محمد الغربي عمران
سبق أن قرأت للأديبة المتجددة عزة رشاد، رواية “شجرة اللبخ”، واليوم بين يدي روايتها الأخيرة “بالحبر الطائر”، الصادرة في 2025 عن دار نشر الكتب خان بالمعادي، وقد صاحبتني في رحلتي القاهرة إسكندرية، القاهرة.
عنوان “بالحبر الطائر” لا تُدرك دلالته العميقة إلا بعد قراءة الرواية، إذ أنه يعبر عن مضامينها، وأساليب الحكي فيها، كونها نُسجت بعدة أصوات، التي تروي حيوات شخصيات تعيش في قارات مختلفة، وهو ما عبر عنه العنوان من طيران تلك الحكايات في أجواء متعددة.
الغلاف غلب عليه درجات اللون الأزرق، لوجوه نساء صف كل وجه عكس الأخر، وهو ما يشير إلى مجموعة الـ”4N” نجوى، نسمة، نادين، نعيمة. وهن من يحكن أحداث هذا العمل الشيق. صديقات الدراسة اللواتي فرقتهن الحياة لتغادر كل منهن إلى بلاد مختلفة، عدى نعيمة المواصلة حياتها في مدينتها الإسكندرية، لتعيش آخر أيامها في رعاية قطط، بعد أن هجرها زوجها حسام وابنها ناجي.
وما شوقني في هذه الرواية هو طريقة وأسلوب الكاتبة في بناء روايتها، منتهجة تعدد الحكايات، إلا أن حيرة قد غشتني من الصفحات الأولى، حين عمدت عوة إلى اختفاء نعيمة من شقتها، وهي من بدأت تحكي، لتأتي بابنها “ناجي” ليحكي وقد حضر بعد أن أبلغوه عن اختفاء أمه، حينها بدأ بالبحث عنها، ومن ضمن بحثه بدأ بتفتيش شقتها، بداية من محتوى حاسوبها، وأورقها ودفاترها ودواليبها وأدراجها، ليكتشف ما لم يكن يعرفه عن أمه، رسائل غرامية موجهة لزوجها “والده” من امرأة مجهولة، ملفات في الحاسوب عن مجموعة الـ 4n، وما كانت تكتبه من مذكرات وخواطر ورؤى جعلته أثناء قراءتها يتوقف وكأنها ليست أمه الذي عرفها.
ومن الجانب الفني، أن الكاتبة بنت روايتها من عدة مشاريع روائية، لكل مشروع شخصياته الرئيسة، وأماكن بمجتمعات تلك الشخصيات، بداية من “الإسكندرية” التي بدأت الرواية بنعيمة تحكي التصاقها بها، ثم نجوى ومعاناتها من تخلخل الذاكرة في “نيويورك” ونادين وحياتها قبل وأثناء وجودها في “باريس” ثم نسمة التي ساكنت المثليين في “لندن”.
تلك الشخصيات لها مشاكلها وأمراضها وهمومها التي لا تتشابه فيما بينها. هي حيلة فنية أجادت الكاتبة بتقديمها، وبراعة نسجها، وقدرة على جمع تلك العوالم المختلفة والمدهشة، أن تبدع ليس حكاية واحدة، بل حكايات تعكس ما تعانيه الشخصية المصرية، من خلال معاناة تلك الكائنات في المجتمع الإسكندراني، مجتمعهن الأول، ثم ما تلى ذلك من حيوات، تدخل القارئ في تساؤلات، فإذا كانت المرأة مكبلة وممتهنة دينيا في مجتمعها، فأنها كذلك في مجتمعات أخرى، ليس من المجتمع ذاته التي انتقلت إليه، بل من بني قومها الذي يعيشون هناك، من زوجها إلى جيرانها، وتلك القيم المرتبطة بالدين تلاحقها، وتحاول امتهانها، بدعوة العفة والحرام والحلال، الرواية عالجت قضايا إنسانية للمرأة والرجل في آن، ليتساءل القارئ هل ما نعيشه حياة!؟ وهل نحن أسوياء!؟ ولماذا نقضي أيام حياتنا في عناء مناهج سلفية دون أن نحكم عقولنا!؟ لماذا نجعل الأيام بنا غير سعيدة؟ أم أننا ظاهرة صوتية؟ نئن ونتوجع في الخفاء، وفي الوقت نفسه نصرخ أمام غيرنا بأننا أفضل خلق وأحسن أمة، وننظر للآخر بأنه الباطل ونحن الحق، هو المنحل ونحن الأسوياء. بينما نعيش العذاب بكل مستوياته، ونتشكى بهمس وذلة!
هاهي نماذج عزة تديننا، ذكورا وإناث، ولا تترك لنا مجال للادعاء، فالدكتورة نعيمة تعيش آخر أيامها منبوذة إلا من قططها، لتفكر بإنشاء جمعية لرعاية الفتيات، وكأنها تستعيد معاناة حياتها كأنثى وتريد إنقاذ نفسها من خلال دعم فتيات مجتمعها، لكنها تنتهي على سرير المرض فاقدة لوعيها بعد أن اعتديا عليها.
