المظاهرة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

عبد الرحمن أقريش

كان صباحا مختلفا.

الساعة 9.15

ينزل مطر خفيف.

يمشي (المعطي) هائما على وجهه، يتيه في المدينة على غير هدى، يمشي فقط وبدون هدف، يسمع وقع خطواته على أرضية الإسفلت المبللة، يمضغ هواجسه ويغرق في عالمه الداخلي.

كانت تلك طريقته في التخفيف عن نفسه عندما يتملكه الحزن، عندما يشعر بالملل أو الغضب، يقطع المدينة جيئة وذهابا، ثم بين الحين والآخر يتوقف، تستوقفه للحظات بعض معالم المدينة القديمة، يتأمل أسوارها، أبراجها، يتوقف أمام الواجهات التجارية، ينظر إلى السلع المعروضة، يتوقف كثيرا أمام المكتبات، يقرأ عناوين الكتب المعروضة خلف الواجهات الزجاجية.

ثم يمضي.

يتوقف أخيرا غير بعيد عند مدخل الزقاق المشبوه، يستوقفه مشهد غير معهود، أمر ما يحدث هناك، طوق من سيارات الشرطة، موظفون ومسؤولون بأزياء مدنية وأخرى رسمية…

 أمامهم مباشرة يصطف حشد من النساء، نساء غاضبات يحملن صورا وأعلاما وطنية ويرددن لازمة لم يتبينها (المعطي) بشكل واضح، ربما كانت نشيدا وطنيا أو شعارا احتجاجيا.

الكثيرون في ذلك الصباح مروا من هناك، كانوا في طريقهم إلى العمل، عمال مياومون، تجار صغار، موظفون، طلبة، أمهات يرافقن أبناءهن إلى المدارس…

في الجهة الأخرى عند مدخل الحي، تجمهر الفضوليون على شكل جماعات صغيرة، رجال، مراهقون، وشباب.

توقفوا ينظرون متوجسين، يبدو أن أمرا خطيرا قد حدث، أو هو على وشك أن يحدث.

يقترب (المعطي)، يلتفت ويسأل.

–      ما الذي يحدث؟

يجيب الرجل الكهل.

–      إنهن وسخات، والناس يطلبون رحيلهن عن الحي…

ينظر إليه (المعطي) باستغراب، كان واضحا أنه لم يفهم.

يصمت الرجل قليلا، ويشرح.

–       أقصد أنهن عاهرات حاشاك…في الحقيقة، الناس عندهم الحق، الناس هنا نقية، أسر وعائلات محترمة، وهن سيئات ويشوهن سمعة الحي…

ينظر إليه المعطي، ولا يعلق.

ثم يتقدم القايد (بوشعيب) بضع خطوات إلى الأمام، خلفه يرسم (المقدم) والأعوان الآخرون ما يشبه سدا أو متراسا، يرقبون الموقف بصمت، وينتظرون الأوامر.

على بعد خطوات من مسيرة النساء يتوقف القايد، يرفع البوق المعدني في اتجاه الزقاق المشبوه.

–      شوفوا ألعيالات، هذا حي نظيف ومحترم، والناس هنا يحتجون منذ مدة، وحنا الناس ديال المخزن جينا باش نطبقو القانون، وأنا أمنحكن مهلة لبضعة أيام أخرى، وبعدها ينبغي عليكن الرحيل من هذا الحي.

يصمت القائد وينتظر.

تتعالى هتافات النساء من جديد، تعود الشعارات أقوى مما كانت، وفي قلب المظاهرة تتقدمهن سيدة خمسينية، تبدو مندفعة وهائجة، تشير إلى حشد النساء المحتجات، ترفع سبابتها، تحركها يمينا ويسارا في حركة تعني الرفض والغضب، وتنتظر، وعندما يعود الصمت أخيرا، توجه كلامها للقايد.

–      شوف يا سعادة القايد، حنا فقيرات، نعم، ولكن حنا مغربيات، وساكنين هنا منذ السبعينات، قبل ما تزاد نتا، وحنا عارفين القانون، والمخزن يعرفنا، ولكن قبح الله الفقر، وإلا كنتو نتوما رجال المخزن، حنا راه القحاب ديال المخزن، وليكن في علمك نحن أيضا شاركنا في المسيرة الخضراء، واسترجعنا الصحراء وحررنا البلاد…حتى حنا عندنا نفس الحقوق ديال البشر.

ترسم لحظة صمت قصيرة، ثم ترسل رسالتها الأخيرة.

–      منذ زمن طويل ونحن نسمع ونطيع، إنه دورك الآن لتسمعنا، شوف أسي القايد، نحن لن نغادر منازلنا أبدا، لأنه ليس لنا مكان آخر نرحل إليه.

لاذ القايد بالصمت، بدا وكأنه يفكر، بدا وكأنه يستوعب الموقف ويهيئ الرد.

رفع بوقه مرة أخرى، تغيرت نبرة صوته، حاول أن يبدو هادئا، ولكنه أحس بالإهانة، وراح يهدد النساء المحتجات.

–      شوفوا ألعيالات، واسمعوني مزيان، أنا لن أسمح أبدا بالفوضى، هاذ البلاد فيها المخزن والقانون، وماشي بلاد السيبة…

وقف القايد بوشعيب يدير المشكلة في ذهنه، يفكر أن عليه أن يكون حكيما، وأن يتصرف بسرعة قبل أن يستفحل الأمر ويخرج الوضع عن السيطرة، يرفع البوق مرة أخرى، يوجهه صوب الزقاق.

ثم يحدث أمر عجيب.

يعود المطر، ينزل مدرارا، يضرب الأرض والجدران بقوة، يخفت قليلا، تهب الريح من جهة البحر، تنفخ فيه فيضرب بقوة أكبر.

ثم تتعقد الأمور، يحدث ما لم يكن منتظرا.

تنتقل العدوى إلى الشباب والمراهقين، ينخرطون بطريقتهم الخاصة في الاحتجاج، يصفرون، يصفقون، يصيحون ويسخرون…

يحاول القايد بوشعيب مرة أخيرة، ثم يكتشف أنه بوقه معطوب، تنبعث منه كلماته الغاضبة مخنوقة ومتقطعة.

ترتفع زغاريد النساء الغاضبات، تتعالى، تسافر، تتردد، ثم تعود رجعا بعيدا يمزق صمت المدينة، تذوب تهديدات القايد تدريجيا في خضم أصوات آتية من كل الجهات، ثم أخيرا تتلاشى نهائيا. 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون