقليلا. ..
ويد محترقة تخرج من اللوحة. ..
ضحكت بعفوية وقالت : الله دى إيدى.
عندما حاولت إنقاذك من النار حرقت يدى.
خرجت من الحجرة، وتركتها تتأمل اللوحات، وأنا تسيطر على رأسى فكرة مجنونة ..
من أنقذ من؟
أنا التى أنقذتها.
وحرقت يدى. ..
ومازالت بعض أثار الحريق واضحة.
وهى تضحك وتقول : إنها هى التى أنقذتنى.
رفعت رأسى من داخل الحبل المعلق فى السقف.
مع العلم، أنا التى أنقذتها
وهى ألقت بالجثة من الشباك. ..
أو وضعت حجرا ثقيلا داخل بلوزتها، وألقت بنفسها فى النيل، كما جاء فى الرواية. ..
والآن أفضى بكل ما يرد على خاطرى من أفكار، أذكر كل شىء، بغير أن أختار أو أنتقى، حتى لو بدت لى بعض الأفكار غير مستحبة أو غير منطقية، أو لاقيمة لها، أو لا علاقة لها .أصلا بالموضوع..
وضع الطبيب نظارته أمامه – وتفحص وجهى جيدا – ثم أخذ يخط بعض الكلمات البسيطة على الورق، وأنا أتابعه من خلف نظارتى الطبية. ..
لا يحدث أننى أرغب فى شىء. ..
ولكنه الآخر هو الذى يرغب من خلالى.
أشعر أننى نسخة بالكربون. ..
أشبه صورة باهتة لآخري تشبهنى، ولا أعرفها.
ولكنها توحى لى برغباتها. ..
وهى التى تتحكم فى أهوائى، وأنا أعتقد أننى حرة فى أختياراتى. ..
وللأسف أكتشفت أخيرا أنها حرية كاذبة، أو على الأقل خادعة.

 ..
وضع الطبيب القلم من يده، وأخذ يفرك كفيه كى يعيد الدفء إليهما، بعد الساعات الطويلة التى قضاها معى، وهو يسمع، وأنا أتحدث، ثم مال بجزعه على وجهى وقال : مدام..  ..
منذ متى، وهذا الإحساس يطاردك؟
ترددت قليلا ، وأنا أشير له إلى اسمى فى البطاقة، ولكنه تجاهل إشارتى، وحثنى على مواصلة الحديث.
أشعر أننى أشبه(دون كيخوتى) وهو ينتحل شخصية(أماديس) البطل، ويحاول أن يحارب العمالقة، أو وهو راكبا فرسه، ويشهر أسلحته الصدئة فى وجوه أعداء وهميين، ولا يعترف بهزيمته أو جنونه.

******

 آخر الدنيا

    أمى!

جئت لأننى أشعر بفزع، وفراغ نفسى يقتلنى، أنا فى حاجة إلى حضنك الدافىء ياأمى، كى أذكر أولى خطواتى، وأنا أحبو نحو المستحيل، وأضع كتاب دارون(أصل الأنواع) داخل كتاب المحاسبة، وأقرأ بتمعن وأنتباه، وأنتِ تقدمين لى كوب الشاى الساخن الذى أحبه بعد العشاء، وقد شد أنتباهك الفطرى أننى لا أذاكر فى كتب المدرسة، ولكننى أقرأ خلسة كتب(الكفرة) كما كنت ِ تسمينها.

معذرة ياأمى حين أخذتى الكتاب منى، وقمتى بتمزيقه بشدة وعنف، وعفوية مفرطة، وبقلب أم خائفة على مستقبل أبنتها، كنت فى اليوم التالى أقرأ كتاب ماركس(رأس المال) وأنا غير حذرة ولا أتوجس خيفة منك، لقد أنكشف الغطاء الذى كنت أخفيه عنكِ، وأصبحت أقرأ وبلا تردد أو مواربة كتب الكفرة التى أصبحت تملأ حجرتى، وعن طيب خاطر، أصبحتى تقدمين لى كوب الشاى الساخن بعد العشاء، وأنا أمسك فى يدى كتاباً مختلفاً عن كتب المدرسة، وأقرأ بتمعن شديد(محاورات أفلاطون) وأنتِ تدعين لى بالصحة والنجاح.

لقد أصبحت ياأمى أكثر بجاحة وحرية عن ذى قبل، بعد أن كشفتى بيديك الطيبتين الغطاء، وأصبح مسموحاً لى فى حضرتك قراءة الكتب والمجلات، وسماع الموسيقى أيضاً، لقد أصبحتى لا تخافين علىَ، ولا تخشين السقوط فى الأمتحانات.

وتمددت ساعات تأخرى خارج البيت بدلا من الساعة الثامنة مساءً، وأنا أجرى خائفة ومرتعشة بين الطرقات والأزقة كى ألحق الباب الكبير قبل أن يغلق بالقفل الحديد، أصبحت أسهر إلى الساعة العاشرة، والحادية عشر، أذكر جيداً ياأمى عندما أتيت إليك فى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وقد نام جميع من فى البيت، أخوتى وأبى، وهدأت كل الأصوات، عدت فى هذه الليلة حاملة شنطة كبيرة مليئة بالكتب الحمراء والتى كنت تعرفينها جيداً من غلافها الأحمر الجلد السميك الذى عليها، ولأول مرة أضحك بملئ قلبى فرحاً، وأنا اقبلك للأننى يومها أشتريت الأعمال الكاملة للشعراء(أدونيس، ومحمود درويش، وصلاح عبد الصبور، وصلاح جاهين) من معرض القاهرة الدولى للكتاب، والذى نقل من أرض المعارض إلى منطقة مدينة نصر، والتى كانت تعتبر من وجهة نظرك ياأمى أنها آخر الدنيا.

يومها ضحكت وأنا أستدفىء بيديك الدافئتين، وأتدلل عليكى بحنو طفلة صغيرة، قامت منذ سنوات بقص شعرها الطويل إلى قصة جديدة عليك اسمها(كارية) يومها ضحكتى وبكيتى ياأمى وأنتِ تمزحين معى وتقولين لى بعفوية وحب وحزن(ياقارعة) لقد رأيت الدموع فى عينيك يومها ياأمى لماذا لا أعرف؟

وعندما دخلت عليكِ المطبخ وأنا مبتهجة وسعيدة بقصة شعرى الجديدة وفى يدى أول قصة نشرت  لى فى مجلة القصة، نظرتى نحوى فى صمت ملىء بالشجن والحزن والفرح والدموع ، كان شعورك ناحيتى ملتبس بالخوف والفرحة، الخوف من المستقبل المحفوف بالمخاطر والذى أخترته لنفسى، والفرح بأننى كبرت، وصار عمرى أثنين وعشرين عاماً، ولم أعد تلك البنت المطيعة الطيبة التى كانت من صنع يديك، نعم ياأمى لقد أصبح عمرى الآن أثنين وعشرين عاماً، وأجهز نفسى لكى أكون كاتبة مختلفة ومستقلة، لقد رفضت جميع عروض الزواج المبهرة التى قدمت لى عبر الأهل والأقارب والأصدقاء والجيران، وربما أكون أضعت فرصاً ذهبية. كنتِ ترينها من وجهة نظرك طيبة، ومن خلال قلب الأم الذى يتمنى الستر لأبنته الوحيدة، البكر الرشيد، أنا اخترت القراءة والكتابة(المفسدة) كما كنتِ تقولين لى ذلك دائماً، وتحذريننى منها ياأمى(من كتر علمه، كتر سمه) كنت تحبين فقط أن تمحى أميتى، أقرأ وأكتب ، وأكتفى بشهادة متوسطة، هى بالنسبة لكِ كانت الحلم الذى لم تحقيقينه لنفسك، فكان هو حلمك بالنسبة لى، ولكننى جئت طفلة متمردة، ثائرة على التقاليد والأعراف والصمت ولأستكانة، والضعف وقلة الحيلة، كنتِ تودين لى ياأمى الستر، والستر من وجهة نظرك هو البيت والزوج والأولاد، وأنا كان الستر من وجهة نظرى هو (التمرد والثورة) على كل ما هو معطل.

 لقد فلت العيار.

لقد سمعتك ذات يوم وأنتِ تحدثين جارتك عنى خلسة، وتشكين لها أفعالى الطائشة، وأطوارى الغريبة، والكتب التى ملأت الحجرة، ودسستى السم فى أذنيها(البنت عيارها فلت) لقد رفضت (الدكتور، والضابط، والمهندس) هى بتدلع على إيه؟

هذه هى جملتك الحزينة الواضحة التى دقت فى قلبى مثل المسامير، وثقبت طبلة أذنى مثل دانة المدفع، فقمت من النوم وأنا حزينة وغاضبة، لماذا لا تفهمين مشاعرى؟

فأنا الرقيقة الطيبة، قررت فجأة أن أختار حياتى، وأخرج عن المألوف، وقد رأيت جميع التجارب السابقة محزنة، صديقاتى أين هن الآن؟

هل نسيتى ياأمى بكاءك ليلاً بصوت خفيض، وأنا اسمع أنينك المتواصل، ودموعك التى كانت تملأ المخدة، كما كنتِ تحكين لجارتنا أم مريم، وتقصين عليها قصص المأسى والتضحية العظيمة من أجلنا، وبقاءك مع زوج تزوج أكثر من مرة عليكِ، هل تنسين ياأمى يوم أخذتينى أنا وأخوتى الصغار إلى منطقة مصر الجديدة، فى الساعة السادسة صباحاً، والجو مازال مغبشاً بالضباب كى تضبطين أبى وهو عند زوجته الجديدة؟

 وكيف تركك أنتِ وأولادك، وكنتِ طوال الطريق تحكين مع نفسك المنقسمة إلى نصفين عن مدى المعناة النفسية التى تشعرين بها وكم من تضحيات تقدمينها من أجل البقاء على هذا البيت مفتوحاً.

لن أنسى ياأمى أبداً ماحييت هذا المشهد من خلال عينيى طفلة صغيرة لم يتجاوز عمرها الثمانى سنوات، وتمسك فى يدها أخيها الذى عمره أربع سنوات، وانتِ تحملين على صدرك طفلاً رضيعاً، وباليد الأخرى تجرجرين طفلاً عمره عامان.

وفتحت لنا الخادمة الباب، وجلسنا.

فى الصالة الكبيرة، ننتظر بشغف أن يصحو البيه والهانم، نعم ياأمى، أذكر جيداً أن العروسة الجديدة كان اسمها(هانم) وقد رأيتها وهى تتسحب من حجرة النوم الداخلية، وتتجه نحو الحمام الذى يقع فى آخر الطرقة الطويلة، كان شعرها الأشقر الطويل متناثراً على كتفيها، وترتدى قميصاً أحمر بلون الدم، دمنا جميعاً(أنا وأنتِ وأخوتى) والجدة القابعة فى البيت هناك تنتظر عودة أبنها الغائب عنها منذ شهور.

أذكر شجاعتك المغلفة بالهزيمة، والهزيمة المغلفة بالنصر!

وأنت تحاولين أسترداد الزوج الهارب من البيت، المتخازل عن واجباته أمام أمه القوية، العنيفة . لقد سمعتك تقولين له بالحرف الواحد، عندما حضر من حجرة النوم بالبيجاما الحمراء الحريرية : حقك علىِ ياأبن عمى، بيتك وولادك وأمك لهم حق عليك.

لم تقولين سوى هذه الجملة ياأمى، لقد رأيتها تخرج من بين شفتيك الحزينتين بحرارة ومرارة وصبر، وأبتسامة خجلى ترتسم على شفتيك، وأخى الصغير يترك صدرك ويرتمى على صدر أبى، وأخى الأصغر الذى عمره عامان فقط ينط قافزاً فوق حجرة مثل قرد صغير، وظللت أنا وأخى الذى يصغرنى بأربعة أعوام، ظللنا مكاننا صامتين، نتأمل مايحدث فى صمت، كنا مهذبين، لاننطق بكلمة، ولا نهرول نحوه، فقط أكتفينا برؤيته وهو يداعب شعر أخينا الصغير ويحمل الآخر ويأخذه فى حضنه الواسع العميق، كنا غاضبين بأعتبارنا الأكبر والأكثر وعياً بما يحدث.

من يومها ياأمى وأصبح هذا المشهد نبراساً لى، لن أقترب من الرجال مهما كان وجودهم ضرورى ومهم، أصبحو لا يشكلون لى أى أهمية تذكر، كنت أنصب ليل نهار على كتبى أذاكر كى أنجح وأكمل دراستى التى حرمتى منها يوم أخذتك جدتك من المدرسة كى تساعدين أمك فى البيت، وترعين أخوتك الصغار، عرفت هذا لأنك ونحن فى طريق عودتنا إلى البيت كنت اسمعك تحدثين نفسك بأستمرار حديثا طويلا لا ينتهى إلا بجملة واحدة (أنا لو كنت أتعلمت، وخدت شهادة، وأشتغلت، مكنتش أتحوجت لك أبداً) وعدنا إلى البيت، وصوت هذه الجملة يدق فى رأسى، أصبحت تخايلنى مثل النحلة الطنانة، وربما لهذا اليوم أكره اللوم والحديث الهامس مع النفس، والضجيج، والصوت المرتفع، أنتِ ياأمى لا تعرفين جيداً، مايخزنه الأطفال فى ذاكراتهم، ومايتركونه يسقط، يسقط، ومايظل عالقاً فى أذهانهم لأيام وسنوات طويلة كثير، ويساهم فى تشكل الوعى وفى مستقبلهم، لقد خزنت فى ذاكرتى كل ماهو حزين ومأسوى ومدمر، لقد سمعتك تحكين لجارتنا أم مريم كاتمة أسرارك، أنكِ منذ هذا اليوم ، اليوم المشؤم الذى أخذتينا فيه وذهبنا معك إلى بيت زوجك وزوجته الجديدة، وأنتِ ترفضين معاشرته، أصبح أبى بالنسبة لكِ ماكينة فلوس كى يصرف على البيت، إنه البنك المتنقل الذى يأتى ويرمى لنا مصروف الشهر، كنتِ تقولين لها بحزن وأسى(بيعاملنا على أننا شوية فراخ يرمى لهم الأكل ويمشى) صار هذا هو نموذج الرجل الذى لا نراه إلا نادراً، فى المواسم والأعياد.

وصرتى أنتِ أمى الحزينة النواحة الخادمة فى البيت لأولادها، لقد صنعتى لى صورة ذهنية عن المرأة المقهورة والتى تحمل آليات قهرها دون وعى منك بذلك، وعندما كبرت بعض الشىء، أذكر جملة صغيرة قلتها لك ياأمى وأنا فى الرابعة عشرة من عمرى(لماذا لا تتركين البيت له) جملة كنت أراها قاسية بالنسبة لك ولى، ولكنك بادرتى بإجابة لم أهضمها جيداً، ولم تعجبنى طوال حياتى(حتى لو غضبت، ورحت عند أبويا، هرجع تانى) كان هذا هو أخر حوار دار بيننا على مدى سنوات عمرك الباقية، لم أعد أطلع على أسرارك التى تحكينها للجارات بعد سفر جارتنا أم مريم، عقب حرب أكتوبر وبشكل سريع وسري، لا أعرف بالضبط وإلى الآن مازال هذا السؤال يؤرقنى، لماذا تركت جارتنا أم مريم البيت؟ وعادت إلى بلدتها هى والأولاد فى الصعيد؟ يؤرقنى بشدة لأننى لا أجد إجابة واضحة وشافية بالنسبة لى.

وكل يوم أسأل أمى : لماذا سافرت جارتنا أم مريم هى وأولادها، وعادت إلى أهلها هكذا فجأة وتركت البيت؟ بدون مبررات أو أسباب تذكر، فى أثناء حرب أكتوبر وأثناء موقعة الثغرة، وحصار الجيش الثانى الميدانى؟ سافرت جارتنا أم مريم هى وأولادها إلى الصعيد، فؤجنا ليلة العيد فى 29 رمضان، يوم 25 أكتوبر تقول لنا بالحرف الواحد ليلاً : ياجماعة أشوف وشكم بخير.

ورحلت، تركت الشقة المواجهة لنا فى البيت، بعد عشرة دامت أكثر من ثلاثة عشرة عاماً تقريباً، كما قالت أمى بعد رحيلهم منذ 1960 وهم يسكنون فى البيت معنا، وكنا كالأخوات .

ورغم أن أبن أختها(مهنى) والذى سوف يصبح زوجاً لأبنتها مريم فيما بعد، كان محاصرا مع الجيش الثانى الميدانى فى منطقة الثغرة بمدينة السويس.

نزل الحزن مضاعفاً على قلب أمى وقلبى، أمى سوف تفقد جارتها الطيبة، وأنا سوف أفقد صديقتى الوحيدة، ولهذا أغلق باب الشقة المواجهة لنا لمدة أربعة أعوام كاملة، شقة خالية من أصحابها تماماً إلى أن تركنا البيت فى عام 1977.

**********

فعل ماضي

فى لحظات نتمدد فوق أسرة بيضاء، ومراتب من القطن الأبيض، تمر بنا الذكريات نحلق معها فرحين كأنها حكايات قديمة سمعناها من أفواه الجدات المسنات، ونحن نمتطى سهوة جواد أبيض قبل النوم، ونغلق أعيننا الصغيرة البريئة، ونتأهب للأنطلاق، نحو بيت أمنا الغولة، كى نحرر ست الحسن والجمال من محبسها المخيف، ونتخطى سبع جبال من شوك، وسبع بحور من دم، وعلينا أن نذبح الدجاجة الوحيدة والتى تبيض بيضة ذهب، كى ندهن الحيطان بدمها، ونخطف ست الحسن، ونفر بها هاربين معاً فوق حصان أبيض جميل، ومازالت الجدة تواصل الحكى فى أذن الصغار كى يناموا.

كانت هذه هى الأحلام المتواضعة البسيطة التى من فرط غرابتها، وعجائيبيتها نحلم بها كل يوم، نأتنس بنار العشق الحنون المغامر، ونغار على أحلامنا الصغيرة من البوح أمام الأمهات الرابضات على عتبة الباب فى المساء، تحكى كل منهن لجارتها حكاية شيقة ومولعة بالمغامرة وموغلة فى القدم، عن حبيب ضاعت ملامحه فى عتمة الليل بين أعواد الذرة الكثيفة وهم صغار، وتظل كل واحدة منهن جالسة لبعض الوقت فى صمت وهى تعيد ترتيب الذكريات والأحداث فى مخيلتها، متى خطف الحبيب منها أول قبلة تحت العنباية فى وهج شهر أغسطس الحار، ومتى خطف حبيب آخر مولع بالستر أول قضمة من تفاحة صدرها الرحب البض بين أوراق شجر الرمان المزهر، ومتى رأت كل منهن جنية الساقية رؤى العين واضحة فى حيرتها وهى تنادى على شاب وسيم : والنبى ياخوى ممكن تشيلنى الزلعة.

وعندما يقترب منها، تسحبه معها إلى العمق البعيد، وتعود لتسأله مرة أخرى : أنا أحلى ولا أمك؟

إذا قال لها أنتِ، نجا، وإذا قال لها أمى، هلك.

فهو فى كلا الحالتين هالك.

كانت أمى ونحن صغار، نلتف حولها فى أمسيات الشتاء الباردة، وهى تخيط لكل منا بيجامة من الكستور المقلم، من قماش الكساء الشعبى، بيجامة شتوية دافئة على مقاسة الجديد، وتحكى لنا حكايات جميلة وشيقة عن بنت الفوال وابن السلطان، وكيف نجت بالحيلة من مكائده المدبرة لأغتصابها، وكيف أن الخياطة الخبيرة، بخبث الرجال حين سألتها ببراءة متناهية عن قط الخزانة الذى يشكشكها فى صدرها، كانت تكذب وتدارى عليها حيل ابن السلطان ومكأده، وهى تقول لها ضاحكة : معلش ياحبيبتى دا كابوس يحضن ويبوس، ويرمى على الناس الفلوس.

لنا الله ياأمى الآن، بعد أن مر كل هذا العمر السعيد بكل حكياته وطفولته البريئة، فلم نعد الآن نذهب إلى بئر مريم، ولا نجلس تحت الشجرة المقدسة، ولم تعد النساء يربطن بها بعض مزق ملابسهن القديمة، كى يعود الغائب، وتختفى الدورة الشهرية، وترزق بمولود ذكر، لم تعد ياأمى المسلة العملاقة والتى كم من مرة تعبت عيناى من النظر إليها عالياً، ونحن عائدات من المدرسة الأعدادية، لم تعد الدنيا سهلة ولا بسيطة بساطة حكاياتك القديمة، ولا مثل طيبتك، لم تعد إنجيل تجلس إلى جوار فاطمة، ومدرس اللغة العربية ينظر من خلف نظارته بخبث شديد إلى البنت تماضيثبببقر وهى تنطق كلمة(ماضى) بحرف التاء فتقول فعل(ماتى) فيضحك المدرس قليلاً، ثم يسخر منها أمامنا جميعاً بود الأب الطيب : يابنتى ياحبيبتى : فعل ماضى.

بالضاد ياأم جهل.

فنضحك جميعا نحن تلميذات أولى أول، خائفات، خائبات، لا ندرك أهمية الأفعال الماضية والنطق الصحيح.

****

أنثى أخرى

مهما حاولت سد الفجوات، دائماً هناك شىء ما ينقصها، ويشعرها بالغبن والدونية، فيتحول ذلك الشعور إلى ألام حادة أسفل المعدة، وخاصة فى إتجاه الجانب الأيمن.

فى السنوات الأخيرة، حاولت تجنب النظر فى المرآة قدر المستطاع، وإذا تصادف، ومرت من أمام محل، من المحلات الكبيرة لفخمة، ونظرت فى زجاج واجهة المحل، ترى أمامها أنثى أخرى لأول مرة، الحزن فى العينين، ودمعة هناك بعيداً تختفى في

 العمق، وغضب متمكن من ملامحها، وزم الشفتين بطريقة تشى بالصمت الطويل، وأذنين غريبين حمراوين دائماً من شدة الخجل.

ملامح أصبحت تشبه ملامح الآسى الممزوج بالضعف.

********

العجوز

كل يوم أمر عليها صباحاً وهى جالسة القرفصاء، فى زاوية معتمة، أمام باب المحل المغلق، أسأل نفسى سؤالا ليس له إجابة شافيه، ترى من الذى تركها هنا بمفردها ورحل.

وكثيراً ماأحاول أقناع نفسى بأخذها معى إلى البيت، حيث الدفء والرعاية، ولدى سرير خالى لا يستخدمه أحد، ولكن شيطان الخوف فى كل مرة ينتصر وهو يقرصنى من أذنى بقوة وعنف وغضب شديد : تأتين بامرأة مسنة من الشارع، وتأوينها فى بيتك لماذا؟ هى ليست أمك!

وقبل أن يخرج الكلام من فمى كى أخرسه.

أهرب بسرعة من أمامها.

وأرى الأطفال الصغار وهم يهرولون نحوها، وكل منهم يخرج من حقيبته ساندوتشا ساخناً ويقدمه لها، ويتسابقون فى محاولة إقناعها بأخذ واحدا. وهى ترفض بشدة، وتمد يدها بحنان شديد وتبعد أيديهم الصغيرة عنها.

تأتى امرأة أخرى، تمسك بيدها طفلا صغيرا، يحمل حقيبة مدرسية، وباليد الأخرى شنطة صغيرة بها بعض الأطعمة الطازجة، وتعطيها لها.

تأخذ العجوز الطعام من يد المرأة. والأطفال يهرولون مرحين نحو باب المدرسة القريب بعد سماع الجرس، وهم يحملون الدعوات من المرأتين.

****************

خدش

جرحتْ اليوم يدها بالسكينة الجديدة، والتى أشترتها خصيصاً للعيد الكبير، والذى تتلقى فيه الهدية الغالية من أبيها كل عام(فخذ ضأن).

قديماً، كانت جميع الخدوش التى تحدث بيدها من محاولات كثيرة فاشلة لتقطيع اللحم الضأن  بطريقة صحيحة، ومحاولة إخلاء العظم بصورة جيدة.

اليوم تحدديداً.

بالسلاح الجديد، سوف تقوم بتقطيع اللحم بطريقة ماهرة، لأنها أستوعبت الدرس جيداً، وعرفت أن السلاح الجيد أفضل وسيلة للتخلص من الخدوش الكثيرة المؤلمة، وأفضل طريقة لإخلاء العظم من اللحم.

*****

تذكر

تسقط الكلمات من ذاكراتها كل يوم!

 كلمة وراء أخري، إلي أن أصبحت عندما تريد تذكر اسم شىء، تظل بالساعات واقفة الثلاجة إيه ” هكذا تظل علي الوضع لمدة طويلة تخرج وتدخل تفتح باب الثلاجة وتقف أمامها والهواء البارد المنعش من داخل الثلاجة لا يساعدها علي التذكر تدخل حجرتها بعد أن عجزت عن معرفة ماذا تريد وتذهب في نوم عميق.

***********

صوت

كانت دائما تستيقظ كل يوم علي صوت هاتفا يناديها ” يانادية”
تجري بأقصي سرعة تفتح النافذة ‘ كي تري بائع اللبن’ الشاب الوسيم يقف تحت النافذة ويبتسم ‘ تنزل درجات السلم في. سرعة’ تأخذ منه اللبن وتصعد في. حبور وأطمئنان علي طعام أخيها الصغير ‘ تحمل شنطة المدرسة وتنزل درجات السلم في. سعادة بالغة وهي تستقبل يوما جديدا بين أصدقائها الصغار يمرحون ويتعلمون في المدرسة الجديدة

*************

مكابدة

اليوم استيقظت مبكرا علي غير عادتها تريد أن تكتب شيئا جديدا متفردا ولكنه الغضب دائما يتحكم في. كل ما تود أن تغيره ويتشبث كطفل عنيد بأهداب عينيها كي لا. تصحو أبدا أو تفيق أو تتراجع عما تعودت عليه فتعود للنوم من جديد. وهي غاضبة ومستائة من عناده الدائم معها

*********

مياه معدنية

تعودت في كل زيارة لوالدها ‘ القاطن في محافظة’ والذي تراه علي فترات متباعده ‘ أن يحضر لها زجاجة مياة معدنية خصوصي لها شخصيا من السوبر ماركت’ ويخبأها أسفل الكنبة التي يجلس فوقها إلي حين زيارتها ‘ وكان يحرم علي أي كبير أو صغير أن يقترب من هذه الزجاجة’ ومهما طال غيابها الزجاجة في. أنتظارها ‘ وفي يوم من الايام مرض الأب’ وذهبت لزيارة فجأة ‘ وهي جالسة إلي جواره علي السرير’ فجأة دخل عليها طفلا صغيرا وهو يحمل زجاجة مياة معدنية ويقدمها لها ويضحك ” مياة عمتو ” أتفضلي ” أخذتها منه وهي تضحك ‘ وفتحت الزجاجة وأخذت تشرب مياة معدنية وهي سعيدة وتشعر بحبور شديد’ 

*****************

أمل

الكتب الملقاه حولنا
في شماتة امرأة عاقر
تحاصرنا بنظراتها ونحن 
نجلس عرايا وحيدين
نتوحش ونلقي بأجسادنا علي الأرض
مقلدين الموتي
متعبين في إرهاق 
امرأة 
تجلس مثل أسفنجة جافة
تلقي بعبء الليالي 
من علي صدرها 
المدر لبنا.

********

قلب

القلب المهمل في. صناديق القمامة
كان يعاني من ألام الضعف والوحدة
فراهن علي أنه سوف يخرج من حالته هذه 
ويعود محملا بروائح كثيرة
غير التي ملأته طوال 
السنوات السابقة
خرج القلب من وحدته ومن لهفته 
فرأي شمسا كبيرة تغمره
وتعده بوسادتين دافئتين
مريحتين
في شيخوخته 
يتكئ عليهما عندما يصاب بالعطب
ولكن القلب الملئ بالروائح 
قفز خارجا وصار يدرك 
أن مصيره غير ما تحمله له الشمس 
وأن حياته تساوي شبابا دائما 
فهو يكره الألم 
ويكره الصمت 
ولكنه يعاني من الوحدة والضعف

***********

حجرة

تدخل الحجرة المضيئة فترتبك
أوزان قلبك 
لأنك صادفت المحارة العارية 
برأسها المشعث 
وقلبها الملتهب 
هل صادف الحب قلبا ميتا 
فاستيقظ علي عشقه لعينيه
الكليلتين وأنفه المدبب حافته
ضاحكا أنا صاحب أنف مثالية
هكذا كانت الأسفنجة الجافة
بطازجتها بدأت تبتل وتبتل 
فغاصت في. عينيه عن آخرها

*****

روح

عتمة الروح تختفى شيئاً فشىء.

يتكشف بداخلى نوراً مختلفاً، كنتُ أظنه فى يوم ما ضباباً كثيفاً يزعجنى، ويرهق الروح.

اليوم قررتُ أن أكون مختلفة.

مهما تباعدت المسافا بين روحى وذاك الضوء البعيد، سوف أسعى إليه جاهدة، طالما أن هناك أمل ما رابضا داخل قلبى الصغير.

على ألا أخشى شيئاً ألبته، حتى تلك البنت الصغيرة التى تحبو هناك فى الأفق، وترتدى بذلة جديدة مرسوم عليها دباً صغيراً بلون برتقالى، وهى تحبو ضاحكة مرحة، وتجرجرنى وراءها إلى مجهول بعيد ومختلف.

***

مرايا

لم تعد تلك المرايات تزعجنى، مهما تراصت الصور، وتداخلت أمام عينيى.

كل ما أصبو إليه أن أتلصص على روحى المجهدة، وهى تزحف خارجة فى رحلتها الجديدة، وهى صاعدة نحو نور بهيج.

**

مساء

ذات مساء.

رأيت نفسى روحاً تسير على جانب نهر.

هذا النهر أعرفه.

ولكنه يمثل فى ذاكرتى البعيدة موتامؤجلاً.

كنتُ فى غاية الأنبساط، وأنا أرى على الجانب الآخر من النهر، فتاة رشيقة، تسير بقوام رشيق.

سألت نفسى حائرة “متى رأيت هذه الفتاة من قبل؟”

وجاءت أجابتى صادمة، لقد رأيتها ذات يوم منذ أوام بعيدة، كانت داخل قارب صغير، تطفو على سطح النهر مثل قطعة حلوى، والمراكبى الصغير يجدف لها بيدين قويتين.