وهاهي “نجوى” على سرير طبيبة نفسية “مارلين” في نيويورك بعد انهيار ذاكرتها، لتحكي وتحكي، والطبيبة تسمع أنين ماضي أيامهما، كاشفة للقارئ في حيلة سردية ما عاشته وأفراد أسرتها في الإسكندرية من غبن، لأب متسلط يعامل أمه “سندس” كخادمة، ويتزوج بعد وفاة زوجته بأيام، دون مراعاة لمشاعر ابنته. نجوى تحكي عن مجتمع يظهر عكس ما يبطن حتى أقرب الناس، من الأهل والزميلات والزملاء، كانوا دوما يتهمونها بما ليس فيها، ويشيعون بذاءات لم ترتكبها، تحكي حبها لجوزف وحسام، وسفرها أميركا دون أن تستأذن أحد حتى والدها. وتعرفها على عبد الرحمن هناك الذي تكشف له ماضيها، لتجد فيه من كانت تبحث عنه، ويتزوج لتنجب نورا، ثم تسائل نفسها بعد أن ذهبت ابنتها لحياتها وفق النمط الغربي، من استقلال وحرية. الكاتبة جعلت من نجوى الشخصية المضطربة حتى وهي تحكي إذ نجد ذلك التشتت وعد الانتظام في سرد حكايتها بشكل تصاعدي، ما يدلل على شخصية مضطربة، ووضع نفسي الصعب، وكأنها تهوي من شاهق، لندرك بأنها ضحية، لماض وحياة أسرية غير سوية.
نادين بعد انتقالها من اسكندرية إلى الكويت ثم إلى باريس وزواجها وإنجابها ابن، ليتحول ذلك الابن إلى عذاب لها، حين أراد الأب أن يظل ابنه يسير وفق منهجه، وكأن الآب يريد أن تظل أسرته كما هي، أن يظل مهيمنا، على زوجته وعلى ابنه الذي يتهمه بالتمرد والخروج عن الحياة السوية، تعاني نادين وقد أضحت بين زوجها بالفكر التقليدي، وابنها الذي يرفض أن يظل تابع، هي حياة شقاء وعذاب، إذ يظل المسلم يتوق للحرية والحياة الكريمة في بلاده، وفي أول اختبار يجد نفسه ذلك الموبوء بقيم تسلبه إنسانيته، فزوجته في أعماقه حرمة تابعة، وأبناءه يريدهم أن يظلوا تحت رحمته، فيقترح زوج نادين أن تتركه وتعود ببنتيهم إلى مصر، وتترك ابنها يعيش حياته بعد أن تمرد، وكان هدفه المحافظة على بنتيه والهروب بهما قبل أن يبلغا سن الحرية ويسلكان مسلك كل شاب وشابة هناك.
نسمة المصابة بمتلازمة “تيرنر” مختلفة كاختلاف بقية الشخصيات، تغادر اسكندرية إلى لندن بمساعدة خالها المقيم هناك، حكت معاناتها من بدية اضطراب أو عدم حصول الدورة الشهرية، وهناك في لندن أستمرت تعيش عذاب الاختلاف، حالمة أن تحب وتُحَب، ليأتي عامر، رجل باكستاني الجنسية، تظن بأنه الكائن الذي كانت تبحث عنها وتتزوجه، لكنها تكتشف بأنه متزوج وله أولاد في باكستان، تنفصل عنه، وتعاني من الوحدة إلى أن تجد من تظن بأنها ستعيش معه الحب، “برنارد” الذي ينتقل ليسكن معها بعد عقد زواج، إلا أنها تكتشف بأن له صديقا “البرت” الذي أنتقل هو الآخر ليعيش في شقتها مع صديقه، وهنا تبدأ معاناتها، ليس من برنارد بل من سكان ذلك الحي، وجُلهم من المهاجرين الذين كانوا يعيبون عليها مجاورة حياة المثليين، فصديقها برنارد كان واضحا معها من البداية وأنه حين تزوجها أشترط عليها أن لا شيء بينهما، فقط زواج على الورق “من أجل الإقامة”، لأنه في علاقة مع صديقه البرت.
نسمة لم تعاني مِمَن يشاركونها السكن، بل من جيرانها الذين كانوا يعيبون عليها تلك الحياة التي تعيشها، بل ويشتمها بعضهم، ويهدد بالتواصل باخوتها.
في الوقت الذي كانت تعاني من رفض أخوتها إعطائها حقها من الميراث، وهي تتابعهم بالمراسلات.
أجادت الكاتبة في تقديم كل شخصية بأبعادها النفسية، وتكوينها البدني، وتفكير كل منهن، وكذلك اختلاف الطموح والظروف، دون أي لقاء إلا في الماضي، أيام الدراسة في الإسكندرية. ثم محاولة نعيمة خلق قناة تواصل بينهن عبر شبكة التواصل الاجتماعي 4n ، لفكرة نجحت فيها الكاتبة بنسج رواية ممتعة، هي بالحبر الطائر، جهد فني رائع يحسب لعزة رشاد، ويشوقنا أن ننتظر جديدها التالي في اختلاف متجدد.
لم أتحدث هنا إلا عن القليل، وبالذات عن ملمح “جمع أكثر من مشروع روائي في رواية واحدة”، بينما اشتملت على العديد من الأوجه، والزوايا التي يمكن لأي متذوق للأدب التعاطي معها. رواية شيقة وذات مضامين عميقة، وفنون سردية لافتة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي يمني