قلتُ “وماذا حدث بعد ذلك؟”

رأيت الأجابة أتية من الأفق البعيد، وبعض المشيعين يسيرون خلف تابوت كبير، وهم يرددون فى همس قوى : لا إله إلا الله.

…..

عشق

يتكرر المشهد الدرامى فى الحلقات الأخيرة للمسلسل الممل، والممزوج بأصوات عالية وغير متجانسة، لممثيلين راحلين.

بموت البطل.

كثيراً شاهدنا مسلسلات فى حياتنا الطويلة / القصيرة، أو القصيرة / الطويلة، تنتهى بموت البطل.

ولكن صرخت البطل فى هذا المسلسل، كانت قوية، ومختلفة تماماً عن صرخات أبطال سابقين.

جد مختلفة.

فهو لم يعلو بصوته دفعة واحدة، ولم يصرخ فى وجه أحد مستغيثاً، ولم يستعن بالله على القتلة.

بل قال جملة واحدة.

جملة هادئة.

وبنصف وعى، وإندهاش عظيم، وقبح القتلة بأعينهم المرشوقة فى عينيه، فى تحجر، وروحه النازفة فى سلام.

قال : الحمد لله.

أننى قتلت بيد أصدقائى.

***

مدينة

مدينة ترقد بين الأحراش.

لا أعرف أن كنت قد رأيتها قديماً.

 أيام مجد السابقين الأوائل حين أنشاؤها، وأصرفوا عليها ببزخ زائد.

أم أننى رأيتها فى الحلم يوماً.

 وأنا مضجعة على كتف الرصيف، أمام النهر، أتأمل فى صمت رحيل الصالحين.

******

رسالة

 

رقد مستكيناً، منتصراً.

بعد أن بلغ الرسالة.

قال فى نفسه قبل أن يرقد “أأنا بخير”.

وصلت الرسالة إلى جموع وألاف، وملايين. ولكن هناك فى الأفق البعيد، فوق تبة مرتفعة عن سطح الأرض.

كان يرقد شاعر قديم، لم يقرأ الرسالة قبل موته.

ولكنه كتب على شاهد قبره قبل الموت “هناك رسالة سوف تصل” لحظتها ربما لا أكون جاهزاً للحرب، ولكن عليكم قرأتها كاملة بشكل جيد.

***

صوت

بكى الطفل بكاءً مراً.

وأمه كانت خارج البيت، تبحث له عن طعام.

ظل الطفل يبكى، حتى صمت.

وظلت الأم بالخارج طويلاً، تبحث عن ذلك الصوت الذى كان بداخلها يصرخ ويبكى بحرقة مرة.

*****

مدفن

يرقد قرب المدفن البعيد، والذى يقع على الطريق السريع كلب صامت.

يرقد واضعا يديه الأماميتين أسفل ذقنه، وينظر نحو البعيد، البعيد فى صمت أبدى.

بالأمس كنا فى زيارة المدفن، الزيارة السنوية للعائلة الراحلة منذ ألاف السنين.

هكذا قال أبى وهو يشير بأصبع السبابة اليمنى : الأجداد يرقدون هنا منذ مئات، بل ألاف السنين، وأن هذا الكلب رابضاً على هذا الوضع منذ كنتُ طفلاً.

رفعت صوتى هامسة فى سؤال : هل هذا الكلب هو كلب أهل الكهف ياأبى؟

نظر إلى نظرة عتاب وغضب.

وقال بشكل حاسم : هذا الكلب رأيته من كنت طفلا، فقط هذا كل ما أعرفه.

***

مرفأ

خارج المدينة، يرقد مرفأ صغير.

قالت لى جدتى يوماً : أن هذا المرفأ قديما كان الميناء الرئيسى لهذه البلدة، ومنذ أن هجره المسافرون، صار ينظر بعينين حزينتين نحو الأفق البعيد، منتظراً مسافراً رحل ولم يعد.

والآن لا أحد ياتى أو يرحل من هنا.

****

رصيف

كان رجل عجوز يمر من ها هنا.

من على هذا الرصيف تحديداً، والذى امر من عليه الآن، وأنظر إلى الطريق بعينين جاحظتين، أريد أن أعبر، ولكن رتل من السيارات الضخمة والصغيرة يمرون فى سرعة غبية ومرعبة.

وقف العجوز ينتظر طويلاً. صمت السيارات وتوقفها أو فناءها.

بينما أنا الآن أمر كجثة منتهية أسفل الرصيف، والعربات مازالت تزمجر فى أنطلاقها معربدة مثل كلاب شرسة.

******

أيس كريم

طفلة تقف تمسك بيد أمها، وتشير باليد الأخرى نحو باب المحل الذى يقف أمامه رتل من الشهوانين العظماء، يزدردون لعابهم لهفة فى قضم قطعة ممتعة من الأيس كريم.

وأنا أقف على حفرة من الجمر، أنتظر صديقتى التى ذهبت هناك بعيداً داخل المحل، لتأتى بكوبين كبيرين من الأيس كريم الطازج.

والطفلة مازالت تشير بيدها نحو المحل. وامها تجرجرها خلفها فى حزن مميت.

والطفلة تصرخ.

والأم تهددها بتركها وحيدة وسط الشارع، إن لم تكف عن البكاء.

***

جبل الطير

فوق السطح المواجه لعينيى.

كان يقف رتل من الطير، ربما كانت مجموعة من العصافير الصغيرة، وبينهم يمامتين كبيرتين.

كانت اليمامتان مميزتان لدرجة أننى لمحت لونهما البنى الباهت بوضوح.

بينما كانت الزرازير الصغيرة، أقصد العصافير فى عدد لا نهائى.

أخذت أسير بخطى هادئة أجمع لهم فتات الخبز المتبقى من وجبة الغداء، وأضعها فى هدوء وصمت على سور البلكونة التى أقف بداخلها، وظللت أنتظر هبوطهم عنوة، ونهش فتات الخبز باستمتاع رهيب.

ولكن ماحدث عكس ذلك.

ظلت العصافير هادئة، تنط، وتطير، وترتفع، وتهبط. واليمامتان هادئتان فى مكانهما.

تنتظران لحظة دخولى.

ويقمن فى سرعة بالأنقضاض على الطعام وألتهامه فى عجالة .

ولكننى ظللت واقفة، وفوت عليهم لحظة الأنقضاض السريع.

****

رعاية

لم أعد أهتم الآن بما هو حقيقى أو مزيف فى التاريخ.

الماضى خاصة.

ولكن ما أهتم به الآن، وأراعية رعاية كاملة من جانبى، هو ذلك الوجه لطفلة تحبو أمامى على أربع، وتحاول جاهدة أن تقف على قدميها، دون مساندة من أحد.

****

فنان

الرجل الهمام الذى صنع تمثال فينوس، هل هو يشبه الرجل الذى ينهق الآن بصوت متحشرج ويصر على الغناء، ويقتنى العديد من القصور والخدم؟

هل هو يشبه نفس الرئيس الذى تلوح له الجماهير الغفيرة بيد مرتفعة عالياً والتى جاءت لوداعه إلى مثواه الأخير؟

هل هو يشبه هوميروس، أو يشبه دانتى؟

يشبه معجزة إلهية تجسدت أمام عينى الآن، وانا أحاول أن أكتب كلمات قليلة على ورقة بيضاء صغيرة، وانا مندثة وسط الحشود.

****

زئير قوى

فى إحدى الغابات الأستوائية البعيدة.

زئر أسد جريح بصوت قوى.

هكذا كُتِبَ فى قصة للأطفال.

ورسم مفتوح الفم على أخره.

لأن كان هناك شوكة قوية فى قدم الأسد.

ظلت هذه الحكاية ترقد داخل القصة لسنوات طويلة، على أرفف المكتبات.

وصوت زئير الأسد ينفذ إلى أذن الأطفال.

وفى ذلك الوقت.

 كان يرقد هناك فى إحدى المصحات النفسية شاباً جميلاً، وكان يزئر زائيراً قوياً من شدة الألم، من عذاب الوحدة والعزلة الطويلة.

إلى أن جاءت طفلة صغيرة فى زمن لاحق، وأخرجت الأسد من القصة، ونزعت الشوكة من قدمه، فكف عن الزئير.

ورسمت أسد يضحك بفم مفتوح.

بعد ذلك.

نام الشاب ليلتها مستسلماً لرحلة هادئة فى بحر يمور بالأمواج العالية.

*****

هذا الصباح

هذا الصباح، سأفتح باب غرفتى الداخلية، وأطل على العالم الجديد فى يومه الجديد بكل شفقة ورحمة، وإحساس مغاير لم حدث بالأمس.

فى هذا الصباح، سوف أعفو وأسامح كل من عبث فى وجهى، وببطاقة الرقم القومى، ونطر إلىَ نظرة متعالية وغير طيبة أو بريئة.

فى هذا الصباح، سوف أفتح نافذتى على أخرها، لكى تطل الفرشات وتدخل راسها بكل ثقة داخل الحجرة، والعصافير تنقر حبيبات القمح بأطمئنان، سوف أفتح النافذة وأطل منها على اليوم الجديد بكامل طازاجته المبهرة وأنا أضحك، والهواء المنعش الذى يأتى من الشمال محملاً بكم هائل من الأكسجين النقى.

فى هذا الصباح، سوف اسمع ضحكة طفل جميل وهو يخطو بخطواته بين أبويه، وسوف أمسك بدورق الماء وأسقى صباراتى الكبيرات، وأصبح عليهن ضاحكة مثل ست الحسن والجمال فى الحدوتة القديمة، وأقول لهن بحب كبير صباح الخير ياأميراتى الطيبات.

فى هذا الصباح، سوف أدعو أصدقائى على حفل عشاء فاخر، وأغنى أغنية جديدة ومختلفة عن كل الآهات لسابقة، سوف أحكى عن بنت جميلة قاربت على الستين وهى مازالت تضحك فى وجه الحياة، وتنتظر حبيبها بحب وقلب كبير.

**********

مقعد فى حديقة

لم أكن أعلم أن مجيىء فى هذا الوقت المبكر جداً، بعد صلاة الفجر تقريباً على ما أذكر، قد سمح لى برؤية شروق الشمس وهى تخرج من بيتها المظلم البعيد، وتفرد أشرعتها وأجنحاتها البيضاء والصفراء، وترفرف من حولى فى زهو بليغ، كانت بعيدة بعض الشىء، وصوت العصافير تزقزق مبتهجة على الأغصان بظهور ضوء الصباح الباكر.

فى البكور البركة، جملة أمى الطيبة أذكرها وأحبها كثيراً.

لا أعرف لماذا خطرت على بالى!

ولكننى لم أعرف بالضبط من الذى أحضرنى إلى هنا فى هذا الصباح المشرق، وتركنى وحيدة، أنظر بعينين ضعيفتين نحو النور المنبثق بقوة من الظلام.

وعلى فترات متباعدة، أصبح النور يغذو المكان رويداً، رويداً، فتبينت الحياة من حولى.

كانت حديقة جميلة، ومعتنى بها عناية فائقة. جلستُ لساعات طويلة، أتطلع حولى فى صمت، على الزهور، والأغصان، والطيور، وأنا مبتهجة بهذا المناخ الدافىء الطيب، بعد شتاء طويل بارد.

وليس بداخلى أدنى شك من أن يد طيبة بعثت بى إلى هنا.

ولكن ليس لدى معرفة كاملة عما سبق: من أنا؟

ماهذا المكان؟

من الذى أحضرنى؟

أين كنتُ من قبل؟

تساؤلات، وشذرات، كانت تطفو على ذهنى كطفو الأسفنج على وجه الماء.

شذرات من نور، وأسألة من فراغ، ليس لها إجابة محددة.

وبعد معناة طويلة، لم أصل إلى الإجابة الشافية، فأستسلمت لغواية النور، والطيور، وأخذت أنظر حولى بتمعن أكثر، وأنا استمتع بهذا الجو الربيعى البديع، والهدوء القاتل، والطيور من حولى كثيفة، ورشيقة، تطير من غصن إلى غصن فى حبور وبهجة.

وعاد السؤال يراودنى من جديد.

من أنا؟

لا أعرف بالضبط!

من الذى جاء بى إلى هنا؟

 وأجلسنى على هذا المقعد الحجرى الكبير!

أخذت أتلصص بعينى المجهدتين حولى، علىِ أجد شخصاً هنا أعرفه، ولكن لا فائدة، المكان هادىء جداً، ونظيف جداً، وبعض الطيور تعبر أمامى فى أسراب كثيرة، مرفرفة بجناحيها تعبر من شجرة إلى أخرى، وأنا أرنو إليها بين لحظة وأخرى فى صمت.

أنا لاأذكر شيئاً مما حدث قبل مجىءِ، ولا أعرف ماذا يحدث بعد لحظات، ولكن كل ماأعرفه أننى أجلس وحيدة الآن على مقعد حجرى فى حديقة واسعة وجميلة.

مرت الساعات الأولى وأنا أنتظر.

بعد الظهر.

 جاء رجلاً مسناً، وجلس إلى جوارى على نفس المقعد، ثم سألنى بصوت هادىء رخيم، يشى بمعرفة سابقة : لماذا حضرتى إلى المكان مبكراً ياسيدتى؟

نظرت نحوه، وأنا أحاول جاهدة أن أتذكر متى رأيته من قبل؟

ولكن دون فائدة.

فذاكرتى لم تعد تحمل شيئا سابقا عن لحظتى هذه!

ضحكت وأنا أحاول بشغف شديد فهم مايحدث، وأن أعرف..

أولاً : ماذا يقصد؟

ثانياً : هل ألتقينا من قبل هنا؟

ثالثاً : من أنا حتى أعثر على إجابات شافية ومريحة لِمَ أنا فيه.

ولكن ظل الرجل صامتاً، وهو يتكىء على عكازه، وينظر نحو الطيور المحلقة فى الفضاء الواسع حولنا.

وعندما وجدت أنه لن يتحاور معى ثانية، عدتُ إلى شرودى من جديد.

بعد ساعة كاملة أخرى، جاء رجلُ وجلس على نفس المقعد إلى جوارى، ونظر نحوى بهدوء شديد، وقال بعينين دامعتين : متى حضرتى إلى هنا أيتها الأم الطيبة؟

ضحكت ولم أرد عليه، لأنه بعد أن قال جملته هذه، أخذ ينظر نحو الطيور المحلقة فى الفضاء، وهو يتكىء على عصاه.

وصرت أنا جالسة لمدة أربع ساعات كاملة بين رجلين، لا يعرف كل منهما الآخر.

وبداخلى أسئلة كثيرة وعميقة ومشوشة، عن المكان، وعنى، وعن الرجلين، ولماذا جاء كل منهما إلى هنا؟

فى تمام الساعة الخامسة مساءً.

 وبعد نزول الشمس إلى جهة الأخرى بقرصها البرتقالى الكبير، ولملمت خيوط شعرها الذهبى الطويل.

شعرتُ بخفوت شديد، وغصة فى حلقى، فأنا لا أحب هذه اللحظات تحديداً، ونادراً ما أراها، فأنا أحب لحظات الشروق المبهجة، وخروج الشمس من كهفها المظلم.

بعد لحظات قليلة.

 رأيت ثلاثة سيدات جميلات، يقفن أمام المقعد الحجرى، وكل منهن تدفع أمامها كرسياً كبيرا بعجل قوى.

جلسنا نحن الثلاثة فوق الكراسى المتحركة، والسيدات الطيبات يدفعن بنا نحو مبنى بعيد وقديم فى أخر الحديقة.

**************

كوب شاي ممتع بعد الواحدة صباحا

وأنا جالسة أقرأ تاريخ السابقين.. واسمع صوت أم كلثوم على آخر درجة في مفتاح الصوت.حتى لا يسمعها أحدا غيري وهي تغني رائعتها(هو صحيح الهوا غلاب).
أعتقد أنها رائعة بيرم التونسي.. هذا شجنه وحزنه الدفين مهما كانت بهجة اللحن.. وأعتقد أكثر أنه لحن زكريا أحمد.. حتي تكون السماء مشاركة في الروعة عندما يجتمع الثلاثة. 
وصوت الآهات تخرج منها آه بعد آه في قوة مختلفة.. لكل آه جمال وتميز(إزاي ياتري آهو دا اللي جرا.. وأنا وأنا وأنا معرفش أنا) واو.. أربعة أنات مختلفات جميلات.. أختصت كل أنا منهن بصوت مختلف.. يالا الروعة.. وأنا أرتشف من كوب الشاي الساخن بعد الواحدة صباحا.. لماذا طلبت معي شايا الآن؟ إنه الحب.. إنه الوجع.. كل هذا يحدث.. واسمع كل هذا الضجيج الداخلي من حولي حيث لا أحد.((نظرة وكنت احسبها سلام وتمر أوام.. أتاري فيها وعود وعهود…..) آه آه لقد أعادت المقطع أكثر من مرة وتدلالات وتدلعت وتلونت بصوتها.. وأنا اسمع وأتسلطن وأحزن.. ياالله على كل هذه الروعة!. 
فمتى تكون البهجة؟ 
البهجة في الكتابة! 
في الصوت؟ 
في اللحن؟ 
في القراءة؟ 
في الحب؟ 
(أهل الهوي وصفولي دواه.. لقيت دواه زودلي آساه..) 
درجة الحرارة الآن في الواحدة صباحاا مرتفعة بشدة.ً. 
صاعقة كهربية جعلت الأضاءة تنعدم. وأنا أتحسس موضع قدمي كي أضئ الكشاف الكهربي المركون على الرف منذ سنوات طويلة.. 
أنقطع النور.. 
أنقطع الصوت.. 
وبقي كوب الشاي ساخنا، وأنا أرتشف منه بسعادة بالغة في الواحدة صباحاً.. وأكمل الأغنية بصوتي الخشن الذي ترقق وأنا أدندن بمفردي في الهواء الطلق بعد الواحدة صباحاً في الشرفة..

*****

زهرة البستان

إلى/ روح مجدى الجابري

أذهب إليها الآن لمجرد الجلوس والتأمل.. 
أذهب أحيانا ونادرا، لكي استرد شبابي وضحكاتي العريضة المبهجة والتي تركتها هنا وهناك في الممرالضيق بين العمارات الشاهقة وبين الطاولات وأكواب الشاي الساخنة في شتاء يناير. 
واسرح بعينين دامعتين باحثة عن شلة الأصدقاء الذين كانوا يفرغون ضحكاتهم الرجولية داخل ساندويتشات الفول والطعمية من محل فلفلة القريب.. 
ويحتسون الشاي الكشري في محبة الثمانينات.

**************.

سارة الدمشقي

   أصبح البيت بالنسبة لى فى مصر مظلة أخرى .

هكذا بدأت كلامها المنمق ، الدقيق ، فى أول لقاء كان بيننا ، بعد الحرب واشتدادها .

قابلتها صدفة فى معرض الكتاب بشعرها الأسود الفاحم ، والذى يسترسل ويرقد على كتفيها فى هدوء ووداعة ، وهى تجلس أمامى على المنضدة ، صدفة جمعتنا فى المقهى .

أنا طلبت شايا ، وهى طلبت قهوة سادة ، وأخذت تدخن سيجارة من سيجارة ، لقد شد أنتباهى لها ، هذا الوجه الصارم ، والملامح الحادة ، وجه بلا عاطفة أو حضور ، وجه حاد ومكتئب ، يشبه وجوه الساسة الكبار الذين يحملون هموم الوطن على ملامحهم .

بدأ الحديث بيننا هكذا ، عندما أخطأ صبى المقهى ووضع القهوة أمامى ، والشاى أمامها .

فقالت له بعجرفة وصرامة : أنا طلبت قهوة سادة ياحمار .

نظرت فى سرعة إلى الكوب الذى أمامى وحملته ، ووضعته أمامها ، وأنا أعتذر لها بحنو وخفة : سورى لقد أخطأ الولد .

وضعت كوب القهوة أمامها ، وأخذت كوب الشاى الخاص بى وأنا أحاول أن ألطف الجو ، رغم أننى لا أعرفها ، ولا أعتقد أنها من أحد المثقفين السوريين ، أو الكاتبات اللاتى يحضرن معرض الكتاب .

أخذت تدخن بشراهة ، وأنا أختلس بين لحظة وأخرى النظر نحوها ، وأرى تعبيرات وجهها والحدة المفتعلة التى تتعامل بها مع نفسها والأخرين ، لقد رأيت الولد وهو ترتعش يده عندما نهرته على الخطأ الغير مقصود ، ولمحت بشكل عفوى ، وفراسة ، دمعة صغيرة تكونت فى زاوية عينه اليسرى .

وأخذت أتتبع خطواته المهزومة وهو يسير مبتعداً عن المنضدة الخاصة بنا .

كنت أود أن أسير وراءه وأطيب خاطره ، ولكننى بشكل خبيث وغير مثالى ، قلت لنفسى أنه سوف ينسى بعد قليل ماحدث .

ظلت هى ترشف من كوب القهوة ، وأوشكت على أن تنتهى علبة سجائرها المستوردة ، ولكننى بذكاء المصريات وطيبة روحهن ، قررت أن أحادثها بلطف رغم ما أغضبنى من سلوكها مع صبى المقهى .

– حضرتك سورية ؟

– نعم من الشام .

ضحكت ، وحاولت جر الحديث معها برقة أكثر .

– أهلاً وسهلاً ، على فكرة أنا سافرت سوريا عام 2008 ، رحت حلب والرقة .

هزت رأسها ربما تكون غير مستوعبة للموقف ، أو تتهرب من الحديث معى .

خاصة وانا أضع أمامى كومة كبيرة من الكتب ، وأشرب الشاى ولا أدخن .

نظرت نحوى بتعال شديد .

– حضرتك كاتبة .

– نعم . وقد دعيت إلى مؤتمر العجيلى بالرقة ، هلى تعرفين الدكتورة شهلا العجيلى ؟

هزت رأسها نفياً ، وهى تسحب نفساً قويا من السيجارة المنتهية ثم تلقى بعقب السيجارة داخل كوب القهوة الفارغ .

حاولت جر الحديث معها ، ولكنها أغلقت كل الكلام ، وهى تقوم واقفة ، وتخرج من جيبها عشرة جنيهات وتتركها على المنضدة أمامى .

وقالت بسخرية وهى تتحرك بين الكرسى والمنضدة .

– أنا سارة الدمشقى ، طالبة بنهائى طب لديكم ، ومصر بالنسبة لى مظلة أخرى .

ثم تركت المكان خارجة برشاقة وجبروت وأنفة .

وأنا أخذت أتابع خطواتها الرجولية بعض الشىء ، وأكرر داخل نفسى ماعرفته عن نساء الشام الجميلات ، الساحرات ، ثم ألقيت بأخر رشفة من كوب الشاى فى جوفى ، وناديت على صبى المقهى للحساب .

فجأة جاء ولد آخر للحساب ، واعطيته حساب الشاى الخاص بى ، وتركته يتناول العشر جنيهات التى تركتها هى ثمن القهوة من على المنضدة وينظفها ، وخرجت من الخيمة المصنوعة على هيئة مقهى فى معرض القاهرة الدولى للكتاب .

    فى هذه الليلة ، ظللت سائرة بمفردى فى شوارع القاهرة الساهرة .

سرت من مدينة نصر إلى منطقة العباسية ، واخذت أنحرف يميناً ويسارأ من شارع إلى شارع  حتى وصلت إلى منطقة رمسيس .

رفضت أن أستقل المترو ، أو أركب ميكروباص ، كان بداخلى غضب وحزن شديد ، أريد أن أفرغه كاملاً بالمشى ولا أعود محملة به إلى البيت .

وتذكرت صديقتى الكاتبة إبتهال سالم ، وشعرت بمدى فقدى لها ، فهى الوحيدة التى كنت استطيع أن أتحدث معها بإستفاضة فيما حدث ، وفى هذا الموضوع الشائك تحديدا .

لماذا نأوى الأغراب على أرضنا ، وهم يتعالون علينا هكذا ، كأننا خدم أو عبيد عندهم ؟

منذ عصور الأحتلال الأولى ، وانهيار الدولة المصرية القديمة بكل عظمتها وحضارتها وجلالها ، وأصبح للصغار من الشعوب دور فى إذلالنا ، وكأنه أنتقام مغلف بالمواطنة من أحفاد الفراعنة .

ثم ضحكت فى سرى ، وأنا أسير الهوينا فى شارع رمسيس .

– هل نحن حقاً أحفاد الفراعنة ؟

ومن يملك بالدليل القاطع صحة هذا النسب ونقاءه ، لقد أحتللنا من بلدان عديدة ، فسمة الدم النقى أو الجنس النقى أو العرق النقى الخالص ماعادت تستهوينى أو تقنعنى ، حتى عندما ذهبت إلى منطقة حلاليب ، وأدعى أهل منطقة العالى ، بأنتمائهم الخالص وأنهم أخر سلالة الفراعنة ، ومازالوا يتحدثون اللغة الفرعونية .

ضحكت ، ولم أصدق ذلك كله مهما بهرنى مايرتدونه من زى مزركش ، وأكسسوارات ، ولغة غير مفهومة .

المهم عندما أقتربت من شارع الجمهورية كى أواصل سيرى إلى داخل منطقة وسط البلد ، والذهاب إلى مقهى البستان أو أتيلية القاهرة .

رأيت تلك البنت المتعجرفة تقف على محطة الباص ، وهى تنظر يميناً وشمالاً ، كأنها ضلت الطريق .

الحقيقة عندما رأيتها تعمدت أن أسير أمامها وأريها وجهى ، لعلها تتذكرنى .

وجدتها تضحك بخفة وهى تسألنى : أستاذة ، حضرتك كنتِ ..

قاطعتها ، وهززت رأسى إجاباً على أعتبار أننى أعرف سؤالها ، وماذا تريد أن تقول ، هى تريد أن تقول ” أستاذة حضرتك أنتِ اللى كنت فى المقهى فى معرض الكتاب ” أعفيتها من تكملة سؤالها ، وضحكت بود لا أعرف من أين جاء ، وأنا الغاضبة بشدة من تصرفها السابق بصلف مع صبى المقهى .

ضحكت وقلت لها : نعم ياحبيبتى ، ماذا تريدين ؟

قالت بتردد وبنغمة مختلفة عما سبق : وين عربات أكتوبر أستاذة ؟

ضحكت ، وأشرت لها بيدى إلى الضفة الأخرى من الشارع ، حيث تقف عربات أكتوبر ، وإنها كانت تقف فى المكان الخطأ ، وأشرت لها بأصعبى عن المكان الصحيح ، إنه الرصيف المقابل .

وأنا كنت كذلك قد أنهكنى المشى ، وشعرت بالتعب فقررت أن أعبر الطريق إلى الجهة الأخرى ، وأركب سيارة متجهة إلى وسط البلد ، أو المتجهة إلى البيت .

كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشر ليلاً .

وبدأت حركة السيارات تخف من الميدان ، حيث الليل والبرد والشتاء .

قلت لها ونحن نعبر الطريق معاً ، أنا سوف أركب الميكروباص المتجة نحو ميدان لبنان ، ويمكن أن نركب معاً ، ومن هناك سوف تجدين سيارات كثيرة عند المحور ، متجهة إلى مدينة أكتوبر حيث يوجد موقف خاص للميكروباص هناك .

ركبنا معاً ميكروباص جاء صدفة ووقف أمامنا ، واخذ السائق ينادى بصوت جهورى : أكتوبر ، أكتوبر .

جلسنا معاً على كرسيين متجاورين ، هى جوار النافذة ، وأنا على الحرف ، نظرت نحوى بهدوء شديد وقالت : أستاذة وجهك حلو علىَ .

ضحكت بفتور لا أعرف لماذا ؟ تقصدين وشك حلو كما نقول ، هزت رأسها إجاباً ، ثم وجهة نظرها مرة أخرى نحو النافذة ، وأخذت تتطلع إلى الشارع والهدوء والليل . ثم قالت وهى تبكى : أستاذة أنا مو هذا الشخص الفظ .

لقد تركت أهلى بالشام ، وجاءت منذ يومين حتى أكمل دراستى فى الجامعة بعد عناء طويل ، لقد ضاع منى عامين ولم ألحق بالجامعة ، وأخيراً وافقوا . أستاذة الحرب غيرتنا كتير .

أتجهت نحوها بكل وجهى ، وجدتها تمسح بطرف يدها بعض الدمعات الهاربة من عينيها ، ربما تكون دموع الآسى أو الحزن أو الوحدة أو الندم ، بل أنها دموع الفراق والغربة .

أخذت أربت على كتفها بيد حنونة ، وضحكت ، ضحكة خفيفة : أهلاً وسهلاً بك فى وطنك الثانى مصر .

لا أعرف كيف فعلتها ؟ وألقت برأسها على كتفى ، كانت تشعر بحنين قاتل إلى صدر أم حنون ، وإلى قليل من الحنو والعطف .

مددت يدى الأخرى ، وأخذتها فى حضنى ، وهى تنهنة نهنهات عالية ، ظللت أربت على ظهرها ، وأقبل رأسها حتى هدأت .

وبود شديد قلت لها ” لا أعرف كيف خرجت الكلمات من فمى ، لكنها خرجت من قلبى بحب وود شديد ” : ياحبيبتى ، لا تحزنى ، فقلبى ملىْ بالحزن .

رفعت رأسها قليلاً ، ثم نظرت نحو زجاج النافذة ، ومسحت دموعها وهى تعتذر هذه المرة بلطف وبشدة وصفاء : أسفة أستاذة .

وضعت يدى على فخذها بحرص شديد حتى لا تتهمنى بتهمة من التهم الشائعة ، أو تعتقد بأننى أتحرش بها : حبيبتى أنا عندى بنتين قمرين زيك بالظبط ولا يهمك .

نظرت نحوى هذه المرة بكامل وجهها ، وجدت ملامحها تكسوها بعض الطيبة رغم الحزن ، وقد محيت الصرامة التى كانت واضحة على ملامحها فى المقهى ، وكأن الدموع غسلت وجهها ، فصار أكثر حميمية وقرباً من قلبى .

وعرضت عليها فى أدب جم ، لو كانت تود زيارتى فى أى وقت تشاء ، وكتبت لها أسمى وعنوانى ورقم التليفون فى ورقة صغيرة وأعطيتها لها .

أخذتها منى شاكرة ، ووضعتها داخل شنطتها .

كان الليل قد أنتصف ، وأصبح يتوافد بعض الركاب إلى الميكروباص من محطة مترو رمسيس ، وعاد السائق ينادى مرة أخرى بصوت جهورى : أكتوبر ، أكتوبر .

والناس يتوافدون ليلاً مسرعين نحو الدفء والطمأنية والراحة ، ويصعدون فى صمت شديد .

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون